اين ذهبت مريم العذراء بعد رحيل ابنها؟ مصطفى الهادي

2019/09/29

ما هو مصير مريم العذراء بعد رحيل ابنها؟
مصطفى الهادي.

لربما كان التعتيم على ذكر مريم العذراء متعمدا وخصوصا اليهود والرومان الذين كان يجمعهم كره مشترك لشخصية السيد المسيح الذي كان منافسا قويا وعامل خطير قد يؤدي نجاحه في تبليغ دعوته إلى اكتساح ديانة الرومان واليهود على السواء، وهذا ما لا يرضاه خط الكهنة المنتفعين. لذلك نرى أن شخصية السيد المسيح في الأناجيل الحالية شخصية هزيلة جدا، مع تستر كامل على سيرة حياة امه العذراء مريم ما عدا النزر اليسير الذي تفرق على أربع اناجيل والذي لو جمعناه لما شكّل صفحة واحدة.

فقد سكتت الاناجيل والتاريخ والسيرة والحديث عن هذه المرأة الصديقة طيلة اكثر من ثلاثين عاما فقد انقطع ذكرها بعد ولادتها للمسيح لتظهر لنا اخبارها بعد بعثته وهو في عمر الثلاثين عاما كما نقرأ : (ولما ابتدأ يسوع كان له نحو ثلاثين سنة أليس هذا هو ابن مريم).(1) والغريب أن امرأة مجنونة تصدرت الكتب المقدسة لتحل محل السيدة مريم العذراء ، وهي مريم المجدلية هذه المرأة التي كان بها سبعة شياطين فشفاها السيد المسيح بمعجزة حالها حال الكثير من المرضى كما نقرأ : (مريم التي تدعى المجدلية التي خرج منها سبعة شياطين).(2) هذه المرأة التي لا يُعرف لها اصل ولا فصل والتي كانت هائمة بين المقابر ارتفع ذكرها حتى نسبوا للسيد المسيح أنه تزوج بها كما نقرأ في آخر كتاب صدر وهو كتاب دان براون (شفرة دافنشي).

ثم وبعد رحيل السيد المسيح اختفى ذكر مريم العذراء مرة أخرى ولاذ الجميع بصمت مُطبق وبعد اربعمائة سنة اصدرت الكنيسة العظمى قرارا اطلقوا فيه على مريم لقب (أم الله) وزعموا أنها رُفعت بالجسد إلى السماء لتجلس عن يمين ابنها، طبعا هذه تخرصات لا دليل يعضدها في الكتاب المقدس.

البحث عن مصير هذه الصديقة الطاهرة مضني فكل ما كُتب هو من أقوال رجال الدين المسيحي الغارقين بالوثنية إلى اذقانهم ، فلم يبق لنا إلا الكتب المقدسة الحالية نجوس فيه لعلنا نعثر على اي خبر يدلنا على مصير هذه السيدة الجليلة وهذا ما حصلنا عليه.
عندما شعر السيد المسيح بدنوا وقت رحيله اوصى بأمور كثيرة منها:

أولا : امر تلاميذه (حوارييه) بشراء السيوف تحسبا لكل طارئ كما نرى تشدده على هذا المطلب : (فقال لهم: الآن من ليس له سيف فليبع ثوبه ويشتر سيفا). (3) ثم أمرهم أن يسيحوا في الأرض بعيدا لتبليغ رسالته ويذهبوا إلى الأمم ولكن في أي مكان يطردوهم عليهم ان يهربوا كما نقرأ : (فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم ومتى طردوكم في هذه المدينة فاهربوا إلى الأخرى).(4)

الأمر الثاني : بعد فراغه من وصاياه لتلاميذه الحواريين اتجه إلى رعاية أمه الصديقة الطاهرة والاهتمام بسلامتها ، وهناك احتمالين لا ثالث لهما كما تخبرنا الأناجيل.
الاحتمال الأول: أن مريم العذراء كانت تلجأ عند شعورها بالخطر إلى بيت نبي الله زكريا زوج خالتها (اليصابات) الذي كان يعيش بين الجبال في قرية يهوذا وهي قرية منيعة محصنة جدا، وهذا ما فعلته سابقا عندما بدأ حملها المعجز يظهر وخشيت من قساوة قومها اليهود أن يقتلوها رجما لجأت عند خالتها ثلاث شهور إلى أن اكتمل نمو الجنين ثم خرجت متخفية مع العبد الصالح يوسف النجار لتلد في فندق بعيدا عن الأعين .يقول لوقا : (فقامت مريم وذهبت بسرعة إلى الجبال إلى مدينة يهوذا، ودخلت بيت زكريا وسلمت على أليصابات فمكثت مريم عندها نحو ثلاثة أشهر).(5) وسبب لجوئها إلى بيت زكريا هو أنه كان كفيلها وراعيها وحاميها في الهيكل ولكونه متزوجا من خالتها (اليصابات) التي كانت بمثابة أمها. وهكذا نعتقد انه بعد رحيل ابنها لجأت أيضا إلى هذا المكان المنزوي بين الجبال.وعلى هذا الاساس فلربما يكون قبرها في مدينة يهوذا.

