نصير النهر‮ ‬يحتطب الغربةَ‮ ‬لموقد شعره

2021/01/18

‬ساجدة الموسوي


عرفت نصير النهر منذ زمن طويل،‮ ‬عرفته عن بعد كاتباً‮ ‬مُجيداً‮ ‬سلس العبارة،‮ ‬نقي‮ ‬اللغة،‮ ‬وافر المعرفة،‮ ‬حتى انعكس ذلك على ثراء المعاني‮ ‬عنده وجزالته،‮ ‬وحين كنت ألتقيه مصادفةً‮ ‬في‮ ‬جريدة الجمهورية،‮ ‬كنت ألمس أدبه وحياءه،‮ ‬وأدرك أن خلف ذلك الأدب الجم قلباً‮ ‬رقيقاً‮ ‬يغلفه الحياء والهدوء،‮ ‬لكنّي‮ ‬لم أدر أن هذا الهادئ الحيي‮ ‬يخفي‮ ‬تحت قميصه شاعراً‮ ‬كبيراً،‮ ‬حتى التقيته بعد سنوات طويلة في‮ ‬بعض المناسبات الثقافية في‮ ‬الشارقة،‮ ‬وربما بتقصير مني‮ ‬او بسبب انشغالاتي‮ ‬الكثيرة،‮ ‬وربما بسبب تواضعه في‮ ‬الإعلام والنشر،‮ ‬رغم أنه كان قد شغل الصحافة العراقية بحراكه الإعلامي،‮ ‬إذ عمل ما‮ ‬يقرب من ثلاثين عاماً‮ ‬في‮ ‬صحيفة الجمهورية ومجلة ألف باء،‮ ‬كما عمل في‮ ‬صحيفتي‮ ‬النور والتآخي،‮ ‬ومنذ عشرين عاماً‮ ‬وهو‮ ‬يكتب في‮ ‬صحيفة البيان الإماراتية،‮ ‬ولعل عمله الصحفي‮ ‬وقلمه الإعلامي‮ ‬الذكي‮ ‬غطّى على حضوره الشعري‮ ...‬
أحتفي‮ ‬اليوم بصدور ديوانه‮ (‬يا طارقاً‮ ‬بابي‮) ‬عن دار المدى،‮ ‬بواقع‮ ‬130 صفحة من القطع المتوسط‮.‬
‮ ‬وحين أقول‮ (‬أحتفي‮) ‬ذلك أن الشاعر نصير النهر منحني‮ ‬فرصة الدخول إلى عالمه الشعري،‮ ‬فأجدني‮ ‬اُحلق مع كل قصيدة فاُفارق مكاني‮ ‬وزماني‮ ‬لصحبتها بشغف المحبة للشعر الحقيقي،‮ ‬ولهفة المشتاقة لسحر اللغة ومتعة الخيال وأسرار الشاعر في‮ ‬الحلِّ‮ ‬والترحال‮.‬
‮ ‬تسعةُ‮ ‬وأربعون قصيدة معظمها من شعر التفعيلة‮ ‬يستفتحها بإهداءٍ‮ ‬شعري‮ ‬لابنه البكر أوس،‮ ‬حيث‮ ‬يقول‮:‬
لأوسٍ‮ ‬لو كتبتُ،‮ ‬لَما كتبتُ‮/ ‬لأني‮ ‬ما وجدتُ‮ "‬وصيف‮" ‬أوسي‮.‬
ويكفي‮ ‬أوس هذا البيت من الفخر الأبوي‮ ‬الجميل‮.‬
كلمة انيق
