مصطفى
الهادي.
(أنا دعوة أبي
إبراهيم، وبشرى عيسى).(1)
لمّا لم يستطيعوا سب
رسول الله (ص) بسبب تفضيله عليا على باقي الصحابة.
ونظرا لمكانة رسول الله عند ربه وفي قلوب المسلمين،
عمدوا إلى شتم علي ابن ابي طالب (ع) وهم يقصدون بذلك
رسول الله (ص) فصبّوا جام غضبهم على شخصية علي (ع)
للنيل من رسول الله.(2) وهكذا لمّا لم يستطيعوا النيل
من نبي الله إبراهيم (ع) بسبب تفضيله إسماعيل على
إسحاق ، لأنه شيخ الأنبياء وزعمهم أنهُ ابٌ لهم.(3)
عمدوا إلى شتم ولده إسماعيل، فقد لخّصوا عقيدة بغضهم
لإسماعيل (ع) وأبناءه بقولهم : (إن التوراة المقدسة
تخبرنا أن إسماعيل كان وحشا بشريا. والمعروف أن
توراتنا أبدية سرمدية. وحين تنص التوراة على أن
إسماعيل كان وحشا بشريا، فإن إسماعيل (كل عربي) سيبقى
إلى الأبد وحشا بشريا. ولو اجتمعت كل الأمم المتحضرة
وأرادت أن تربى إسماعيل وتجعله متحضرا فإنها لن تنجح
في ذلك. إنهم لن يستطيعوا أن ينتزعوا منه وحشيته مهما
كانت وسائلهم وبراعتهم؛ ذلك أن إسماعيل غير مؤهل لأن
يكون إنسانا متحضرا. ولو خاض إسماعيل غمار الثقافة
وصار محاميا أو ما شابه، فإنه لن يكون إلا محاميا
متوحشا. وإذا درس واجتهد في الدراسة ليكون أستاذا
جامعيا، فإنه سيكون أستاذا جامعيا متوحشا. هذا يعنى
أن وحشية إسماعيل (كل عربي) لا تحول عنه ولا تزول
وستبقى ملازمة له إلى الأبد).(4)
بالرغم من إبعادهم له
،وحذف اسمه من الأناجيل، إلا أن إسماعيل بن إبراهيم
شخصية مذكورة في كل من التوراة والقرآن. فقد ورد في
التوراة ذكر إسماعيل (52) مرة. وورد في القرآن اسم
إسماعيل (12) مرة في سور مختلفة.(5) وفي الأحاديث
النبوية مئات المرات. ولم يرد اسم اسماعيل في الإنجيل
على الاطلاق فقد اختفى هذا الاسم بصورة مريبة. ولكن
بولص في إنجيله اعتبر إسحاق هو الولد الوحيد لإبراهيم
أي اعتبره الذبيح فأنكر وجود ولد آخر لإبراهيم،
تماشيا مع التوراة التي تعتبر اسحاق هو البكر في
مخالفة فاضحة لنصوص التوراة.(6)
المسلمون يؤمنون
بنبوة إسماعيل، لورود ذلك في القرآن : (واذكر في
الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا
نبيا).(7) بينما يعتقد اليهود والمسيحيون أنه شخصية
تاريخية ورد ذكرها في العهد القديم. وهو أبو العرب
الاسماعيليين. وأن اسحاق هو النبي وأن نسله هو
الموعود بالكثرة والحكم (بالإيمان قدم إبراهيم إسحاق
وحيده قيل لهُ: إنهُ بإسحاق يُدعى لك نسل).( 8 ) لا
بل أن بولس هذا جعل الذبيح اسحاق وليس إسماعيل كما
نقرأ (تبرر إبراهيم، إذ قدم إسحاق ابنه على
المذبح).(9) بولس الملعون لم يكتف بجعل إسحاق وحيد
إبراهيم بل اعتبر إسماعيل عبد لأنهُ ابن الجارية هاجر
ثم قام بولس بتوجيه الاهانات إلى اسماعيل وامه لا بل
لم يجرأ أن يذكر حتى اسمه، كما نقرأ : (مكتوب أنهُ
كان لإبراهيم ابنان، واحد من الجارية والآخر من