الاحتمال الثاني : وهو الأقوى ، أن السيد المسيح اوصى اعز تلاميذه حواريه الذي كان يحبه (6) اوصاه بأمه وسلمها له وبعد رحيل السيد المسيح بقيت مريم اولا في أورشليم كما يقول سفر الأعمال: (رجعوا إلى أورشليم من جبل الزيتون، بطرس ويعقوب ويوحنا وأندراوس وفيلبس وتوما وبرثولماوس ومتى ويعقوب بن حلفى وسمعان الغيور ويهوذا أخو يعقوب.ومريم أم يسوع). (7)

ثم بعد ذلك اخذها الحواري واختفى عن الانظار وهذا ما نراه يلوح في نص يوحنا : (وكانت واقفة عند صليب يسوع، أمه، فلما رأى يسوع أمه، والتلميذ الذي كان يحبه واقفا، قال لأمه: يا امرأة، هوذا ابنك. ثم قال للتلميذ: هوذا أمك. ومن تلك الساعة أخذها التلميذ إلى خاصته. بعد هذا رأى يسوع أن كل شيء قد كمل).(8) أي انه اطمأن على مصير حوارييه واطمأن كذلك على مصير أمه التي اصبحت بأيد امينة عند احب حوارييه إليه. وهنا ينشأ عندنا احتمال أن هذا الحواري اخذها وذهب إلى جنوب تركيا إلى مدينة أفسس حيث قبرها كما سنقرأ.

هل ماتت مريم وأين دُفنت؟
بعيدا عن الأناجيل التي لا تذكر اي خبر عن وفاتها ولو لجأنا إلى اقوال آباء الكنيسة لرأيناهم يأتون بالأعاجيب التي لا أساس لها ولا اصل في الإنجيل .أن الكنائس المسيحية لا تقول بوفاة مريم ، بل تؤمن بأن (أم الله) ارتفعت بالروح والجسد إلى السماء لتجلس على يمين ابنها. وتبرر الكنيسة عقيدتها هذه بقولها : (الإنسان يموت بسبب الخطيئة المتوارثة منذ آدم، وبما أن العذراء لم ترث هذه الخطيئة الأصلية فهي بالتالي لا داعي لموتها ،فعندما توفيت في بستان الزيتون، وشهد الحدث من بقي حيًا من التلاميذ الاثني عشر، بُعث جسدها بعد ثلاث أيام من جديد حيًا وانتقلت نفسها وجسدها إلى السماء ولكن القديس كيرلس الأورشليمي يُخالفهم فيقول : (فإنها قد نقلت من بستان الزيتون إلى القدس ودفنت هناك). (9)

ومن المعلوم أنّ عقيدة انتقال مريم بالجسد لم يقُم على أساس مجمع كنسي يجتمع فيه علماء المسيحية ويُقررون كما هو معروف ، بل إنّ البابا (بيوس الثّاني عشر) رأس الكنيسة الكاثوليكيّة، أحيا من جديد سنة (1950) عقيدة انتقال السيّدة العذراء إلى السماء وأن ذلك تمّ بالرّوح والجسد. ولكن الكنيسة الأرثوذكسيّة تروي رواية أخرى فتقول : (إنّ العذراء عندما وافتها المنيّة كانت في مدينة القدس وقد كان شاهداً على وفاتها بعض من تلاميذ السيّد المسيح، وكانوا ما يزالون هم على قيد الحياة، ويقولون بأنّ جسد العذراء مريم قد بُعِثَت فيه الرّوح مجدداً، وذلك بعد ثلاثة أيام من وفاتها، لتنتقل بعد ذلك بروحها وجسدها وبشكلٍ مباشر إلى السّماء).(10)

