عرفت نصير
النهر منذ زمن طويل، عرفته عن بعد كاتباً مُجيداً سلس
العبارة، نقي اللغة، وافر المعرفة، حتى انعكس ذلك على ثراء
المعاني عنده وجزالته، وحين كنت ألتقيه مصادفةً في جريدة
الجمهورية، كنت ألمس أدبه وحياءه، وأدرك أن خلف ذلك الأدب الجم
قلباً رقيقاً يغلفه الحياء والهدوء، لكنّي لم أدر أن هذا
الهادئ الحيي يخفي تحت قميصه شاعراً كبيراً، حتى التقيته
بعد سنوات طويلة في بعض المناسبات الثقافية في الشارقة، وربما
بتقصير مني او بسبب انشغالاتي الكثيرة، وربما بسبب تواضعه في
الإعلام والنشر، رغم أنه كان قد شغل الصحافة العراقية بحراكه
الإعلامي، إذ عمل ما يقرب من ثلاثين عاماً في صحيفة
الجمهورية ومجلة ألف باء، كما عمل في صحيفتي النور والتآخي،
ومنذ عشرين عاماً وهو يكتب في صحيفة البيان الإماراتية،
ولعل عمله الصحفي وقلمه الإعلامي الذكي غطّى على حضوره
الشعري ...
أحتفي اليوم بصدور ديوانه (يا طارقاً بابي) عن دار المدى،
بواقع 130 صفحة من القطع المتوسط.
وحين أقول (أحتفي) ذلك أن الشاعر نصير النهر منحني
فرصة الدخول إلى عالمه الشعري، فأجدني اُحلق مع كل قصيدة
فاُفارق مكاني وزماني لصحبتها بشغف المحبة للشعر الحقيقي،
ولهفة المشتاقة لسحر اللغة ومتعة الخيال وأسرار الشاعر في
الحلِّ والترحال.
تسعةُ وأربعون قصيدة معظمها من شعر التفعيلة يستفتحها
بإهداءٍ شعري لابنه البكر أوس، حيث يقول:
لأوسٍ لو كتبتُ، لَما كتبتُ/ لأني ما وجدتُ "وصيف"
أوسي.
ويكفي أوس هذا البيت من الفخر الأبوي الجميل.
كلمة انيق
ولا يمكنني أن لا أمر على الكلمة الأنيقة لكريمة الشاعر
المهندسة نور النهر، التي أهدت والدها كلمة عنونتها "الأجنحة
كنزٌ لا يفنى"، ومما قالته فيها: (يكبر الأطفال وهم على
اعتقاد بأن آباءهم أبطال خارقون، ثم يكبر الأطفال... فرصة
الحياة مع نصير النهر في بيت واحد رسّخت اعتقاد (البطل
الخارق)، هذه الطفلة لن تكبر... والدها منحها موهبة السفر عبر
الزمن، فمدمنة اللغة تستطيع أن تطير على جناح الكلمة، وأن
تستشعر عظمة المتنبي، وسطوة الجواهري وتصريفه للكلمات، وبلاغة
عبد الرزاق عبد الواحد، وشفافية الشعر الشعبي لمظفر النواب،
بمجرد أن تقرأ بضعة أبيات كتبها نصير النهر.
شكراً بابا ... "الأجنحة كنزٌ لا يفنى")
لغة نصير النهر شفافةٌ كماء ينبوع فلق صخرتين وتهادى رقراقاً،
ورقيقة كأجنحة الفراشات... يقول في القصيدة الأولى " يا
طارقاً بابي: "يا طارقاً بابي/ ماذا وراء الباب؟ / أنا…
وهذا الموقد الخابي/ والليل للأغراب/ قاسٍ وأقسى منه
أحبابي ..."
تحيلنا القصيدة إلى أجواء الغربة والوحدة في شتاءٍ لا
قريب يطرق بابه ولا حبيب، ونحس بأن مرارة الشاعر في ذلك
الاغتراب جعلته يتخيل أن أحداً ما طرق بابه، وفي الحقيقة لا
أحد، بدليل أنه ختم القصيدة بقوله:
“بردانٌ / والثلج في الشباك / والريح في الجدران/ وأنتَ،
في البابِ... فلتبق في البابِ".
إذاً لا أحد خلف الباب سوى الوهم الذي فجّر عنده القصيدة،
ولعل حدّة الوجع في القصيدة حين يقول:
"يا طارقاً بابي / هل جئتني يوماً بأخبارِ؟ / عن أيِّما
ليلٍ وسمّارِ؟ / أم عن حبيبٍ لستُ أدري أين؟ / ضيعتهُ
في ملتقى الريحين/ حبّي وأسفاري/ أم جئتني تستاف
قيثاري؟ / حطّمتهُ / جعلتُ من أخشابه ناري/ ثم انتهت/ لا
شيء غير البرد في داري ..."
