وبرا بوالدتي.

2022/03/06

وبرا بوالدتي.
مصطفى الهادي.

كنت اتساءل عن اسباب وصف الله تعالى للسيد المسيح قائلا : (وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا).(1) ماذا حصل حتى ينقل الله تعالى ذلك عن السيد المسيح. وبعد تفكر قلت لماذا لا اذهب إلى الإنجيل وأرى كيف كانت علاقة السيد المسيح بأمه الصديقة مريم العذراء عليهما السلام. لأننا تعودنا من القرآن أنه يصحح ما ورد بحق الانبياء ورسالاتهم ولذلك وصف الله تعالى القرآن بأنه (المهيمن).(وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه).(2)

والمهيمن في اللغة هو المؤتمن على الكتب السماوية التي سبقته الرقيب الصارم والحاكم والأمين على كل كتاب نزل قبله. ولهذا السبب تكفل الله بحفظ القرآن لأنه حمل كل أمانات الكتب السابقة فلابد من الحفاظ عليه من التحريف، فقال تعالى : (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون). (3)

رجعت إلى الإنجيل واستعرضت نصوص علاقة السيد المسيح بأمه عندها علمت سبب وصف القرآن للسيد المسيح بأنه كان (بارا بأمه). وليس كما يصفه الإنجيل بأنه عاقا بأمه ولم يحترمها أمام الناس لا بل يصرخ ويستهزئ بها لأنها طلبت أن تراه وتطمأن عليه وكذلك طلبها منه صناعة الخمر للضيوف كما ينقل لنا يوحنا في إنجيله : (كان عرس في قانا الجليل، وكانت أم يسوع هناك ولما فرغت الخمر، قالت أم يسوع له : ليس لهم خمر. قال لها يسوع : مالي ولك يا امرأة؟ لم تحن ساعتي بعد). (4)

والسبب الثاني ان الإنجيل يصف السيد المسيح بأنه كان متجاهلا أمه لا يسأل عنها ولا يزورها وكانت مريم القديسة تحن إليه وتنشد عنه لا بل تدور في السكك من أجل رؤية وحيدها يسوع كما ينقل لنا الانجيل(وجاء إليه أمه وإخوته، ولم يقدروا أن يصلوا إليه لسبب الجمع. فأخبروه قائلين: أمك وإخوتك واقفون خارجا، يريدون أن يروك). (5) ولكنه رفض الخروج من العرس فأجابهم : (أمي وإخوتي هم الذين يسمعون كلمة الله ويعملون بها).(6) سبحان الله وهل يوجد في الأرض أكثر إيمانا والتزاما واصغاءا لسماع كلمة الله من مريم العذراء؟ وهي التي وصفها القرآن .(يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين).(7)

فكانت مريم ولشدة حشمتها لا تخرج وحدها بل تأخذ ابناء يوسف النجار ابن خالتها وتدور في شوارع المدينة تبحث عن ولدها المسيح لتطمأن عليه وفي يوم وجدته في عرس يقوم بمعجزاته بصناعة الخمر إذا فرغ الخمر عندهم ، فوقفت خارجا وأرسلت من يُناديه لتراه وألحّت مريم من أجل رؤية ابنها فأرسلت عدة اشخاص تطلب رؤية ابنها عيسى المسيح ولكن عيسى استمر بالكلام ولم يُبالي : (وفيما هو يُكلم الجموع إذا أمه وإخوته وقفوا خارجا طالبين أن يُكلموه. فأجاب وقال للقائل : من هي أمي ومن هم أخوتي. ثم مد يده نحو التلاميذ وقال : ها أمي وإخوتي). ( 8 )

وفي المرة الثالثة ، أصرت أمه لكي تراه وتطمأن هل هو حيٌ او هو ميت وعندما ألحت عليه خرج يسوع شبه مغضب وصرخ فيها وسط حشود الناس : (قال لها يسوع: مالي ولك يا امرأة؟ لم تأت ساعتي بعد).(9) ثم وضع المسيح قاعدته المشهورة الغامضة التي احتار في تفسيرها المفسرون : (إن كان أحد يأتي إليّ ولا يبغض أباه وأمه وامرأته وأولاده وإخوته وأخواته، حتى نفسه أيضا، فلا يقدر أن يكون لي تلميذا).(10)

