كيف نشأ
الإجرام ؟ وكيف بدأت الجريمة ؟ إذا كان الله قد نفخ في
آدم من روحه ، فمن أين جاء الانحراف في الفطرة ، ومن أين
دخل العنف إلى الإنسان ؟
مصطفى الهادي.
هناك شبه إجماع من قبل
الأديان ، على أن الشجرة التي أكل منها آدم كانت هي السبب
اللقمة الأولى : شجرة معرفة الخير والشر كما تصفها
التوراة : ((وأوصى الرب الإله آدم قائلا من جميع شجر
الجنة تأكل أكلا. وأما شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكل
منها … ملعونة الأرض بسببك)). 1
أو شجرة الخطية ، كما في الإنجيل: ((من
اجل ذلك كأنما بإنسان واحد دخلت الخطية إلى العالم .. إلى
جميع الناس )) . 2
أو كما في القرآن في
قوله تعالى : ((ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من
الظالمين)) 3 .
ويكاد موضوع الشجرة
المحرمة (الملعونة)يتكرر نفسه في الكتب الأخرى : الأرياني
ستيانس ، الكنزا ربا ، الأفستا ، والرشت ، وحتى في
الأساطير اليونانية ، والبابلية ، والمصرية والأفريقية ،
والهندية . ولكن كل دين يذكر شجرة معينة. وعلى الرغم من
اختلاف الأشجار إلا أن الآكل واحد (آدم الإنسان).
ويكاد ينحصر الشرّ
بإحدى هاتين الشجرتين والتي تُمثل احدها الخير والأخرى
الشر. ومصاديقهما : الجنة والنار، موسى وفرعون ،عيسى
وقيصر ، محمد وأبو سفيان ، علي ومعاوية ، الحسين ويزيد
،المهدي والسفياني … الخ
فهما شجرتان (رمزان) ،
كما قال تعالى : ((شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء
تؤتي أكلها كل حين)) . و : ((شجرة خبيثة اجتثت من فوق
الأرض مالها من قرار)) 4 .
ولما ختم الله الدين
بيّن على لسانه آخر أنبيائه بأن الشجرة الملعونة كناية عن
أسرة او عائلة ورثت كل خبث ولؤم إبليس. فقال تعالى :
((والشجرة الملعونة في القرآن )) 5 .
فأشار النبي إلى تلك
الشجرة فذكرها بالاسم محذرا منها فقال : ((الشجرة
الملعونة هم بنو أمية)) .(6)
ثم بيّن النبي مفهوم
الشجرة الثانية :الشجرة الطيبة ، شجرة الخير ، شجرة
المعرفة ، شجرة الحياة ، شجرة النور فقال : ((يا علي خُلق
الناس من شجر شتى ، وخُلقت أنا وأنت من شجرة واحدة أنا
أصلها وأنت فرعها والحسن والحسين أغصانها وشيعتنا ورقها
فمن تعلق بغصن من أغصانها أدخله الله الجنة )) . 7
فماذا كانت نتائج الأكل
من تلك الشجرة ؟
أئمتنا فقط هم الذين
يُجيبون على ذلك قال الإمام المعصوم : الأكلة التي أكل
منها آدم من الشجرة التي نهاهم الله أن يأكلوا منها ،
انعقدت نطفة في صلب آدم فتركت اثرها في الجنين الأول
قابيل. لقد زرع العصيان .عصيانا (وعصى آدم ربه)، والعصيان
أجرى أنهارا من الدماء والدموع على طول التاريخ وحتى قيام
القائم .
العوامل النفسية
المضطربة لها أثر كبير في صنع شخصية الإنسان ، منذ الحالة
الجنينية : (( يُكتب في بطن أمه شقي أو سعيد)) . ولذلك
نهتنا الشرائع السماوية عن لقمة الشبهة من مال الحرام
.
هرب (القاتل) قابيل
نادما فأنتج جيلا من القتلة المجرمين السفاحين على طول
التاريخ .
قٌتل الحسين (ع) فتحمل
الأبناء مع آبائهم وزر ذلك حتى تقوم الساعة من خلال رضاهم
على أفعال آبائهم وهذا ما نراه إلى اليوم.
وكمثال على ذلك فإن
أسلاف هؤلاء اليهود هم الذين قتلوا الأنبياء ولكن الله
خاطب هؤلاء وأشركهم في عمل أسلافهم لأنهم راضون بما علموا
. والراضي بعمل قوم كالداخل معهم .
فلما نزل قوله تعالى :
(( وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دمائكم ) في اليهود من
الذين نقضوا عهد الله ، وكذبوا رسول الله ، وقتلوا
الأنبياء وأولياء الله . قال الرسول (ص) أفلا أنبئكم بمن
يُضاهيهم من يهود هذه الأمة . قالوا بلا يا رسول الله .
قال قوم من أمتي ينتحلون أنهم من ملتي ، يقتلون أفاضل
ذريتي وأطائب أرومتي ، ويبدلون شريعتي وسنتي ويقتلون
ولديّ الحسن والحسين كما قتل أسلاف اليهود زكريا ويحيا
.
