الحلال والحرام ، الحق والباطل ، المسموح والممنوع . عندما تختفي هذه القوانين من حياة الناس فإن الفوضى سوف تعم وينفلت العقل ويتخبط نتيجة لفقدانه للبوصلة وتصبح كل قرارات العقل وانجازاته لا رابط بينها ولا يقبلها منطق.

اختفاء كلمة الحلال والحرام من الإنجيل أعطى المبرر لرجال الدين ان يخترعوا كل ما من شانه ان يعود بالنفع عليهم. فعندما يتحرر الفساد ويبقى من دون ضابط او رادع ديني او اخلاقي تكون التشريعات بمستوى هابط ظالم مجحف.

من ذلك أن تقوم تشريعات ديانة وأمة على أن البشر لا يعرف الحلال والحرام لأنه بالحقيقة ولد مع الذنب (الخطيئة). ولذلك لم يُورد الإنجيل كلمتي (الحلال والحرام). لأنه لا فائدة من ذكرهما كما يقول البابا شنودة : (لايوجد إنسان بلا خطية، ولو كانت حياته يوما واحدا على الأرض).(1) فحسب رأي بابا الأقباط الأرثوذكس فإن الإنسان ورث الخطية وهو في رحم أمه ويخرج للدنيا وهو خاطئ محمّل بالمعاصي ، ومصدر هذه الخطية أبويه (آدم وحواء) كما يقول بولص : (بإنسان واحد دخلت الخطية إلى العالم).(2)

فما هذه الخطية وماذا تعني؟

في معناها العام فإن الخطية تعني الذنوب : وهو خطأ أخلاقيّ صادر عن إرادة شريرة ينطوي على عصيان لوصايا الله عز وجل.(قالوا يا ابانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين).(3)

والغريب أن الكتاب المقدس يُناقض نفسه فهو يزعم أن الله لا يغفر الخطايا بل ينقلها للأبناء جيل بعد جيل ، ولكنه في مكان آخر يقول : (إله غافر الإثم وصافح عن الذنب لبقية ميراثه. لا يحفظ إلى الأبد غضبه، فإنه يسر بالرأفة. يرحمنا يدوس آثامنا وتُطرح جميع خطاياهم). (4)

أما في القواميس المسيحية يقول: (الخطية هي التعدي على شريعة الله وأحكامه وإهمال ما تفرضه الشريعة وكذلك ارتكاب ما نهت عنه الشريعة أي ما عظم من الذنب ،فالخطية إذا هي عدم الإيمان).(5) فهل يقبل أي عاقل القول بأن الطفل يولد وهو يحمل كل هذه الآثام على ظهره؟

الله تعالى بيّن في كتابه العزيز بأن ذلك خطأ فلا علاقة للأبناء بذنوب الآباء فقال تعالى : (وما هُم بحاملين مِن خطاياهُم من شيءٍ).(6) فكذّب تعالى مزاعمهم تلك  فلا يرث أحد ذنوب أحد، وقد ورد في المأثور (لا يؤخذ الأبناء بذنوب آبائهم). وهذا ما جسّدهُ الله تعالى بقوله : (كل امرئ بما كسب رهين). (7)

الإسلام بريء من هذه الفرية المرفوضة عقليا وبعد البحث تبين أن هذه العقيدة توراتية حاول البعض تمريرها في  الإسلام من خلال اتهام النبي محمد صلوات الله عليه بأنه ورث الخطية أيضا ،ومن اجل ذلك نزل ملكان وشقا صدره وغسلا قلبه من الخطية ومن اجل تأكيد وراثة النبي محمد حسب زعمهم للذنب والذي بسببه غسل الملكان قلبه اوردوا رواية عن وهب بن منبّه النصراني يزعم فيها أن الله تعالى قال : (اذا غضبت لعنت ، ولعنتي تبلغ السابع من الولد).(8) ولمّا كانت هذه الرواية غير منطقية فقد زعموا أنها حديث قدسي لا يبلغ اسراره أحد.