سبحان الله أين صلة الأرحام والرأفة بالمؤمنين والبر بالوالدين ، الم تكن أمهُ مريم مؤمنة لا بل افضل نساء عالمها ومن نساء الجنة. أين عيسى من قول القرآن الذي يأمر بالإحسان إلى الوالدين حتى لو اجبرا أولادهم على الشرك : (وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا).(11) أمن المعروف والإنصاف أن يصرخ بوجه أمه (مالي ولك يا امرأة).وشرع الله وقضائه يأمره بطاعتها (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما).(12)

وهكذا تكشّف سر وصف القرآن للسيد المسيح بأنه (بارا بوالدته) لا كما يصفه الإنجيل بأنه عاق حيث يصف تصرف المسيح بأنه ترك الأثر العميق في قلب أمه الصديقة الطاهرة فيصف مريم بأنها تعاتب ابنها بقولها : (يا بني، لماذا فعلت بنا هكذا .. كنا نطلبك معذبين).(13)

ولعل من أغرب الأمور أن نبيا مسدد بالوحي مثل عيسى يجهل أن نفس كتابه ينهاه عن ظلم أمه او سبها او تجاهلها وهذا ما نقرأه واضحا : (تهابون كل إنسان أمهُ وأباه،كل إنسان سب أباه أو أمه فإنه يقتل دمهُ عليه. ومن ضرب أباهُ أو أمه يُقتلُ قتلا).(14) وفي هذه النصوص تشدد عجيب حيث أجاز الله لكل إنسان أن يقتل أي شخص يراه يسب او يضرب أباه وأمه. وفي نفس الوقت يصف هذا الكتاب السيد المسيح بأنه كان عاقا بأمه جاهلا بما في كتابه.

من كل ذلك نفهم أن القرآن يُريد أن يوصل لنا رسالة جدا مهمة مفادها : أن من يُعذب أمه وأباه ولا يحترمهما ولا يبرهما فإنه من الجبابرة في الدنيا ، والأشقياء في الآخرة.

المصادر:
1- سورة مريم آية : 32.
2- سورة المائدة آية : 48.وقد ذكر أهل السنة رواية عن علي ابن ابي طالب عليه السلام قال في بأن القرآن فيه ذكر من كان قبلنا. وهذا الحديث اخرجه الترمذي (حديث رقم 2906 ج5 ص : 172) ، والدارمي (2/526/3331-الكتاب العربي) ، والبزار (3/71-73/836) ، والبيهقي في شعب الإيمان (2/325-326/1935و1936) عن الحارث قال : مررت في المسجد فإذا الناس يخوضون في الأحاديث فدخلت على علي ابن ابي طالب فقلت : يا أمير المؤمنين ألا ترى أن الناس قد خاضوا في الأحاديث ، قال : وقد فعلوها ، قلت : نعم ، قال أما إني قد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( ألا إنها ستكون فتنة )) ؛ فقلت : ما المخرج منها يا رسول الله قال : (( كتاب الله فيه نبأ ما كان قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم وهو الفصل ليس بالهزل هو الذي لا تزيغ به الأهواء ولا تلتبس به الألسنة ولا يشبع منه العلماء ولا تنقضي عجائبه هو الذي لم تنته الجن إذ سمعته حتى قالوا : إنا سمعنا قرآنا عجباً يهدي إلى الرشد).
3- سورة الحجر آية : 9.
4- إنجيل يوحنا 2 : 1 ـ 4.
5- إنجيل لوقا 8 : 19 ـ 20. وقول الانجيل (وإخوتك) يعني اخوته من يوسف النجار الذي نشأ في بيته.
6- إنجيل لوقا 8 : 21.
7- سورة آل عمران آية : 43.
8- إنجيل متى 12 : 46.
9- إنجيل يوحنا 2 : 4. وقول عيسى لأمه (لم تأت ساعتي بعد). يدل على أن عيسى علم سبب قلق أمه وأنها كانت تخاف عليه من القتل. فكان جوابه مما يؤسف له مثل السخرية بها . هكذا يُصوروه.
10- إنجيل لوقا 2 : 48 ـ 51.
11- سورة لقمان آية : 15.
12- سورة الاسراء آية : 23.
13- إنجيل لوقا 2 : 48.
14- سفر اللاويين 19 : 3 . و : 29 : 9. وسفر الخروج 21 : 15. 
أخترنا لك
أبو حنيفة والخمر.

(ملف)عاشوراء : انتصار الدم على السيف

المكتبة