مصطفى الهادي.
في كل زمان توجد سقيفة ، وفي كل زمان هناك من يغتصب حق الله وخلافته ودينه لابل ينتحل شخصيته تعالى (أنا ربكم الأعلى). فمنذ خلافة آدم في الأرض (أني جاعل في الأرض خليفة) .(1) وصولا إلى إبراهيم عليهما السلام قطع الله عهدا بأن(لا ينال عهدي الظالمين). (2) لأن الله تعالى (أعلم حيث يجعل رسالته).(3) وما يختاره الله ورسوله لا يكون للناس فيه خيار (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا). (4)
فكل حكم أو خلافة في الأرض ــ ما عدا خلافته تعالى ــ خلافة ضلالة باطلة مغتصبة من أصحابها الشرعيين الذين نصّبهم الله. وقد أعلن الأنبياء لكل أممهم ما امرهم الله به، ولكن اممهم خالفوا ذلك ونزوا على الخلافة واخترعوا انظمة وقوانين وأعوان ودول ودساتير وبرلمانات ليحكموا بدلا من السماء، فانظروا إلى حال الأرض ومن عليها.
كل الأنبياء فيما توفر لدينا من مصادر أعلنوا أن ملك الله وملكوته تم اغتصابه وأن الله انبأهم أن لا حكومة لغاصب ظالم مهما كبرت قوته وتوسعت حدود مملكته أو كثّر أعوانه .فآدم كان خليفة الله في ارضه ولكن قابيل قتل أخاه عندما علم أن الأمر صائرٌ إليه ، ونزا على حقه في الخلافة وهرب ثم اسس مدينة كبيرة في جنوب العراق اطلق عليها اسم (حنوك) شرق الناصرية كانت اول مدن الشر الغير شرعية في العالم.(5) والتي أسست اساس حكم الظالمين.
وكذلك نرى تأكيد التوراة أيضا بأن بني إسرائيل ارتدوا بعد موسى على وصيه ونصّبوا من بينهم من يحكمهم واغتصبوا حق وصيّه. فيقول : (وعصوا الله العلي، ارتدوا وغدروا مثل آبائهم. انحرفوا كقوس مخطئة وأبوا الاستماع وصلبوا رقابهم وعند تمردهم أقاموا رئيسا).(6) فرفضوا من عيّنهُ الله وأقاموا رئيسا على مقاساتهم.
وكذلك نرى السيد المسيح يؤكد على مبدأ غصب خلافة الله من عهد آدم وحتى زمنه فيقول: (إلى الآن ملكوت السماوات يُغصب. والغاصبون يختطفونه لأن جميع الأنبياء تنبأوا. من له أذنان فليسمع).(7) فباعتراف عيسى فإن جميع الأنبياء انحصر دورهم في التبليغ لحكم الله في الأرض والذي يطلقون عليه : (ملكوت الله). والذي أراه الله تعالى لإبراهيم نبيه ( وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض ). (8) حيث أراه الله حدود حكم وصلاحية خليفته في الأرض والذي يمتد من الأرض إلى السماوات ، ومن هنا كان لابد لخليفة الله من سلطة تكوينية يمتد بها سلطانه على كل الأرض وكذلك السماوات. والظالمون لا يملكون هذه الميزة.
والملكوت كما نعلم المبالغة في معنى المُلك، وقد فهمت العرب أن المقصود من (الملكوت) هو حكم الله في الأرض فتقول في الامثال (له مَلَكوت اليمنِ والعراق). (9)
بعد هذه المقدمة الصغيرة نقول: الملكوت في معناه الواسع هو العز والسلطان والعظمة، وهو مُلك الله خاصة: (سبحان الذي بيده ملكوت كل شيء). (10) ويشمل سلطان الله تعالى على خلقه وينتهي بسلطان الاب على أسرته، لا بل سلطان الانسان على نفسه ضمن حدود حيث يستطيع ان يأمرها وينهاها. ومن هنا استمد الملوك بعض القابهم فقيل لهم (السلطان وسلاطين) وكذلك من كلمة ملكوت استمدوا (ملك وملوك).وأما الملكوت الأرضي الذي هو مدار بحثنا فهو وعد الله لخلقه بأن تكون الحاكمية في نهاية المطاف لله وحده ويكون ذلك على يد من يختارهم الله لنيل ملكوته.