وبما أن هذه العقيدة الطارئة (جلوس مريم على كرسي على يمين ابنها في السماء) تحتاج إلى دليل ولما كانت الأناجيل تخلوا من ذلك اتجهوا إلى التوراة وبحثوا فيها ثم قالوا بأن هناك نبوءة في سفر الملوك الأول يُشير إلى صعود مريم بالجسد وجلوسها على يمين ابنها في السماء فيقول النص : (ووضع كرسيًا لأم الملك فجلست عن يمينه).(11)
وهذا الكلام بعيد كل البعد عن الواقع لأن هذا النص يتعلق بنبي الله سُليمان وامه بششبع كما يقول : (فدخلت بثشبع إلى الملك سليمان فقام الملك للقائها ووضع كرسيا لأم الملك فجلست عن يمينه).(12) ولا نعلم من أين جاء البابا (بيوس الثاني عشر) ببدعتهِ هذه التي لم يؤيدها حتى مفسري المسيحية الذين لم يذكروا أن هذا النص يتعلق بمريم العذراء بل يتعلق بأم نبي الله سليمان فقد اتفقوا على قول واحد فقالوا: (اتَّسم سليمان بروح التواضع، فعند دخول والدته قام من على كرسيه وذهب إليها ولم ينتظر حتى تصل إليه، وانحنى أمامها، وسألها أن تجلس عن يمينه، علامة تكريمه لها). فلم يقل احدٌ منهم ان النص يتعلق بمريم العذراء فمن اين جاء البابا بذلك التفسير الغريب الذي بنت عليه المسيحية عقيدتها الفاسدة من أن مريم ام الله ارتفعت بالجسد والروح وجلست على يمينه في السماء.(13)

(وقالوا آمنا به وأنى لهم التناوش من مكان بعيد).(14)

المصادر:
1- إنجيل لوقا 3: 23.و إنجيل مرقس 6: 3.
2- إنجيل لوقا 8: 2.
3- إنجيل لوقا 22: 36.
4- إنجيل متى 28: 19.
5- إنجيل لوقا 1: 39 ــ 56.
6- الغريب انه جرى تعتيم على إسم الحواري الذي كان المسيح يحبه فقد ورد ذكره بهذه الصيغة في أربع اناجيل (التلميذ الذي كان يسوع يحبه). فلم يذكروا له اسما. وكأن هذا التلميذ تم اعداده ليقوم بمهمة حماية أم المسيح فأبهموا اسمه. انظر: إنجيل يوحنا 21: 20. و: إنجيل يوحنا 20: 2. و : إنجيل يوحنا 21: 7.
7- سفر أعمال الرسل في 1 : 12 ــ 14.
8- إنجيل يوحنا 19: 25 .

9- انظر تأملات في انتقال العذراء إلى السماء، كنيسة الإسكندرية الكاثوليكي.وكذلك الكنائس الأرثوذكسية الشرقية والأرثوذكسية المشرقية. وكذلك: نياحة العذراء وإصعاد جسدها الطاهر، الأنبا مكاريوس.

10- اما آراء المسيحيين حول قبر مريم العذراء فقد اختلفوا اختلافا كبيرا ، قسمٌ منهم يقول أنها مدفونة في القدس في وادي قدرون، في بستان جشيماني حيث يقول مجموعة من كبار علماء المسيحية ان مريم العذراء قضت آخر أيامها في القدس. وممن قال بذلك الاسقف ديونيسيوس الأريوباغي حيث كتب بذلك إلى الأسقف تيتوس سنة (363) وكذلك الاسقف جوانيس ليبر جي دورميتيون في اطروحته (تي ترتيتو) في القرن الرابع حيث وضع هؤلاء قبرها في القدس في البستان المذكور.
ولكن هناك عدد كبير أيضا من البطارقة والكرادلة يشهدون بأن قبر مريم في افسس تركيا ففي رسالة أرسلها أعضاء مجلس أفسس سنة (431) إلى رجال الدين في قسطنطينية كتبوا فيها أن نسطورا وصل إلى مدينة أفسس حيث زار قبر يوحنا اللاهوتي ومريم العذراء. ويذهب إلى هذا الرأي ايضا الراهبة كاترين إميريش حيث تقول : ماتت العذراء المقدسة ودُفنت إلى جنوب مدينة أفسس.
وهناك رأي آخر يقول أن قبر مريم العذراء في الشام في احد ضواحي لبنان في وادي الأرز وقد بُنيت فوقه كنيسة في القرن الخامس الميلادي. انظر: سكوت أنتوني هيبس. الموسوعه الكاثوليكيه ، المجلد الرابع عشر. نشرت في عام 1912. نيويورك: شركة روبرت أبليتون. تحت اشراف كاردينال فارلي ، رئيس أساقفة نيويورك.
11- سفر الملوك الأول 2 : 19.
12- نفس المصدر.
13- انظر تفسير الكتاب المقدس - العهد القديم - القمص تادرس يعقوب سلسلة من تفسير وتأملات الآباء الأولين تفسير سفر الملوك الأول.
14- سورة سبأ آية : 52.
أخترنا لك
سلسلة عورات الإنجيل والتوراة. شمشون اليهودي ، يقتل ألف رجل بفك حمار.

(ملف)عاشوراء : انتصار الدم على السيف

المكتبة