‮ ‬ولا‮ ‬يمكنني‮ ‬أن لا أمر على الكلمة الأنيقة لكريمة الشاعر المهندسة نور النهر،‮ ‬التي‮ ‬أهدت والدها كلمة عنونتها‮ "‬الأجنحة كنزٌ‮ ‬لا‮ ‬يفنى‮"‬،‮ ‬ومما قالته فيها‮: (‬يكبر الأطفال وهم على اعتقاد بأن آباءهم أبطال خارقون،‮ ‬ثم‮ ‬يكبر الأطفال‮... ‬فرصة الحياة مع نصير النهر في‮ ‬بيت واحد رسّخت اعتقاد‮ (‬البطل الخارق‮)‬،‮ ‬هذه الطفلة لن تكبر‮... ‬والدها منحها موهبة السفر عبر الزمن،‮ ‬فمدمنة اللغة تستطيع أن تطير على جناح الكلمة،‮ ‬وأن تستشعر عظمة المتنبي،‮ ‬وسطوة الجواهري‮ ‬وتصريفه للكلمات،‮ ‬وبلاغة عبد الرزاق عبد الواحد،‮ ‬وشفافية الشعر الشعبي‮ ‬لمظفر النواب،‮ ‬بمجرد أن تقرأ بضعة أبيات كتبها نصير النهر‮.‬
شكراً‮ ‬بابا‮ ... "‬الأجنحة كنزٌ‮ ‬لا‮ ‬يفنى‮")‬
لغة نصير النهر شفافةٌ‮ ‬كماء‮ ‬ينبوع فلق صخرتين وتهادى رقراقاً،‮ ‬ورقيقة كأجنحة الفراشات‮... ‬يقول في‮ ‬القصيدة الأولى‮ " ‬يا طارقاً‮ ‬بابي‮: "‬يا طارقاً‮ ‬بابي‮/ ‬ماذا وراء الباب؟‮ / ‬أنا‮… ‬وهذا الموقد الخابي‮/ ‬والليل للأغراب‮/ ‬قاسٍ‮ ‬وأقسى منه أحبابي‮ ..."‬
‮ ‬تحيلنا القصيدة إلى أجواء الغربة والوحدة في‮ ‬شتاءٍ‮ ‬لا قريب‮ ‬يطرق بابه ولا حبيب،‮ ‬ونحس بأن مرارة الشاعر في‮ ‬ذلك الاغتراب جعلته‮ ‬يتخيل أن أحداً‮ ‬ما طرق بابه،‮ ‬وفي‮ ‬الحقيقة لا أحد،‮ ‬بدليل أنه ختم القصيدة بقوله‮:‬
“بردانٌ‮ / ‬والثلج في‮ ‬الشباك‮ / ‬والريح في‮ ‬الجدران‮/ ‬وأنتَ،‮ ‬في‮ ‬البابِ‮... ‬فلتبق في‮ ‬البابِ‮".‬
إذاً‮ ‬لا أحد خلف الباب سوى الوهم الذي‮ ‬فجّر عنده القصيدة،‮ ‬ولعل حدّة الوجع في‮ ‬القصيدة حين‮ ‬يقول‮:‬
‮"‬يا طارقاً‮ ‬بابي‮ / ‬هل جئتني‮ ‬يوماً‮ ‬بأخبارِ؟‮ / ‬عن أيِّما ليلٍ‮ ‬وسمّارِ؟‮ / ‬أم عن حبيبٍ‮ ‬لستُ‮ ‬أدري‮ ‬أين؟‮ / ‬ضيعتهُ‮ ‬في‮ ‬ملتقى الريحين‮/ ‬حبّي‮ ‬وأسفاري‮/ ‬أم جئتني‮ ‬تستاف قيثاري؟‮ / ‬حطّمتهُ‮ / ‬جعلتُ‮ ‬من أخشابه ناري‮/ ‬ثم انتهت‮/ ‬لا شيء‮ ‬غير البرد في‮ ‬داري‮ ..."‬
