تحريف
عقيدة الانتظار.
مصطفى الهادي.
عقيدة الانتظار اقضّت
مضاجعَ الظالمين ، وزرعت الأملَ في قلوبِ
المظلومين.
عرفت الملائكة طبيعة
الإنسان، ولذلك ونتيجة لعدم اطلاعهم على الغيب سألوا
ربهم قائلين : (أتجعل فيها من يُفسد فيها ويسفك
الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك. قال : إني أعلم ما
لا تعلمون).(1) ما لا يعلمهُ الملائكة هو الحكمة في
التخطيط الإلهي في أن يجعل في الأرض مخلوقات يُدير
شؤونها خليفة له، ولذلك قال لهم : إني أعلم ما لا
تعلمون. فكما أن الله تعالى خلق في أقطار السماوات
ملائكة يُدبرون أمرها (يُدبّر الأمر من
السماء إلى الأرض).(2) تدبير مباشر منهُ تعالى أو
بواسطة عن طريق مخلوقاته، كذلك خلق مخلوقات أخرى
كثيرة في الأرض منها ما نراه وما لا نراه.(ويخلق ما
لا تعلمون).(3) الأمر الغير متوقع من الملائكة أن
شخصا كان محسوبا عليهم تمرد، والذي اصبح فيما بعد
كالشوكة في خاصرة الإنسان.
السنن الثابتة في
الأديان وما جاء في كتبها السماوية تخبرنا بأن المنطق
يرفض بشدة النظرة العبثية في قانون الخلق (وما خلقنا
السماء والأرض وما بينهما لاعبين .أفحسبتم أنما
خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون).(4) القرآن
يُشدد على هذه السنن وقواعدها ومسيرتها الثابتة على
طول تاريخ الأمم والجماعات، فيقول تعالى : (فهل
ينتظرون إلا سنت الأولين فلن تجد لسنت الله تبديلا
ولن تجد لسنت الله تحويلا).(5) ومن هذه السنن الثابتة
(عقيدة الانتظار) التي هي اعتقاد راسخ لدى جميع
الأديان بلا استثناء، وهي تتمحور حول ظهور شخصية
مخلّصة منقذة في نهاية المطاف، وهدف هذه الشخصية هي
انقاذ البشرية من الظلم وتأسيس عالم يخلوا من كل
اشكال الظلم والطغيان وهي دولة العدل والسلام. ففي
عهد كل نبي كان المتوقع أن تكون دولة العدل الإلهي
لولا عناد الإنسان وركضه وراء شهواته فيُعرقل تحقيق
هذا الأمل.(6) هذه العقيدة تشترك فيها كل الأديان وهي
الأمل والحافز على بقائها وهي الهدف من وراء رسالات
الأنبياء، ولربما ما ورد في القول من أن (لكل زمان
فرعون ولكل فرعون موسى) يوضح لنا الكثير من تفاصيل
هذه العقيدة. اضافة إلى الوعد الإلهي بيوم ترث فيه
الفئة الصالحة هذه الأرض : (ولقد كتبنا في الزبور من
بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون).(7)
ينفرد الاسلام من بين
الأديان والمعتقدات بأنه طرح مسألة الانتظار على أنهُ
أفضل أعمال الأمم، لأن عقيدة الانتظار تدفع الإنسان
إلى التغيير والاستعداد وليس الانتظار بمعنى الخمول
والانتظار السلبي، فهو انتظار إيجابي المقرون بالعمل
والجهاد والتضحية والاصرار على الإصلاح وتهيئة عوامل
الظهور. ويحث الإسلام المنتظرين أن يهيئوا أنفسهم
ماديا وروحيا، ويصبحوا قوة فاعلة في بناء قاعدة قوية
لتكون قاعدة الانطلاق.