ومثال على ذلك فإن الملكوت في التوراة هو وعدٌ قطعه الله تعالى لنبي الله دواد (ع) بأن يعطي لشخص من نسله الملك الأبدي فقال تعالى : (ويكون متى كملت أيامك لتذهب مع آبائك، اني أقيم بعدك نسلك واثبت مملكته. هو يبني لي بيتا وأنا أثبت كرسيه إلى الأبد وأقيمه في بيتي وملكوتي إلى الأبد. يا لله فتكلمت عن بيت عبدك إلى زمان طويل). (11)
اضافة إلى ذلك فإن هذه النبوءة متعلقة بشخص يُقيم بيت الله (هو يبني لي بيتا) ومن هنا فإن بعض اليهود يستميتون من اجل اقامة (الهيكل) لكي يشملهم هذا النص وهم يعيشون احلام الملك الأبدية.بينما حدد الله بأن هذا الملك سوف يكون في (نسل داود) وليس في شعبه او امته، وأنه سيأتي بعد زمن طويل.
وأما في المسيحية فقد كانت البشارة اوضح منها في اليهودية ، فلا لغة رمزية ولا تشبيهات، بل دخلت في صلب الموضوع وبكل وضوح فقالت بأن ملكوت الله حقيقة مستقبلية فبعض اقوال السيد المسيح تتكلم عن قدوم الملكوت في الزمن المستقبلي. وهذا البعد المستقبلي خاص بزماننا ثم يأتي المنتهى، ومن هنا نرى المسيح يأمر أتباعه بأن يقولوا في كل صلاة: (ليأت ملكوتك).(12)
وهذا نفسه نقوله نحن المسلمون في الكثير من الأدعية عقيب الصلاة او فيها فنطلب التعجيل بظهوره ونُردد كلمات العجل العجل مرات ومرات.بينما المسيحييون يقولون : فليأت ملكوتك ، ونحن نقول : اللهم عجل بظهور المهدي.
وتخبرنا بعض عبارات الانجيل ان هناك رجعة اكيدة لحواريين السيد المسيح الإثنا عشر في آخر الزمان، وكذلك اسباط موسى الإثنا عشر، والنصوص تأكد على ذلك ففي النص الأول يؤكد المسيح بأن من الحضور الذين رأوا ارتفاعه للسماء سوف يشهدون قدومه. وأنهم لا يموتون بل يبقون في حالة ينهضون فيها حال سماعهم للنداء فيقول في متى : (الحق أقول لكم : إن من القيامِ ههنا قوما لا يذوقون الموت حتى يروا ابن الإنسان آتيا في ملكوته). (13)
وكذلك بشرهم عيسى بأنهم سوف يكونوا معه وأن معهم اسباط موسى الإثنا عشر فقال لهم: ( أنتم الذين ثبتوا معي في تجاربي جعل لي أبي ملكوتا، وتجلسوا على كرسي تُدينون أسباط إسرائيل الإثني عشر).(14) وعندما استفسروا منه عن معنى ذلك قال لهم : (تأتي ساعة فيها يسمعُ جميعُ الذين في القبور صوته، فيخرج الذين فعلوا الصالحات إلى قيامة الحياة).(15) ونفهم من قول عيسى بأنه ليس هو المقصود بهذا الخطاب بل شخص آخر له مكانة كبيرة بحيث ينهض كل من في القبور حال سماع صوته . وهؤلاء الذين يخرجون من القبور كانوا في حياتهم يتمنون الظهور مع المهدي عليه السلام فماتوا وهم على هذه الأمنية.(16)
ولا ادري هل هذا يقودنا إلى القول بأن الائمة الاثنا عشر الذي بشّر بهم النبي محمد (ص) أيضا سيكونوا حاضرين في ذلك اليوم . خصوصا وأن روايات الرجعة موجودة بقوة في مصادر الحديث والتاريخ الاسلامي.
