في اساطير اليونان القديمة ذكرت بعض الشخصيات التي اعطيت ضروبا من البطولة والتشويق من قبل القاصين والكاتبين، فيجعلونها تارة تحلق في الهواء وتارة اخرى تغوص في الاعماق بغية تجميلها وتشويقها، والنتيجة هي واحدة أن يضربون من خلالها امثال الخير والبر والاحسان .
لعلي لا أغالي إن قلت بأن اكثر الشخصيات الخيالية التي تردد ذكرها في بعض السطور التي تحكي شيئا من اساطير اليونان وحكاياتهم هي شخصية (أدونيس) ذلك الشاب الذي توفيت اسرته جراء حادث بغيض مر على القرية بكاملها وقد نجى من ذلك الحادث وهو في صندوق محكم وضعته فيه امه حين هاج عليهم البحر وهو في الثامنة من عمره حينذاك . ليرسوا فوق جزيرة لا يوجد فيها سوى بعض القردة والضفادع .
بقي يستكشف الجزيرة حتى ايام قليلة وبعدئذ نهض وهو يشد الحبال بالعصي ليبني لنفسه كوخا، ثم يجمع الخشب والحجارة ويتسع ذلك الكوخ ليكون بيتا فيه ما في البيوت المعتادة بأدوات الطبيعة، وبنيّ البيت بعد أن جعل لقوته شيء من النظام، فلم يحرم نفسه لا من سمكها ولا من ثمارها، حتى خرج صباح ذلك اليوم الذي وجد فيه (أليساندرا) الفتاة التي سقطت من احدى قوارب السياحة التي مرت بجانب الجزيرة، فما مكثت الفتاة حتى تزوجها ادونيس وانجبا واصبحت الجزيرة عبارة عن اسرة متفقة على أن لا تترك ارضها وان تبني فيها بعض المباني وتشعل النار ليلا كي يكون مكانهم استراحة للسائحين وركاب البحر، وما استمروا على هذه الحالة حتى امتلأت الجزيرة بالسكان واصبحت مملكة عظيمة تزهو بالناس وتتميز بمواردها .
الجميل في الامر منذ أن حل ادونيس في الجزيرة لم يدع صراعا لم يخوضه حتى مع القردة التي تقطن الجزيرة فقد صارعها مرات عدة بغية الحصول على الثمار التي تملك، وقد عانى ما عانى حتى استطاع أن يبني ذلك الكوخ الاول، فلم يشعر بالصعوبة نفسها التي بنى فيها البيت، ثم أنه لم يعاني في وصول السكان بعد أن عُرفت جزيرته، فقد اصبح ادونيس بطلا أمام كل شيء يوم ذاك صار بطلا أمام نفسه أمام اليساندرا وحتى امام القردة التي رأته مذ كان طفلا واصبح ملكا بعدها، وبقي بطل في اساطير اليونان .
انتزاع اليأس والتحلي بالصبر والابداع يعتبر بطولة لا مثيل لها، وهذا كان عين ما ميز ذلك الفتى الذي القيت به امواج البحر الى تلك الجزيرة، وهذا لم يكن في الاساطير وحسب إنما رأينا كلنا اشخاص لهم اصرار وعزيمة قادرة على خرق الجبال وهم امثال تسير على الارض .
في واحدة من المدن التي في العراق وجدت شابا يمتلك منتجعا سياحيا ضخما، سألته ما إن كان متخرجا من كلية السياحة أو هو مختص في ميدان ريادة الاعمال، فضحك مجهرا أمام عامله الذي يحمل اليه الشاي، وأجابني باسما أن كان امام داره نهر دجلة وتأتي الجموع يوميا بغية السباحة والهروب من هجير الصيف، قائلا: كنت أقبل على نفسي بضروب من اللوم والحسرة لائما الحظ تارة والنفس تارة اخرى لما انا عليه من فقر ومن محن، خرجت ماشيا الى جوار النهر فوجدت أن أولئك الذين يسبحون لا يملكون شيئا يقفزون منه الى الماء بعد أن كسرة الخشبة التي وضعوها ويعتبر هذا الامر من اساسات التسلية في السباحة عندهم .