وفي قصيدته الجميلة (ورد الصباح) حين تعوّدت منه أن
يصبّحها بباقة ورد، ثم انقطع عنها ذات يوم ورد الصباح فتراه
يقول عنها: "لماذا تأخر في ذات يوم، صباحكِ ورد ـ؟ /
لماذا قلقتُ عليك؟ // تعودت أنك أنتِ صباحي الأنيق / ومن
دون شمّةِ عطرك لا أستفيق/ فهل لستَ حقاً
حبيبي؟ ...
ومثلما يشغله الحب والربيع ويتغنى بالشمس والمطر، يبث همومه
لليل ساهراً وشاكياً غربته الوجودية في عالم قاسٍ تحولت
غاباته إلى حطب تراه يرثي أخاً ويغضب لغضب الأرض التي ولد
عليها وتربى في أحضانها، يقول في قصيدة (الأرضُ من بعدنا
غاباتها حطب) : "وأنت يا نبعة الريحان ما انتقعت / بالحزن
يوماً رياحٌ فيك تصطخبُ / ولا دجى لك صبح الأمنيات ،
ولا / على قطاك سموماً أمطر القصبُ / لم تسمعي المطر
الشمسي ينتحبُ / ولم تري قمر الأمطارِ ينقلبُ / ربيعك
الغض تزهيه ملائكه / يديف أقزاحه في ريشها الزَغَبُ" حتى
ِ يقول في ختامها :" وفي عيوني، عيوني
أنتِ، أحملها / نهراً تفيض ُعلى موجاته الشهبُ/ من وحي
عينيك في الشباك ترتقبُ / من أجل عينيك ، لا نعسٌ ،
ولا تعبُ "
وقد ذيّل الشاعر هذه القصيدة بما كتبه عنها الشاعر
عبد الرزاق عبد الواحد بهذه العبارات: "الأرضُ من بعدنا
غاباتها حطبُ ...! صدقت والله يا نصير... منذ أمدٍ طويلٍ
وبي عطش الصحراء إلى شعرٍ حقيقيٍّ أسمعه... وأسمعتنيه
الآن. شكراً لك ... ولا جفّ نبعك أيّها الصديق الحبيب،
والشاعر المبدع والإنسان الرائع.
وأجري مع هذا النبع الشعري الصّافي قصيدةً فقصيدة
ولا أملُّ من الترحال فألتقي في ضيافته الجواهري في قصيدة
عصماء: " أبا الفرات حشدنا في قياثرنا / من كلِّ جرح،
مدمّاة، قوافينا " " أبا فرات، أجزني أن أقول أخي / فقد
أجازت لي النجوى مراثينا / دعني أبوح بما في القلبِ من
ألمٍ / يدير فيه من الذكرى طواحينا".
وما أن تتفتح قريحته في رثاء أبيه حتى يناجيه قائلاً:
"أبي أجبني، تحدث عنك عن خبرٍ/ ومد لي كف عوّانٍ على
الكُرَبِ / عرفتُ فيك عراق النبل في رجلٍ / إذا النبوءات
عزّت فالعراقُ نبي / ورافداهُ وأنت النهرُ بينهما / من
المزيّات حتى الاسم والنسبِ ".
وما أجمل التلقائية في الغزل حين يقول في قصيدة
(ليست قصيدة): " أعترفُ أنني هُزمت ُ/ في معركةٍ لم
أخضها أبداً / لم أسمع بها أبداً / معركة السيكارة التي تنطفئ
كلَّ لحظةْ / وعود الثقاب الذي لم يشتعل! / وانتظاري
الطويل داخل القلب المغلق ..."
وكلما سرّحتُ النظر في بوحه الشجي رأيت عوالم من شوقٍ
ولهفةٍ واغتراب والرجعى إلى ذلك المساء الذي يرافق وجده وحنينه
للعالم الأفضل الذي يتمناه وللوجوه التي يحبها.
نصير النهر يغرف من نهر الشعر بلا تكلّف ولا تقعيرٌ
للغة، ويموسقها كيف يشاء ليكـــون مرورها على القلب
رهيفاً.
معاناة الم
وفي قصائده أملٌ وانتظارٌ، رغم ما عاناه من ألم، وكأنه
يداوي الألم بالأمل، بلا قنوط ولا يأس، فقد عركته
المحن بصمت وجعلته يلوذ بالشعر، مرةً عاشقاً، ومرةً
ثائراً، وأخرى غريباً يتأمل موقده في مساءٍ مدجج
بالثلوج.
وربما أختتم قولي بما شدّني أكثر في قصيدته (صفصافة
الدار)، وهي رمز لشريكة حياته (ندى)، حيث قال فيها:
"في نظرةٍ للماء /وجدت وجه امرأةٍ شفافةٍ كالماء /
يشبه وجهي خلته أنا / فكانت الندى/ وكانت الصفصاف “.
ولا غرابة أن يلتقي النهرُ مع الندى فيفيض ُ شعراً
فراتاً.