بقلم /نجوى معروف// الراية
قِيلَ إنَّ زوجةَ سِيبَوَيْهِ أحرقتْ كُتبَهُ، لأنَّه كانَ مُنكبًّا على القراءةِ مُهملًا إيّاها، فلمّا عَلِمَ بذلك أُغْشي عليه ثُمَّ طَلّقَها حَالما استيقظَ.
أمّا الليثُ بنُ المظفر، فكانَ مُنشغلًا عن زوجتِهِ بحفظِ كتابِ «العين للفراهيدي»، فغارتْ من الكتابِ وأحرقتْهُ.
وقَضَى إبراهيمُ العياشي عشرينَ سنةً في تأليفِ كتابِ «حجرات النساء» فأغاظَ ذلكَ زوجتَهُ لانشغالِه عنْها حدَّ الإهمالِ، فأحرقت الكتابَ، وأُصيبَ هُو بالشّللِ.
أليس غَريبًا أنْ يقْضيَ الرجلُ جُلَّ حياتِه في بحوثٍ تتعلقُ بالنساءِ مُتناسيًا أنَّ زوجتَه امرأةٌ كباقِي النّساء!
لا أجدُ في إحراقِ الكُتبِ غَيرةً تُذكرُ، بلْ غازاتٍ تنبعثُ من الشعورِ بالإهمالِ فتملأُ المكانَ، غازاتٍ قابلةً للاشتعالِ تتّقدُ عندَ أوّلِ شرارةٍ بَعدَ زمنٍ من المُحاولاتِ اليائسةِ لنيلِ أبسطِ الحقوقِ في الحوارِ والتّواصلِ مع الآخرِ. حقًّا، إنَّ مُعظمَ النّارِ منْ مُستَصغرِ الشّررِ.
تُذكّرنِي تلكَ القصَصُ بالمَثَلِ الشّعْبي «باب النَّجّار مخلَّع»، بمعْنَى أنَّ بيتَه أَولَى بالإصلاحِ، وهُنَا أتأمّلُ مدَى تطابُقِ ذلكَ في حياتِنا!
منذُ سنواتٍ التحقتُ بدورةِ البرمجةِ العصبيّةِ اللُّغويّةِ، لتعزيزِ مهاراتِ التّأثيرِ والتّواصلِ الفاعلِ، وفِي جلسةِ التّعارفِ الأُولى للمُشاركينَ، وسؤالهم عن سببِ الالتحاقِ، كانَ لِكُلٍّ مِنّا هدفٌ ومُستوى أكاديميٌّ وتخصصٌ مُختلِفٌ، فإمامُ الجامعِ يحاولُ أنْ يكونَ مُؤثّرًا ليهديَ الشّبابَ بأسلوبٍ مُحبّبٍ، وطبيبُ الأسنانِ يريدُ أنْ يُخلّصَ بعضَ المَرضَى من فوبيا العلاجِ، ومُوظفُ التسويقِ يتعلمُ أساليبَ الإقناعِ، وهَكذا.
إلّا أنّني اندهشتُ من انضمامِ زميلةٍ حائزةٍ شهادةَ دكتوراه في علمِ النفسِ التربويِّ في دورةٍ كُنتُ أظنُّها بسيطةً مقارنةً بدراستِها، فأفصحتْ لي عن مُعاناتِها، إذْ إنَّها حازتْ بعثةً وسافرتْ من أجلِ الشهادةِ بِرِفْقةِ زوجِها، تاركةً طفلَيها في المنزلِ معَ الخادمةِ لمدةِ عامَينِ، على اعتبارِ أنَّ بيتَها ملاصقٌ لبيتِ والدتِها، التي ستشرفُ على الأطفالِ، لكنَّهما لمْ يتلقَّيا العنايةَ اللازمةَ، حتى أصبحا في أَمسّ الحاجةِ للعلاجِ الإكلينيكيِّ والنفسيِّ، عادتْ بشهادةٍ ولقبٍ، لكنَّها رسبتْ في الأُمومة، أهمّ رسالةٍ لها في الحياةِ، ولا أدري كيفَ كانت تقرأُ ولا تحنُّ إلى أطفالِها المُهمَلينَ في البُعد.
كمثلِ دابّةٍ تحملُ أسفارًا، ظهرُها مُثقلٌ بالكُتبِ لكنّها لا تعقلُ ما فِيها، فلا تنتفعُ ولا تنفعُ غيرَها، هؤلاء يظلمُون أنفسَهم وغيرَهم.
تُرى كَمْ من طبيبٍ نَصَحَنا بالنشاطِ الجَسدي والاعتدالِ بالطعامِ والامتناعِ عن التّدخينِ، لكنّه لم يُحسنْ لنفسه صُنعًا!!، تراه سمينًا مَحنيَّ الأكتافِ، أصفرَ الأسنانِ، لاهثَ الأنفاس! وكمْ من حكيمٍ يسعى لحلِ مشاكلِ الناسِ لكنّهُ لا يعلمُ عن قضايا ذَويه شيئًا!
وما فائدةُ المالِ الذي جمعَه ثريٌّ ما، إن لم يُنفِقْ مالَه ووقتَه على ذَويه بعدلٍ واعتدالٍ في الوقتِ المناسبِ، بالتأكيدِ لن يحرقَ الورثةُ أموالَه كما حرقتْ بعضُ النساءِ كتبَ أزواجِهِنَّ، بل سيعيشونَ دون وعْي بما كانُوا محرومينَ منهُ، وقد ينْسونَ الدعاءَ له بالرحمة.
كمْ مِنْ شخصٍ أنْفقَ أموالَه فِيما لا يستحقُّ، وكَم من مُحامٍ حرمَ أبناءَه من العيشِ الكريمِ بعد طلاقِ أُمِّهم، وكمْ من ابنٍ لم يرأَفْ بوالدَيه حينَ أصابَهما الكِبَرُ!
كمْ من امرأةٍ تضعُ مصاريفَ رفاهيتِها وزينتِها وحياتها الاجتماعية على رأسِ أولوياتِها، يعودُ زوجُها للبيتِ ليجدَ أبناءَه مع الخادماتِ، فيسدُّ جوعَ بطنِه بما تيسّرَ من «طلبات»، ولكن ماذا عن خواءِ الرُّوح؟
تكمنُ الحكمةُ في الاعتدالِ باستشعارِ النِّعَم التي حولَنا، في الاهتمامِ بالذاتِ والإقبالِ على الآخرِ رُوحًا وجسدًا، والقناعة بأنّنا لو أردنا أنْ نُحسّنَ العالمَ، فعلينا أنْ نبدأَ بأنفسِنا.