الحرة. الولد للعبودية، الذي هو ابن هاجر فإنها
مستعبدة مع بنيها. فماذا يقول الكتاب؟ يقول الكتاب :
اطرد الجارية وابنها، لأنهُ لا يرث ابن الجارية مع
ابن الحرة. إذا ايها الإخوة لسنا أولاد جارية بل
أولاد الحرة).(10) بولص هنا متأثر جدا بما في التوراة
فكرر قول المتجبرة سارة الذي قالته لإبراهيم : (فقالت
سارة لإبراهيم : اطرد هذه الجارية وابنها، لأن ابن
هذه الجارية لا يرث مع ابني إسحاق).(11) فهذا هو
السبب الحقيقي الذي من أجله حذف اليهود اسم إسماعيل
من سجل أنبياء بني إسرائيل. فاليهود لا يعترفون
بأبناء الجواري، فالمولود من الجارية في نظرهم عبد ،
وأنهم يُفضلّون نساء بني إسرائيل على أي صنف آخر من
النساء ، ولذلك نسبوا كل الفضائل لسارة لأنها ابنة
هاران، وجدة النبي يعقوب الذي انحدرت من نسله أنبياء
بني إسرائيل، ومن هنا تركز التوراة على ان هاجر كانت
جارية لساراي زوجة إبراهيم. (هاجر المصرية جارية سارة
لإبراهيم). (12) ولكن الغريب العجيب أن الله تعالى
خاطب هاجر عبر كبير ملائكته جبرئيل (ع) ولعدة مرات
وبشّرها بولادة إسماعيل ، وكان معها ومع ابنها في
المنفى عندما تاهت في البرية : (فسمع الله صوت
الغلام، ونادى ملاكُ الله هاجر من السماء وقال لها :
مالك يا هاجر؟ لا تخافي، لأن الله قد سمع لصوت
الغلام).(13) وكان إسماعيل ثمار دعوة إبراهيم لربه
بأن يرزقهُ ولدا. بينما كان اسحاق ثمار غيرة سارة
ولؤمها. فضائل هاجر هذه لا نراها لسارة فلم تكن تعلم
أنها سوف تحبل ، إلى أن بشّرها إبراهيم بذلك: (وقال
الله لإبراهيم: سارة امرأتك تلد لك ابنا وتدعو اسمه
إسحاق).(14) لا بل أن سارة كانت تعلم أن الله منعها
من الانجاب ــ عاقر ــ لكي لا يكون بكر إبراهيم منها
فيرث صفات أمّه. وهذا ما نراه بكل وضوح في قولها:
(وأما ساراي امرأة أبرام فلم تلد له. وكانت لها جارية
مصرية اسمها هاجر. فقالت ساراي لإبرام : هوذا الرب قد
امسكني عن الولادة. ادخل على جاريتي لعلي أرزق منها
بنين. فدخل على هاجر فحبلت).(15)
سارة هذه اساءت الأدب
مع نبي الله إبراهيم ومع الله تعالى فوبخها الله بعد
أن كذبت وقالت بأنها لم تضحك من خبر حملها ولم تسخر،
فغضب الله تعالى وصاح بها حسب رواية التوراة (لا بل
ضحكتِ) فيقول : (وكانت سارة سامعة في باب الخيمة
فضحكت قائلة: ابعد فنائي وسيدي قد شاخ؟ فقال الرب
لإبراهيم : لماذا ضحكت سارة؟ فأنكرت سارة قائلة : لم
أضحك. فقال الله: لا بل ضحكت).(16)
وهناك رأي آخر عن
اسباب حذف اسم إسماعيل من الإنجيل وذلك بسبب النبوءة
التي وردت في التوراة قبل ولادة اسماعيل ومخاطبة
الملاك جبرائيل لهاجر وبشارته لها بأنها سوف تلد
ابنا، هذا النص الذي سوف نستعرضه يتطابق تماما مع
بشارة الملك جبرئيل عليه السلام مع الصديقة مريم
وبشارته لها بأنها سوف تلد ولدا، وكأن كاتب الإنجيل
نسخ ذلك النص وابدل فقط اسم إسماعيل باسم
يسوع.