قررت في اليوم التالي أن أضع خشبة كانت في داري عوضا عن تلك التي كسرت وان اجعل كل من يقفز منها يدفع مبلغا معينا، متيقناً أني لن اجد زبونا واحدا . وما إن اقبل العصر حتى ذهب ظني جفاء وجاء الشباب مذهولين وفرحين في الوقت ذاته فكلهم ارادوا ان يجربوا الامر، فجمعت مبلغا كنت لا احلم فيه حتى المساء . ففي اليوم الثاني وضعت مجموعة من الاطارات التي كانت فوق الدار بعد أن طليتها بالاحمر والازرق لتكون نجادة للذين يقفون متفرجين متخوفين الغرق إن نزلوا الى الماء، فجنيت منها رزقا طيبا يوم ذاك ، وفي اليوم الثالث اعددت مجموعة من المشروبات الباردة وكنت قد استعنت بمجموعة من العمال لكي يساعدوني في الامر بعد أن تجمعت عندي شباب من سكان القرى المجاورة، واستمر الامر ينمو حتى وصل الى ما ترى أنت يا سيدي العزيز .
كان هذا ما نقله لي صديقي الذي يملك الان مجموعة كبيرة من المنتجعات الخاصة بالسياحة والسباحة وهو يملك ما شاء الله من المشاريع الناجحة والمميزة التي انتشرت في بعض المدن العراقية .
الابداع في التفكير قد يختلف تمام الاختلاف عن التفكير في الابداع، فشتان بين نتائج من كان يبدع في ايجاد فكرة فعالة وواقعية ومميزة ومعاصرة في متطلباتها وثمارها، وبين من يحاول جاهدا في أن يجد الابداع في فكرة مستهلكة أو غير واقعية وغير معاصرة . الفرق أن الاولى تلاقي نجاحا واهتماما كبير وصاحبها سيصل الى غايته كون طريقته في ان يصنع الفكرة بشكل مبدع لا أن يحاول يائساً في الابداع وكيفياته وطرق الحصول عليه .
قد يكون الافراد ولا سيما الشباب في المجتمع ينقسموا بقابليتهم الفكرية الى اقسام ..
القسم الاول
- المتكاسل : هو ذلك الذي يعجز عن التفكير ويعجز عن الابداع ويعجز عن جمعهما، ولا يتمكن سوى من أمر واحد فقط هو ان يتمنى النجاح ويرغب بالابداع ويرنو الى التميز، لكن دون أن يحرك ساكنا، فهذا النمط لا ينجح ولا يمكن ان ينجح ولو فرض أحدنا أن قوة قهرية جاءت والقت بالنجاح بين يدي ذلك المتكاسل لتكاسل عن حمل النجاح أساساً .
يروى ان قطاً كان يجول باحثا عن شيء ليأكله فصادف فأراً نائما الى جوار لغزه، فتسلل القط حذرا حتى وصل الى الفأر فلما وقف قدامه قام القط عبثا بأن حرك الفأر ليستفيق من نومه العميق هذا، ففتح الفأر عينه ورأى القط ثم رجع الى نومه، فتعجب القط، واخذ يقلبه ذات اليمين وذات الشمال يريد منه أن يتحرك من نومه الشديد، لكن عجز القط من ذلك، فاشمأز عن أكله وحسبه لقمة لا بركة فيها .
لا أغالي ان قلت بإن أكثر الناس يتعاملون مع ذلك المتكاسل كما تعامل القط مع الفأر، فالغاية ليس لها طعم إن لم تكن فيها مطارة مع التحديات، النجاح في التفكير والابداع في نواحي الحياة لا يحتاج الى كسول عاجز، انما يحتاج عنتري لبيب يصارع التحديات والمشكلات ليستقر في الاخير منتصراً .