سرّ الخلود .
وقائع كثيرة حدثت في
التاريخ ولكنها تلاشت واضمحلت فلم تجد لها ذكرا إلا في
بطون الكتب التاريخية .
الواقعة التاريخية
الوحيدة الباقية التي سايرت الزمان ، وتناقلها الركبان
وخلدها الدهر هي واقعة كربلاء ، والسبب في ذلك هو ظروف
المعركة ، وأشخاص المعركة ، والطريقة التي عولجت فيها
ثورة الإمام الحسين (ع) من قبل السلطة الحاكمة آنذاك
.
التاريخ خلّد ثورة
الإمام الحسين (ع) ، لأنها سبقت عصرها ، نشأت قبل نشوء
الخليقة ، كانت قبل عالم المادة ، في عالم النور ـ كما
تنقل لنا الروايات الواردة إلينا عن المعصوم ـ ثم فطر
الله الخلق فامتزجت فطرتهم بهذه الثورة ، وعُجنت طينتهم
بدماء الثوار .
الأنبياء تحدثوا عنها ،
الصالحين تناقلوها ، الكتب السماوية ذكرتها ، بإشارات
وأمثال لم تفهمها الأمم، لأنها لم تعاصر الحدث فلا تعرف
مفرداته ، ولكنها ليست غامضة علينا لأننا من عصر كربلاء ،
لأنها تسير مع العصر وهي أهم سلاح من أسلحة العصر يتجهز
به الثوار في كل عصر ومصر .
ثم تنتقل كربلاء إلى
العالم الآخر ، حيث تجري المحاكمة الكبرى . كما ينقل لنا
صاحب كتاب اللهوف في قتلى الطفوف قال :
(( روي عن الصادق (ع)
يرفعه إلى النبي (ص) أنه قال : إذا كان يوم القيامة نصب
لفاطمة (ع) قبة من نور ويقبل الحسين (ع) ورأسه في يده
فإذا رأته شهقت شهقة لا يبقى في الجمع ملك مقرب ولا نبي
مرسل إلا بكى لها . فيمثله الله (عز وجل) لها في أحسن
صورة وهو يخاصم قتلته بلا رأس فيجمع الله (عز وجل ) لها
قتلته والمجهزين عليه ومن شركهم في قتله فأقتلهم حتى آتي
على أخرهم .ثم ينشرون فيقتلهم أمير المؤمنين ( صلوات الله
عليه ) ثم ينشرون فيقتلهم الحسن (عليه السلام ) ثم ينشرون
فيقتلهم الحسين ( عليه السلام ) ثم ينشرون فلا يبقى أحد
من ذريتنا إلا قتلهم قتلة . فعند ذلك يكشف الغيظ ويُنسى
الحزن)) . 7
وهناك عدد كبير من
الروايات التي تؤكد معرفة الأمم السابقة لنبأ استشهاد
الأمام الحسين (ع) بتفاصيلها ،ومن هذه الروايات نذكر
وباختصار :
ذكر ابن سعد في طبقاته
عن رأس الجالوت عن أبيه قال : ما مررت بكربلاء ، إلا وأنا
اركض دابتي حتى أخلف المكان ، قال : قلت : لم ؟ قال : كنا
نتحدث أن ولد نبي مقتول في ذلك المكان وكنت أخاف أن أكون
أنا ، فلما قُتل الحسين قلنا : هذا الذي كنا نتحدث ، وكنت
بعد ذلك إذا مررت بذلك المكان أسير ولا أركض .
وروى ابن كثير الدمشقي
قال : مرّ علي (ع) على كعب فقال : يُقتل من ولد هذا رجل
في عصابة لا يجف عرق خيولهم حتى يردوا على محمد (ص) الحوض
، فمر الحسن (ع) فقالوا : هذا ؟ قال : لا ، فمرّ الحسين
(ع) فقالوا : هذا ؟ قال : نعم . 8
فهل نجد مصاديق ذلك في
الكتب السماوية وبوضوح بين لا غبار عليه ؟
نعم إن الحسين عليه
السلام هو الذبيحة الذي قُتل قرب نهر الفرات ، فأنظر ماذا
تقول التوراة : ((في الشمال بجانب نهر الفرات عثروا
وسقطوا . لأن للسيد رب الجنود ذبيحة في أرض الشمال عند
نهر الفرات )) . 9
فهل قُتل أحد ذبحا غير
الحسين بالقرب من الفرات. وهل وجدت ذبيحة مقدسة لله في
غير هذا المكان؟
كان نداء علي (ع) عند
ذهابه إلى صفين ومروره بكربلاء شاهد على أن هذا المكان هو
شاطئ الفرات. حيث نادى : ((صبرا أبا عبد الله بشط
الفرات)) وهو المكان المسمى نينوى من شط الفرات .
10
وقول الإمام زين
العابدين في الشام : ((أنا ابن المذبوح بشط الفرات)) وكل
هذه النصوص تُشير إلى شاطئ الفرات.