ففي صحيح مسلم وغيره عن أنس بن مالك أن : (رسول الله أتاه جبريل وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه فصرعه، فشق عن قلبه فاستخرج القلب، فاستخرج منه علقة، فقال : هذا حظ الشيطان منك، ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم، ثم لأمه، ثم أعاده إلى مكانه. قال أنس: وقد كنت أرى أثر ذلك المخيط في صدره).(9)

نسبة كبيرة من المفسرين قالوا : (ما روي أن جبريل (ع) أتاه وشق صدره وأخرج قلبه وغسله وأنقاه من المعاصي).(10) قالوا من أين اتت له المعاصي وهو بعد لم يبلغ سن التكليف لربما سنتان ونصف؟ وما هي الحاجة إلى أن يشق جبرئيل صدر النبي لغسله من الذنوب وقد طهره الله عن ذلك (إنما يُريدُ الله ليُذهب عنكمُ الرجسَ أهل البيت ويطهركم تطهيرا).(11)

اصل انتقال ذنوب الآباء إلى الأبناء عقيدة توراتية صرفة ،ولكن تم صياغتها على شكل رواية وهي التي ذكرناها آنفا. ففي التوراة يقول : (أنا الرب إلهك ، افتقد ذنوب الآباء في الأبناء في الجيل الثالث والرابع).(12) وفي قول : ( يجعل ذنب الآباء على  الأبناء إلى الجيل الثالث والرابع).(13)

ومن أجل أن تأخذ رواية شق صدر النبي محمد(ص)  مكانها من الصحة لأن وهب كان نصرانيا ومشهور بوضع الاسرائيليات وضعوا حديثا زعموا فيه أن رسول الله (ص) قال : (بلّغوا عنّي ولو آية، وحدّثوا عن بني إسرائيل ولا حرجَ).(14)فكيف يأمر النبي بالحديث عن بني إسرائيل وقد نهى أمته أن يتشبهوا باليهود والنصارى وأمرهم بعدم الاستماع اليهم او النقل عنهم وقال لهم : (والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية.والذي نفسي بيده، لو أن موسى كان حيا ما وسعه إلا أن يتبعني).(15)

بعد أن  عرفنا دور اليهود في هذه الكذبة المفضوحة وأن لها اصلٌ في توراتهم نأتي لنبحث عن سر تسلل هذه الرواية إلى التراث الاسلامي . وبعد البحث تبين أن اليهود والذين اشركوا تواطئوا فيما بينهم على دس أمثال هذه الخرافة. وقد ذكر تعالى ذلك بقوله : (لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا).(16) فاليهود ادوا دورهم ودسّوا من اسرائيلياتهم ولكن الذين اشركوا قاموا أيضا بدس خرافاتهم لخلق اجواء من الاضطراب حول شخصية الرسول (ص).

فماذا عند المشركين .

حكى لنا صاحب الأغاني: (أن أمية بن أبي الصلت كان نائما ؟ فجاء طائران فوقع أحدهما على باب البيت ، ودخل الاخر فشق عن قلب أمية ثم رده الطائر ،  وفي رواية أخرى : أنه دخل على أخته ، فنام على سرير في ناحية البيت ، قال : فانشق جانب من السقف ، وإذا بطائرين قد وقع أحدهما على صدره ، ووقف الاخر مكانه ، فشق الواقع على صدره ، فأخرج قلبه ، فقال الطائر الواقف للطائر الذي على صدره : أوعى ؟ قال : وعى . قال : أقبل ؟ قال : أبى . قال : فرد قلبه في موضعه).(17) والغريب أن الروايات الإسلامية تذكر أن صدر النبي شقه الملك اربع مرات. والرواية الجاهلية تذكر لنا بأن أمية بن أبي الصلت شُق صدره اربع مرات.