كل الأمم آمنت بهذه
العقيدة ولكنها اختلفت في التفاصيل وقدّمت شخصيات
كانت تأمل أن تكون هي التي تحقق العدل والسلام ولكن
كلهم ماتوا وانقرضوا إلا القليل ممن اختارهم تعالى من
بعض الأديان الكبرى أبقاهم لهذا اليوم أمثال : الخضر
، النبي عيسى عليهما السلام. ولكن الفكرة بصورة عامة
بقيت مترسخة في وعي الشعوب. ولكن هذه العقيدة حالها
حال الكثير من العقائد التي شابها الفساد والتغيير
ولذلك أسباب كثيرة منها على سبيل المثال : الجهل
بالعقيدة الصحيحة، التقليد الأعمى لبعض المنحرفين،
الغلو في بعض الشخصيات. اتباع الهوى ، اضافة إلى
الحملات المستمرة لمن بيدهم السلطة والمال بسبب خوفهم
من هذه العقيدة التي يعتقدون أنها سوف تسلبهم كل ما
بأيديهم. ولكن على رأس هذه الأمور هو سقوط القدوة
وخصوصا الدينية بسبب التدخل السلطوي مما يؤدي إلى
فقدان الثقة في الدين بسبب انعدام المرجعية الراشدة
التي بيّن معالمها الائمة في الحديث المشهور : (من
كان من الفقهاء صائنا لنفسه، حافظا لدينه، مخالفا
لهواه، مطيعا لأمر مولاه، فللعوام أن يقلدوه).( 8 )
وهذا حصل في مذاهب كبرى انكرت وجود المهدي.
لا نريد استعراض ما
مرت به هذه العقيدة تاريخيا من ظلم وتشويه، ولكن
بصورة عامة فإن كل دين قدّم رؤيته الخاصة لليوم
الموعود ويتربع على رأس هؤلاء اليهود الذين وضعوا هذه
العقيدة في حيّز أناني ضيّق جدا من خلال الزعم أن
(المسيّا العسكري) الذي سوف يظهر من نسل داود سيبني
لهم الهيكل ويضع الشعوب كلها تحت أقدامهم، وتجد
الكثير من البشارات عن عصر الماشيح في كتب إشعياء
ودانيال ولعل اوضحها هو ما جاء في سفر حزقيال الذي
يتحدث عن معركة جوج ماجوج في حرب مدمرة تمهد لظهور
الماشيح.(9). ويضع اليهود ثلاث مهمات لماشيحهم (إعادة
بناء الهيكل في القدس/ جمع شتات بني إسرائيل/ تأسيس
عصر جديد يسوده السلام لإسرائيل).ولعل أهم علامة من
علامات عودة الماشيح هو عودة اليهود إلى ارض الميعاد،
وهذا ما يراه القرآن في سورة الإسراء ولكن اعتبر ذلك
علامة على نهايتهم.
شخصية القائد المنتظر
المنقذ اقضّت مضاجع الظالمين ، وزرعت الأمل في قلوب
المظلومين. ولذلك تعرضت هذه العقيدة إلى أبشع
الممارسات من قبل الظالمين الخائفين على امتيازاتهم.
ولكن كل محاولاتهم لم تفلح في زحزحة هذه العقيدة في
قلوب الناس فعمدوا إلى اختراع شخصيات وهمية وبذلوا
الأموال الطائلة من أجل تحويل إيمان الناس لها، وهذه
قضية قديمة أتضحت معالمها من اختراع اليهود مهديا
خاصا بهم ، واخترعت المسيحية أيضا شخصية تخصهم غير
انتظار السيد المسيح (ع)، واما المسلمون فقد عمد قسم
كبير منهم إما إلى انكار شخصية المهدي أو الادعاء
بأنه غير مخلوق وإنما يُخلق في آخر الزمان.(10) وهذا
يتنافى مع التخطيط الإلهي الذي جسّد فكرة وجود المهدي
في كل الأديان تحت مسميات شتى ليس فقط كعقيدة بل كشخص
حقيقي يسير مع الزمن متجاوزا بذلك ما تعارف عليه
الناس من قصر الاعمار وقد ضرب لنا الأمثال على ذلك في
كل الكتب السماوية في اطالة بعض أعمار الأنبياء ، لا
بل أن الله تعالى ترك لنا الكثير منهم أحياء إلى يوم
القيامة، سيظهرون مع المهدي (عج). لا بل أن الأكثر من
ذلك اجماع كل الأديان على ان الشخصية الغامضة التي
يُطلق عليه (الدجال) هي شخصية حيّة منذ قيام البشرية
وأنها ظهرت في كل دين وسوف تظهر أيضا في هذا الدين
كما يُنقل عن رسول الله (ص) أنه قال : (يا أيها
الناس! إنها لم تكن فتنة على وجه الأرض منذ ذرأ الله
ذرية آدم أعظم من فتنة الدجال، وإن الله عز وجل لم