القسم الثاني
- التفويضي : قد يُرى نوع اخر من الافراد لا يرغب سوى بان يجلس وينتظر السماء تمطر افكار جاهزة للتطبيق أو يتمنى أن يحظى ذات يوم بذلك المصباح الذي يحمل مارده بداخله ليطبق عنه تلك الافكار فيكون جاهزا لاستلام مفاتيح النجاح دون ان يحرك ساكناً، وربما يرغب أن يصب ابريق من الابداع في رأسه حين ينام , وهو لا يقل سوءاً عن صاحبنا الاول كونه لا يبذل حق النجاح وحق النجاح والابداع مقرون (بالجد) .
لم يبالغ من قال ذلك المثل الشهير (من جد وجد)، فحتى التفكير بشكل مبدع يستلزم مراعاة بعض الضوابط الفكرية التي تنتج له فكرة مبدعة نافعة .
القسم الثالث
المجّد : جميع الافراد يحملون في ذاكرتهم شيء من الحكايات التي كان تقصها العجائز أو بعض الدروس التي كانت في مناهجهم الدراسية حول قيمة الجد والاجتهاد، وبلغ الامر حتى صار ضربا للأمثال .
الجد في تصحيح مسار التفكير وتعلم انماطا جديدة تغير التفكير الاعتيادي الى تفكير ابداعي هو غاية الاجتهاد فلابد للإنسان ولاسيما الشباب اليوم ان يحمل شيئا من الابداع في التفكير، فالتفكير المعتاد قد يحتاج الى التطوير والتنظيم بعض الشيء .
قواعد تنظيم الافكار :
1- تحديد الافكار الموجودة في الذهن .
2- كتابة نقاط القوة الموجودة فيها والاهتمام بها .
3- الاخذ بعين الاعتبار نقاط الضعف والانتباه منها .
4- تشخيص التحديات والصعوبات المتعلقة في الفكرة .
5- الابتعاد عن موارد الظن المنهي عنه من قبل الشريعة .
6- عدم الاهتمام بالأوهام والتصورات التي تستند الى الخيال الموهن .
7- التعامل بواقع ومعاصرة .
8- تعلم بعض اساسات علم المنطق كونه قواعد للتفكير الصحيح .
ومن استراتيجيات التفكير المبدع ما يلي ..
وصية وختام
أيها العزيز : لابد من أن تعلم بأن نجاحك أنت يعتمد على ما تحسن من مهارات وقدرات، والمهارات والقدرات تعتمد على طريقتك في التفكير، أي أن الامر في النهاية محصور في دائرتك أنت لا يوجد أحد غيرك .
روي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال : (قيمة كل مرئ ما يحسنه) أي أن قيمتك أنت محصورة في الاشياء التي تحسنها وتجيد التعامل بها، والتفكير هو أحد هذه الاشياء فإن قيمتك ستكون بتفكيرك وطريقة تنظيمك إياه، لاحظ من حولك الشخصيات الناجحة في ميدان المشاريع والاعمال لو لا أنهم فكروا بشكل مختلف ومبدع ووظفوا تفكيرهم في هذا الميدان فهل ستراهم ينجحون فيه ؟ حتما لا، لو لا أنهم لم يجعلوا غاية الابداع والتفكير في ذلك الهدف لما استطاعوا أن يصلوا الى ما يريدون .
ثم هل كنت تعلم سابقا بأن Programming thinking (برمجة التفكير) تعتمد عليك ايضا، أي بمعنى لو جعلت أغلب تفكيرك في ميدان تطوير المهارات لأصبح عقلك مبرمجا في تطوير المهارات، لو وظفت تفكيرك في التعليم فيتبرمج تفكيرك في ميدان العلم ومهتماته، ولو كسلت فسيتبرمج ايضا على الكسل .
كما قلنا آنفا في بعض الموضوعات ضع غايتك نصب عينيك ثم اجعل تفكيرك
في تحقيق غايتك لا غير مضيفا الابداع باستراتيجياته الى تفكيرك كل
يكون الانتصار والنجاح من نصيبك إن شاء الله .
بقلم
السيّد محمد حسن المولى