نص التوراة يقول :
(وقال لها ملاك الرب: ها أنت حُبلى، فتلدين ابنا
وتدعين اسمه إسماعيل).(17)
وأما نص الإنجيل
فيقول : (دخل إليها الملاك وقال : ها أنت ستحبلين
وتلدين ابنا وتسمينه يسوع).(18) وكأن النص مسروق
وخوفا من افتضاح امر السارق قام بحذف اسم إسماعيل من
النص ووضع اسم يسوع. بينما ابقت التوراة اسم إسماعيل
ولكنها همّشته وجعلته شخصية تاريخية.(19)
مما تقدم نفهم أن هذا
السلوك من اليهودية والمسيحية أرسى أساس الفصل
العنصري بين الأخوين ووضع الأساس لأول أبرتايد في
التاريخ وهي سياسة الفصل العنصري. والأنكى من ذلك
أنهم صوّروا النبي إبراهيم ابو الأنبياء بأنه شخص
ضعيف أمام زوجته سارة فتأمره ويُطيعها ، ثم ينسبون
طرد هاجر وابنها إلى الله وأن الله هو الذي ميّز بين
ابن الحرة اسحاق وابن الجارية اسماعيل فيقولون بأن
الله تعالى قال لإبراهيم: (اسمع كلام سارة في كل ما
تُشير به عليك لأنهُ بإسحاق يُدعى لك نسلٌ).(20) ولكن
النص يُناقض نفسه، فبينما يقول النص بأن إسماعيل
مطرود لا قيمة له وإذا بالنص في نهايته يقول بأن الله
تعالى ارسل أعظم ملائكته جبرئيل ليُبشّر هاجر عندما
سمع الله بكاء إسماعيل من العطش (فسمع الله صوت
الغلام ــ اسماعيل ــ ونادى ملاك الله هاجر من السماء
وقال لها لا تخافي يا هاجر، لأن الله قد سمع لصوت
الغلام. قومي احملي الغلام لأني سأجعلهُ أمة عظيمة).
(21)
على الرغم من كل
محاولات اليهود والنصارى طمس ذكر إسماعيل إلا أن ذكر
إسماعيل استمر في كل الأزمنة وصولا إلى الاسلام فقد
ورد ذكر اسماعيل قبل الاسلام في كثير من الادبيات
الجاهلية ولذلك نرى من الغرابة ان لا يذكر الانجيل
اسم اسماعيل وانكاره كليا مع اشتهاره بدلا من إسحاق .
ففي اشهر القصائد الجاهلية جاء ذكر اسماعيل في قصيدة
امية ابن الصلت.(22)
و في بعض أخبار عرب
الجاهلية، نجد أن بعض العرب رفضوا الوثنية وتعدد
الآلهة واتبعوا الحنيفية والتوحيد التي آمنوا بأنها
ديانة أبيهم إسماعيل على حسب قولهم، مثل زيد بن عمرو
بن نفيل الذي رفض السجود للات والعزى وقال (أنه لا
يسجد إلا للكعبة التي سجد إليها إبراهيم
وإسماعيل).(23) وأصبح ذكر إسماعيل عرفا بين قبائل
الحجاز في غرب شبه الجزيرة العربية أن تفتتح خطابات
المصالحة بين القبائل المتناحرة بعبارة: (نحن آل
إبراهيم وذرية إسماعيل) مثلما فعل (عبد المطلب بن
هاشم عندما كان يحاول المصالحة بين قبيلتي قريش
وخزاعة).(24)
المحصلة النهائية أن
المسيحية بإنكارها لنبوة إسماعيل وحذف اسمه من
الأناجيل أثبتت بأن التلاميذ الذين كتبوا الأناجيل
كانوا يكرهون إسماعيل كرها شديدا تأثرا منهم
بيهوديتهم. وبسبب ذلك اصبحت المسيحية ديانة عرجاء
شوهاء ، حيث اضطرت إلى أن تسحب نسب السيد المسيح إلى
إسحاق كما ورد في الأناجيل: (كتاب ميلاد يسوع المسيح
ابن داود ابن إبراهيم. إبراهيم ولد إسحاق وإسحاق ولد
يعقوب ... ويعقوب ولد يوسف رجل مريم التي ولد منها
يسوع الذي يُدعى المسيح).(25) هكذا يتم الاحتيال على
النصوص وتحريفها، مع أنهم يعلمون ان السيد المسيح (ع)
لم ينحدر من صلب أب وهذه حكمة إلهية عالية خالفتها
المسيحية بأن خلقت للمسيح نسبا فجعلت نسبه يمتد عبر
يعقوب ثم إسحاق إلى النبي إبراهيم.
أنها الجرأة على
تحريف النصوص التي تنطلق من العقول الشريرة وهذا ما
وصفهم به الكتاب المقدس : (اليوم كلّهُ يحرفون كلامي.
عليّ كل أفكارهم بالشر).(26)
المصادر:
1- أخرجه الطبري في
تفسيره ج٢ص: ٥٧٣، والحاكم ج٢ص ٦٠٠، والبيهقي في
الدلائل ج١ص: ٨٣. وصحّحه الحاكم.(وإذ قال عيسى ابن
مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما
بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه
أحمد).