يبعث نبيا إلا حذر أمته الدجال، وأنا آخر الأنبياء
وأنتم آخر الأمم وهو خارج فيكم لا محالة. ولقد أنذر
نوح قومه).(11)
ونحن نقترب من راس
السنة الميلادي سنستعرض مسألة تحويل أنظار الناس من
انتظار مجيء السيد المسيح إلى انتظار مجيء شخصية
(سانتا كلوز) بابا نويل الاسطورية وقد نجحوا في ذلك
حيث تنتظر المسيحية وغيرها اليوم في جميع أنحاء
العالم شخصية بابا نويل وهو يأتي طائرا في عربته التي
تجرها الغزلان فيدخل ليلا من المداخن ليضع الهدايا
تحت رأس الكبار والصغار، ثم ينفلت الشارع في رأس
السنة ويمتلئ بالعربدة والمجون والتحلل والفسق
والاسراف في صرف الأموال الطائلة الهائلة حيث تقوم
شركات كبرى بالترويج لذلك فتجني المليارات من وراء
ذلكن ، بينما تجني خفافيش الظلام عملية حرف وتحويل
الانظار عن الهدف الحقيقي لعقيدة المجيء الثاني للسيد
المسيح، حتى اصبحت أجيال كاملة تجهل الهدف من هذه
الاحتفالات فلا تعرف سوى شخصية بابا نويل. وقد زحف
ذلك إلى المسلمين عن طريق زعماء خونة وشخصيات علمانية
جاهلة وضيعة فأصبحت احتفالات رأس السنة تُقام في كل
صقع اسلامي يتم فيها انفاق اموال هائلة لمناسبة ليس
للمسلمين فيها ناقة ولا جمل لا بل أن كل المحتفلين لا
يعرفون لِمَ هم يحتفلون. وانتقل الترويج لهذه
المناسبة الوثنية من القادة والزعماء إلى الشارع
الإسلامي حيث يقوم بعض التجار المسلمين ومن أجل الكسب
المادي ببيع كل وسائل الاحتفال بهذه المناسبة لا بل
أن الآباء ساهموا بالترويج لهذه المناسبة من دون وعي
منهم بخطورتها فيضعون تحت وسائد اطفالهم هدايا
ليقولوا لهم صباحا أن سانتا كلوز او بابا نويل زاركم
ليلا، فتتحول عقلية الطفل من الانتظار الايجابي إلى
الانتظار السلبي وهكذا تُبنى العقائد الباطلة، وهكذا
يتم تأخير ظهور المنقذ المنتظر الذي ينتظر من الفئة
الصالحة أن تقوم بالتمهيد لظهوره، وإذا بنا نقوم
ببناء فئة جامحة تنتظر شخصية اخرى حتى إذا ظهر مصلحها
قالت له : (ارجع يا ابن فاطمة).(12)
المصادر:
1- سورة البقرة آية :
30.
2- السجدة آية :
5.
3- سورة النحل آية:
8.
4- سورة الأنبياء آية
: 16. و: سورة المؤمنون آية : 115.
5- سورة فاطر آية :
43.
6- على طول تاريخ
الأديان كانت أمنية الناس أن يبعث الله تعالى لهم
رسولا يحقق لهم حلم السلام والعدل يقول تعالى :
(ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا
لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من
المؤمنين). سورة القصص آية : 47.
7- سورة الأنبياء آية
: 105.وفي بشارة النبي (ص) لأمته أنهُ قال : (أبشركم
بالمهدي يُبعث في أمتي على اختلاف من الناس وزلازل ..
فيملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا). مسند
الإمام أحمد ج3 ص : 37.
8- وسائل الشيعة الحر
العاملي، الطبعة الثانية مؤسسة أهل البيت ج27 ص :
131.
9- سفر حزقيال
39.
10- بعد انكارهم
لشخصية المهدي كما ورد في كتاب (لا مهدي يُنتظر بعد
النبي سيّد البشر). للشيخ عبد الله بن زيد بن محمود،
نسوا بأن مذاهب أهل السنة منذ تأسيسها ظهر فيها
بالعشرات من يدعي أنهُ المهدي، وقد عدّ بعضهم فذكر
أكثر من سبعين مهديا ، حتى قال ابن تيمية في منهاج
السنّة : (ومنهم من ادعى ذلك لا يحصي عددهم إلا الله
تعالى وأعرف في زماننا غير واحد من المشايخ يظن كل
منهم أنهُ المهدي). انظر كتاب منهاج السنة النبوية ج8
ص : 187.
11- كتاب السنة لابن
ابي عاصم ج1، ص : 172.الزيادة في سنن الترمذي وسنن
أبي داود عن عبد الله بن عمر.
12- في دلائل الإمامة
ص : 241. وفي الارشاد للشيخ المفيد ص : 364.