المصادر الشيعية ذكرت الرواية في عدة مواضع ولكن علماء الشيعة تصدوا لها واعتبروها من الخرافات وذلك لأن بعض المفسرين لم يجدوا ما يُفسروا به سورة الانشراح فاستدعوا هذه الخرافات فأساءوا للنبي ووفروا اجواء السخرية منه لدى أعداء الاسلام. وقد قال الطبرسي : (مما لا يصح ظاهره، ولا يمكن تأويله إلا على التعسف البعيد، لأن النبي كان طاهرا مطهرا من كل سوء وعيب، وكيف يطهر القلب وما فيه من الاعتقاد بالماء؟).(18)

حتى الشيطان كان ارحم من جماعة شق الصدر حيث أن كلامه كان واضحا بأن لا تأثير له على العباد المخلصين. كما يقول : (لأغوينهم أجمعين ، إلا عبادك منهم المخلصين). (19) الم يكن محمدا من عباد الله المخلصين حتى يستوجب اخراج العلقة السوداء وحظ الشيطان من صدره إلى عملية جراحية. 

المصادر :

1- كتاب انطلاق الروح، معرفة الخطية ،  البابا شنودة  الثالث.مكتبة الكتب المسيحية، المكتبة القبطية الأرثوذكسية.

2- رسالة بولص إلى رومية 5 : 12.

3- سورة يوسف آية : 97. الخطيئة هي الذنوب كما يُعرّفها الكتاب المقدس (وانتم إذ كنتم أمواتا بالذنوب والخطايا).() رسالة بولس إلى  أفسس 2 : 1.

4- سفر ميخا 7 : 17.

5- انظر قاموس الكتاب المقدس ، دائرة المعارف الكتابية المسيحية شرح كلمة الخَطيَّة.

6- سورة العنكبوت آية : 12.

7- سورة الطور آية : 21.

8- رواه ابن قيم الجوزية في كتابه الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، ص : 68.ورواه أيضا : أحمد بن حنبل في الزهد، وابن أبي شيبة في المصنف، وأبو نعيم في الحلية.

9- صحيح مسلم رقم الحديث: 162. وللمسلمين حديث أعجب من حديث شق الصدر وهو طهارة عيسى المسيح من نغز  الشيطان فقد روى البخاري : ( كل بني آدم يطعن الشيطان في جنبيه بإصبعه حين يولد غير عيسى بن مريم ) : وفي رواية : (ما من بني آدم مولود إلا يمسه الشيطان حين يولد ، فيستهل صارخا من مس الشيطان غير مريم وابنها). فلا عجب إذا زعم النصارى أن دينهم ونبيهم  افضل من ديننا ونبينا ، لأن مسيحهم لم يطعنه الشيطان ولم يحتاج إلى عملية شق صدر وبذلك فهو طاهر مطهّر منزّه.

10- انظر التفسير الكبير للخفر الرازي تفسير سورة الانشراح.

11- سورة الأحزاب آية : 33.ألا يحتج الناس يوم القيامة بأن الله لم يستخرج منهم هذه العلقة ولذلك ليس من حقه حسابهم لأنهم مجبرون على المعاصي مع وجود هذه العلقة.

12- سفر الخروج 20 : 5.

13- سفر العدد 14 : 18.

14- صحيح البخاري، كتاب احاديث الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل، حديث رقم : 3302.

15- ابن حجر العسقلاني ، فتح الباري، الصفحة 13. رقم الحديث: 534. قال تعالى : (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء). سورة المائدة آية : 51.

16- سورة  المائدة آية : 82.

17- الاغاني لأبي الفرج الاصفهاني ج4 ،ص : 132. ذكر امية ابن الصلت ونسبه وخبره. أمية بن الصلت كان يطمع بأن يكون نبيا لأنه قرأ في الكتب أن نبيا سوف يُبعث من العرب، فلما بُعث النبي (ص) حسده وحاربه وقال : إنما كنت أرجو أن أكونه؛فأنزل الله فيه : (واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها).وكان شديد التحريض لقريش على محمد وكان يرثي قتلى بدر من ألمشركين . وهو الذي اخترع (بسمك اللهم) فجعلتها قريش في كتاباتها بدلا من بسم الله الرحمن الرحيم. 

18- من سيرة النبي الأعظم (ص) - السيد جعفر مرتضى - ج ٢ - الصفحة ٨٩.

19- سورة  الحجر آية : 39.