ونرى هناك اجماع لدى كل الديانات بأن ملكوت الله تعالى على الأبواب وانه آت لا محال وانه قريب جدا لا بل اقترب كما يذكر متى بأن يوحنا كان يُبشر بذلك فيقول : (توبوا لأنه اقترب ملكوت السماوات). (17)
وبعد بعد رحيل يوحنا بيوم واحد تبنى السيد المسيح قوله وقام مبشرا باقتراب حكم الملكوت : (من ذلك الزمان ابتدأ يسوع يقول : توبوا لأنه قد اقترب ملكوت السماوات). (18)
ثم أمر السيد المسيح تلاميذه الحواريون ان يذهبوا في الأرض ويُبلغوا الناس باقتراب هذا اليوم فقال : (وفيما انتم ذاهبون اكرزوا قائلين : إنه قد اقترب ملكوت السماوات). (19)
ثم حذّر السيد المسيح اتباعه بأن كل من لم يهتم بهذا اليوم ويستعد له فيُنكره او لم يفهمه فإن الشرير (الدجال) له بالمرصاد كما قال في متى : (كل من يسمع كلمة الملكوت ولا يفهم فيأتي الشرير ويخطف ما قد زرع في قلبه). (20) وفي مفهوم المسيحية فإن أحد أشهر أسماء الدجال هو (الشرير). لأن العالم كله سوف يكون تحت سلطة الدجال (الشرير) كما نقرأ : (نعلم أننا نحن من الله والعالم كلهُ قد وضع في الشرير).(21) ولذلك أعطى المسيح لأتباعه دعاء خاص للنجاة من الشرير فقال لهم قولوا : (واغفر لنا خطايانا ولا تدخلنا في تجربة ولكن نجنا من الشرير).
والغريب أن كل نبي يأتي يُبشر أمته باقتراب نهاية الزمان واقتراب دولة العدل الإلهي كما نرى في قول السيد المسيح لأتباعه : (قد كمل الزمان واقترب ملكوت الله). (22) وهذا القول مشابه لما في القرآن من قوله تعالى واصفا حال الناس العالمين بذلك اليوم : (يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت في السماوات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة).(23)
ثم يُبين السيد المسيح أهداف رسالته والأسباب التي بعثه الله من اجلها فيقول في لوقا : (فقال لهم : إنه ينبغي لي أن أبشر المدن الأخرى أيضا بملكوت الله، لأني لهذا قد أرسلت). (24)
ثم جاء الإسلام وعمّق من مفاهيم (حكم الملكوت) وأعطاها بعدها الذي تستحقه وبيَن رجالاتها وعلاماتها وشخوصها وأعداء هذا اليوم وهذه الروايات موجودة فيما يُعرف بكتب الملاحم والفتن او ما حفلت به كتب الحديث و السير والأخبار لدى كل المسلمين.
وعلى ارض الواقع نشهد اليوم تحقق الكثير من هذه العلامات والمقدمات التي ذكرها الانبياء وهي مما لاحصر لها وأهمها هي اصطفاف العالم إلى معسكرين . معسكر الظالمين ومعسكر المظلومين فنرى حتى المسلمين يركضون وراء الشيطان الأكبر ويعقدون الاحلاف مع الصهاينة بينما يفرز الطرف الآخر محور المقاومة.
لقد وضع الله مقدمات ملكوته بيد المهدي منذ الأزل وفي بدايات المخطط الكوني لبدء الخلق وهو محمي بإرادة الله تعالى وقد ذكرت الكتب القديمة ذلك وذكرت طرفا من اخباره وغيبته وانجاه الله من شرور كثيرة كما يقول في سفر الحكمة منذ اكثر من ثلاث آلاف سنة حيث يتكلم هذا النص عن حكمة الله في انقاذ (الصدّيق) من المهالك : (وهي التي قادت الصدّيق الهارب من غضب أخيه في سبُل مستقيمة، وأرته ملكوت الله ، واتته علم القديسين، وانتجحته في أتعابه، وأكثرت ثمرات أعماله. وعند طماعة المستطيلين عليه انتصبتَ لمعونته وأعنتهُ، ووقته من أعدائه وحمته من الكامنين له).(25)
وكذلك يؤكد الكتاب المقدس بأن الله تعالى أعطى سلطته لإنسان سوف يحكم بالعدل وأن دولته لن تزول كما نقرأ في دانيال حيث يقول : (كنت أرى وإذا مع سحب السماء مثل ابن إنسان جاء إلى الله فقربوه قدامه، فأعطى سلطانا ومجدا وملكوتا لتتعبد له كل الشعوب والأمم والألسنة. سلطانه أبدي لن يزول وملكوته لا ينقرض وجميع السلاطين إياه يعبدون ويُطيعون).(26) وهذا مصداق قوله تعالى : (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون). وسيتحقق ذلك في دولة الملكوت المهدوية حيث تكون الحاكمية لله ويُقضى على كل الحكومات الزائفة.
