بمجرد أن تنتهي الليلة الأخيرة من شهر شعبان ويدخل اليوم
الأوّل من رمضان المبارك يخالجك شعور مختلف، وروح مختلفة، وتصطفّ
أمامك الكثير من الصور الوجدانية ورسائل الشوق والمحبة والسلام
الداخلي.
لشهر رمضان فلسفة خاصة في صناعة أعلى درجات الانضباط
الذاتي، والشعور بالمسؤولية تجاه النفس والغير، وتتوقف كل معايير
الرقابة والتحكّم البشرية لتتحوّل إلى رقابة ذاتية والتزام روحي
بصوم نهار رمضان والابتعاد عن كل ملذات الحياة ومُتعها تزكية
للنفس وطلبًا للأجر وامتثالًا للرب.
من شهر رمضان نستلهم الكثير من الدروس والعبر ربما لن
نجدها في المدارس والجامعات وبطون الكتب، نتعلّم ثقافة التهذيب
والتأديب للذات، ونمارس التدريب على الكثير من الواجبات الروحانية
من الصيام والصدقة والبذل والعطاء والتطوّع ونفع الآخرين
والمنافسة على بذل الخير والإحسان.
في شهر رمضان نتعلّم كيف أن الألم في الصبر والمشقة على
الصيام يعزّزان في ذواتنا الرحمة والعطف على الآخرين، عندما نجوع
تطوعًا بالصيام وأمامنا الكثير من ملذات الحياة، نشعر بجوع الكثير
من المحتاجين طوال العام وهم لا يجدون ما يقتاتون به أيامهم
ولياليهم.
كم هي كثيرة العادات والرغبات التي نتمنّى أن نقلع عنها
طوال أيام السنة، ولكننا نعجز أمام جموح النفس ورغبتها في متع
الحياة، لكن شهر رمضان يضبط تلك الرغبات ويعدّل الكثير من
السلوكيات ويحولها إلى واحة من علو الروح وسلامة الجسد وصحته. إن
شهر رمضان الكريم موسم استثنائي للعمل والإنجاز والتدريب
والتهذيب، وفرصة لتغيير الكثير من العادات والسلوكيات الذاتية
والوظيفية، ويعدّ فرصة سانحة لتجاوز الكثير من الأعذار التي نتكئ
عليها طوال العام وتجعلنا عاجزين أمام الإقلاع عن ممارسات
وسلوكيات سلبية تجاه أنفسنا وتجاه غيرنا.
إن ما يميز مدرسة الثلاثين يومًا من رمضان أنها تضبط
إيقاع المجتمع المسلم على درجة واحدة من الانضباط، فالصيام حسب
فلسفة الرئيس البوسني الراحل علي عزت بيجوفيتش «ليس مجرد مسألة
إيمان، وليس مجرد مسألة شخصية تخص الفرد وحده، وإنما هو التزام
اجتماعي، وهو أكثر الوسائل التعليمية طبيعية وقوة، فهو يمارس في
قصور الملوك وفي أكواخ الفلاحين على السواء».
مدرسة رمضان مدرسة ذاتية للتغيير والبناء، ينبغي أن
نستغلها في عمليّة تصحيح أنفسنا من الداخل، في تعديل سلوكنا مع
الآخرين، في تصحيح تصوراتنا تجاه الكثير من الأمور المادية
والمعنوية وتجاه الحياة بشكل عام، والأهم من ذلك في تعزيز الصلة
المتينة بحبل السماء والقرب من خالق الكون بالطريقة الأسمى
والأرقى.
ومن أهم دروس رمضان أنه يُعلمنا تجسيد ثقافة الاعتدال،
الاعتدال في ذواتنا، الاعتدال في تعاملنا مع من نتفق، ومع من
نختلف، الاعتدال في القول والممارسة، والأهم من ذلك أنه يعزّز في
أنفسنا مشاعر الوحدة والأخوة والمحبة والتسامح والمصير
المشترك.
كثير من الناس يستعد لرحلة رمضان ويعد لها العدّة لكي
يخرج منها بحصيلة كبيرة من التهذيب الروحي، ومراجعة النفس،
واستحضار الأخطاء والهفوات، ومعالجة السلبيات، وتقويم السلوكيات
في التعامل مع الأسرة والمجتمع والعمل والآخر.
أعرف موظفًا يحوّل شهر رمضان إلى ورشة عمل شخصية، وغرفة
تدريب دائمة، فهو يتنقل بين لذة الصوم وقراءة القرآن وتأدية
النوافل والمنافسة في العطاء وخدمة الآخرين، وفي نفس الوقت يتدارس
مع نفسه كثيرًا من تجاربه وأعماله السابقة، ويتخذ من رمضان محطة
للانطلاق في المستقبل، بل وأذهلني أنه قد أعد مجموعة من الكتب
القيّمة لمطالعتها خلال شهر رمضان في صنوف مختلفة من
المعرفة.
وفي الاتجاه الآخر ومن تجربة شخصية وجدت الكثير من الشباب
والموظفين من الرجال والنساء يحوّلون شهر رمضان إلى إجازة
إجباريّة عن العمل والإنجاز، ينخفض إنتاجهم، وتقلّ درجة انضباطهم،
ويقلّ الوفاء بالالتزامات تجاه الآخرين، بل والأسوأ من ذلك تتغيّر
نفسياتهم وتسوء أخلاقهم، خصوصًا من كانوا في الصفوف الأمامية
للتعامل مع العملاء.
خبيرة ومدرّبة في مجال التنمية البشرية والتطوير المؤسسي