2- ورد في الحديث عن
أم سلمة أنها قالت لمن سبّ عليها : أيُسبّ رسول الله
فيكم؟ قلت : سبحان الله او معاذ الله !.قالت : سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من سبّ عليا فقد
سبني. شرح النهج المعتزلي. ج3 ص : 255.
3- رفض السيد المسيح
زعمهم بأن إبراهيم كان أبوهم : (ولا تفتكروا أن
تقولوا في أنفسكم: لنا إبراهيم ابا). إنجيل متى 3 :
9.
4- انظر كتاب أمريكا
والابادات الجنسية 400 عام من الحرب على الفقراء
والمستضعفين في الأرض . منير العكش . طبع دار
الريس.
5- إسماعيل اسم عبري
وتفسيره (سَمِعَ الله) بمعنى (لبى الله دعاء إبراهيم
بأن يكون له ولد فمنحه إسماعيل). وكان إسماعيل الابن
الأكبر لإبراهيم من هاجر جارية زوجته سارة. وكان
إسماعيل أول من ذٌكر في سفر التكوين من كتاب التوراة
فهو ألابن الأكبر لإبراهيم من هاجر جارية سارة
المصرية. ولا تعترف اليهودية والمسيحية بنبوة إسماعيل
ولا تراه إلا عبدا ورث العبودية من أمّه هاجر.
6- يقول في دائرة
المعارف : (الاسماعيليون وهم نسل إسماعيل بن إبراهيم
من هاجر، وفي سفر التكوين أنهُ كان لإسماعيل اثنا عشر
ابنا صاروا أمراء ورؤساء قبائل). قاموس الكتاب
المقدس، دائرة المعارف الكتابية المسيحية، شرح كلمة
الإسماعيليون ، الاسماعيليين.
7- سورة مريم :
54.
8- رسالة بولس الرسول
إلى العبرانيين 11 : 17.
9- رسالة يعقوب
الثانية: 21.
10- رسالة بولس إلى
أهل غلاطية 4 : 22 ــ 31.
11- سفر التكوين 21 :
10.
12- سفر التكوين 25
:12.
13- سفر التكوين 21 :
17.
14- سفر التكوين 17:
19.
15- سفر التكوين 16 :
2.
16- سفر التكوين 18 :
10.
17- سفر التكوين 16 :
11.
18- إنجيل لوقا 1 :
28 ــ 31.
19- رأي المسيحية
كلها أن حياة اسماعيل لا تهم المسيحي أو اليهودي في
أي شيء لأنها في الأول والاخر قصة شخص عادي مثل
الشخصيات التاريخية لم تؤثر أبدا في أي من الديانتين
ولن يستفاد المؤمن بمعرفة أخبار إسماعيل، أما إسحاق
فإن من نسله جاء المسيح). موقع منتديات الكنيسة مقال
بعنوان : (لماذا لم يذكر الكتاب المقدس حياة إسماعيل
ابن إبراهيم؟ إيكاروس، ديسمبر 21/ 2010.
20- سفر التكوين 13 :
11.
21- سفر التكوين 21 :
18.
22- انظر خزانة
الأدب، البغدادي، باب الشاهد السابع والثلاثون بعد
الأربعمائة. البدء والتاريخ، (البدء والتأريخ)،
المطهر بن طاهر المقدسي، المجلد الثالث، الباب
العاشر. وروي عن مصعب بن عثمان أنه قال: كان أمية قد
نظر في الكتب وقرأها، ولبس المسوح تعبدًا، وكان ممن
ذكر إبراهيم وإسماعيل والحنيفية. لويس شيخو. ص٢١٩ ج١
شعراء النصرانية.
23- البداية
والنهاية، ابن كثير، المجلد الثالث، الصفحة
323.
24- جمهرة خطب العرب
في عصور العربية الزاهرة، أحمد زكي صفوت، (1/75). و
أعلام النبوة، أبو الحسن المارودي، الباب الثامن عشر،
الصفحة 215.
25- إنجيل متى 1 : 1
ــ 16.
26- سفر المزامير 56
: 5. يتفق الكتاب المقدس والقرآن على قيامهم بعملية
التحريف ذكرنا نص سفر المزامير . وكذلك يؤكده القرآن:
(أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريقٌ منهم يسمعون
كلام الله ثم يُحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون).
يعني اصرار على التحريف. وكذلك قوله تعالى عنهم :
(يُحرّفون الكلم عن مواضعه).