المصادر.
1- سورة البقرة آية : 30.
2- سورة البقرة آية : 124.
3- سورة الانعام آية : 124.
4- سورة الأحزاب آية : 36.
5- سفر التكوين 4 : 8 ـ 17.(أن قايين قام على هابيل أخيه فقتله. فخرج قايين وسكن في أرض نود شرقي عدن وكان يبني مدينة دعا اسمها حنوك).
6- سفر المزامير 78: 57.و : نحمياء 9: 17.
7- إنجيل يوحنا 11 : 12 ـ15.
8- سورة الأنعام آية : 75.
9- تفسير الطبري ، تفسير سورة الانعام.
10- سورة يس آية : 83.
11- سفر أخبار الأيام الأول 17: 12.في الروايات الإسلامية فإن من يحكم في آخر الزمان بحكم داود هو المهدي فعن حريز قال: سمعت أبا عبدالله (ع) يقول: (لن تذهب الدنيا حتى يخرج رجل منا أهل البيت يحكم بحكم داود وآل داود لا يسأل الناس بينة).وعن الحسن بن طريف قال: كتبت إلى أبي محمد العسكري (ع) أسأله عن القائم إذا قام بم يقضي بين الناس فجاء الجواب: (سألت عن الامام فإذا قام يقضي بين الناس بعلمه كقضاء داود (ع) لا يسأل البينة). الدعوات (الراوندي): ص 209 ـ وعنه في البحار: ج 52، ص 320.
12- وهي المعروفة بصلاة الابانا في متى إنجيل متى 6: 10 : (فصلوا انتم هكذا: أبانا الذي في السماوات، ليتقدس اسمك ليأت ملكوتك).
13- إنجيل متى 16: 28.وفي إنجيل مرقص يؤكد على إتيان ملكوت الله كما في إنجيل مرقس 9: 1 (وقال لهم : الحق أقول لكم: إن من القيام ههنا قوما لا يذوقون الموت حتى يروا ملكوت الله قد أتى بقوة).
14- إنجيل لوقا 22: 28.
15- إنجيل يوحنا 5: 28. وقد ضرب الله لنا مثلا بأصحاب الكهف. وكذلك الذي أحياه الله بعد موته بمائة عام حيث جمع اجزائه وذراته وأعاد الحياة فيه مرة أخرى.وكأنه تعالى يُريد ان يخبرنا بأن من في القبور هكذا سينهضون اذا سمعوا النداء (صوته).
16- وقد ورد في بحار الأنوار العلامة المجلسي ج53 ص : 96. في الدعاء المأثور : (اللهم إن حال بيني وبينه الموت الذي جعلته على عبادك حتما، فأخرجني من قبري، مؤتزرا كفني، شاهرا سيفي، مجردا قناتي، ملبيا دعوة الداعي). وهو مشابه لقول عيسى عليه السلام ك (تأتي ساعة فيها يسمعُ جميعُ الذين في القبور صوته).
17- إنجيل متى 3 : 2.
18- إنجيل متى 4: 17.
19- إنجيل متى 10: 7.
20- إنجيل متى 21: 43.
21- رسالة يوحنا الرسول الأولى 5: 19.
22- إنجيل مرقس 1: 15.
23- سورة الاعراف آية : 187.وفي إنجيل لوقا 21: 34 (فاحترزوا لأنفسكم فيصادفكم ذلك اليوم بغتة).وعن هذا اليوم الذي يأتي بغتة يقول القرآن : (فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة). سورة محمد آية : 18.
24- إنجيل لوقا 4: 43.
25- سفر الحكمة 10 : 10.
26- سفر دانيال 7 : 14 ـ 27.