واليهود كانوا يعرفون
واترهم علي بن أبى طالب (ع) فقتلوه كما ذكر ذلك علي نفسه
عندما ضربه ابن ملجم صاح الإمام : ( قتلني ابن اليهودية ،
لايفوتنكم الرجل )) .11
وهم يعرفون الحسين كما
مرّ من روايات كعب ، وكانوا في نفس الوقت يكرهون الحسين
كما يكرهون أ بيه وذلك لأسباب منها :
الأول : كرها منهم
لأبيه الذي وترهم وقتل صناديدهم وهدم حصونهم في خيبر وسفه
أحلامهم .
والثاني : أنهم يعرفون
الحسين كأحد رموز يوم المباهلة العظيم الذي دحر الله فيه
النصارى وأرعب اليهود ببركة تلك الوجوه المباركة والتي
كان وجه الحسين منها .
الثالث : أن الحسين
الامتداد الطبيعي للرسول (حسين مني) وبهذا فهو يُمثل
الرسالة بكامل ثقلها مقابل أهدافهم الخبيثة .
ولذلك نرى أنه عندما
ورد خبر وصول سفير الحسين إلى يزيد في الشام ، أضطرب يزيد
للنبأ وهمّ كثيرا للأمر ودق ناقوس الخطر عنده، لأن الكوفة
لا تقلّ إمارتها أهميةً عن الشام، وإن وقف أهل الكوفة
جنباً إلى جنب مع الحسين (ع)، فإن في ذلك نذيراً لانتهاء
حكمه، وهنا تدخل اليهود والنصارى الذين لم يعترفوا بنوبة
النبي محمد (ص) ولا بالدين الإسلامي وكانوا يعرفون من هو
المقتول عند الفرات ، فحانت لحظة الانتقام وتحقق نبوءة
التوراة. فأشار عليه مستشاره الخاص (سرجون) بأن يُقلد
ولاية الكوفة لعبيد الله بن زياد وقد كان أعد العدة لذلك
عندما قام بتزوير كتاب زعم أنه وصية من معاوية ليزيد كما
تذكر المراجع أن يزيد دعا سرجون فقال له: ما رأيك؟ إن
حسيناً قد وجّه إلى الكوفة مسلم بن عقيل يبايع له، فمن
ترى أن أستعمل على الكوفة؟ فقال له سرجون: أرأيت معاوية
لو نشر لك حيا أما كنت آخذا برأيه؟
قال: نعم.
فأخرج سرجون عهد عُبيد
الله بن زياد على الكوفة وقال: هذا رأي معاوية، مات وقد
أمر بهذا الكتاب).12
وهكذا كان لليهود
والنصارى والشجرة الخبيثة دور فاعل في قضية كربلاء. جريمة
خلدها التاريخ باللعن على من قام بها ، أو من سمع بها
فرضي بذلك.
المصادر :
1- كما في التوراة سفر
التكوين . الإصحاح الثاني، الفقرة 17 . ولربما الأكل من
الشجرة رمز إلى طعام معيّن او ممارسة معينة عندما قام بها
آدم أحدثت تغييرات جينية خطيرة في تكوينه تركت اثرها على
نطفته التي أنجبت قابيل.
2 - الإنجيل . رومية ،
الإصحاح الخامس ، الفقرة 12 .
3- سورة البقرة آية 35
.
4 -سورة إبراهيم الآية
24 ـ 25 .
5- سورة الإسراء آية 60
.تاريخ أبي الفداء - أحداث سنة مئتين وثلاثة وثمانون - (
30 من 87 ) قال : وفيها أمر بكتبة الطعن في معاوية وابنه
وأبيه وإباحة لعنهم وكان من جملة ما كتب في ذلك : بعد
الحمد لله والصلاة على نبيه وأنـه لما بعثه الله رسولاًً
كان أشد الناس في مخالفته بنو أمية وأعظمهم في ذلك أبو
سفيان بن حرب وشيعته مـن بني أمية قال : الله تعالى فـي
كتابه العزيـز : والشجرة الملعونة ، اتفق المفسـرون
أنه أراد بها بني أمية.
6- البحار ج35 ص 25
رواية 20 .
7- موسوعة الإمام
الصادق (ع) السيد محمد كاظم القزويني . ج10 ص 294 الطبعة
الأولى 1419 . نقلا عن كتاب اللهوف في قتلى الطفوف ص
60
8- روى هذا الحديث :
ابن كثير وطبقات ابن سعد ، وتاريخ بن عساكر ، وتاريخ
الإسلام للذهبي وغيرهم من المؤرخين .
9- التوراة ، سفر
إرمياء الإصحاح 46 الفقرة 6 ـ 11 .
10 - عندي بحث حول هذا
الموضوع أبين فيه الحسين لدى الأمم منذ عصر الخليقة الأول
وحتى يوم القيامة ، أبين فيه أن الحسين دخل حتى في
معتقدات الأمم الوثنية ، وكان هو بطل الأسطورة على مدى
الزمان والمكان وأنه الحاضر في المحابر لا تغترف الأقلام
إلا منه .
11- البحار ج 45 ص 113
.
12- الإرشاد - الشيخ
المفيد - ج ٢ - الصفحة ٤٢.