‮ ‬وفي‮ ‬قصيدته الجميلة‮ (‬ورد الصباح‮) ‬حين تعوّدت منه أن‮ ‬يصبّحها بباقة ورد،‮ ‬ثم انقطع عنها ذات‮ ‬يوم ورد الصباح فتراه‮ ‬يقول عنها‮: "‬لماذا تأخر في‮ ‬ذات‮ ‬يوم،‮ ‬صباحكِ‮ ‬ورد ـ؟‮ / ‬لماذا قلقتُ‮ ‬عليك؟‮ // ‬تعودت أنك أنتِ‮ ‬صباحي‮ ‬الأنيق‮ / ‬ومن دون شمّةِ‮ ‬عطرك لا أستفيق‮/ ‬فهل لستَ‮ ‬حقاً‮ ‬حبيبي؟‮ ...‬
ومثلما‮ ‬يشغله الحب والربيع ويتغنى بالشمس والمطر،‮ ‬يبث همومه لليل ساهراً‮ ‬وشاكياً‮ ‬غربته الوجودية في‮ ‬عالم قاسٍ‮ ‬تحولت‮ ‬غاباته إلى حطب تراه‮ ‬يرثي‮ ‬أخاً‮ ‬ويغضب لغضب الأرض التي‮ ‬ولد عليها وتربى في‮ ‬أحضانها،‮ ‬يقول في‮ ‬قصيدة‮ (‬الأرضُ‮ ‬من بعدنا‮ ‬غاباتها حطب‮) : "‬وأنت‮ ‬يا نبعة الريحان ما انتقعت‮ / ‬بالحزن‮ ‬يوماً‮ ‬رياحٌ‮ ‬فيك تصطخبُ‮ / ‬ولا دجى لك صبح الأمنيات‮ ‬،‮ ‬ولا‮ / ‬على قطاك سموماً‮ ‬أمطر القصبُ‮ / ‬لم تسمعي‮ ‬المطر الشمسي‮ ‬ينتحبُ‮ / ‬ولم تري‮ ‬قمر الأمطارِ‮ ‬ينقلبُ‮ / ‬ربيعك الغض تزهيه ملائكه‮ / ‬يديف أقزاحه في‮ ‬ريشها الزَغَبُ‮" ‬حتى‮ ‬ِ‮  ‬يقول في‮ ‬ختامها‮ :" ‬وفي‮ ‬عيوني،‮ ‬عيوني‮ ‬أنتِ،‮ ‬أحملها‮ / ‬نهراً‮ ‬تفيض‮ ‬ُعلى موجاته الشهبُ‮/ ‬من وحي‮ ‬عينيك في‮ ‬الشباك ترتقبُ‮ / ‬من أجل عينيك‮ ‬،‮ ‬لا نعسٌ‮ ‬،‮ ‬ولا تعبُ‮ "‬
‮  ‬وقد ذيّل الشاعر هذه القصيدة بما كتبه عنها الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد بهذه العبارات‮: "‬الأرضُ‮ ‬من بعدنا‮ ‬غاباتها حطبُ‮ ...! ‬صدقت والله‮ ‬يا نصير‮... ‬منذ أمدٍ‮ ‬طويلٍ‮ ‬وبي‮ ‬عطش الصحراء إلى شعرٍ‮ ‬حقيقيٍّ‮ ‬أسمعه‮... ‬وأسمعتنيه الآن‮. ‬شكراً‮ ‬لك‮ ... ‬ولا جفّ‮ ‬نبعك أيّها الصديق الحبيب،‮ ‬والشاعر المبدع والإنسان الرائع‮.‬
‮ ‬وأجري‮ ‬مع هذا النبع الشعري‮ ‬الصّافي‮ ‬قصيدةً‮ ‬فقصيدة ولا أملُّ‮ ‬من الترحال فألتقي‮ ‬في‮ ‬ضيافته الجواهري‮ ‬في‮ ‬قصيدة عصماء‮: " ‬أبا الفرات حشدنا في‮ ‬قياثرنا‮ / ‬من كلِّ‮ ‬جرح،‮ ‬مدمّاة،‮ ‬قوافينا‮ " " ‬أبا فرات،‮ ‬أجزني‮ ‬أن أقول أخي‮ / ‬فقد أجازت لي‮ ‬النجوى مراثينا‮ / ‬دعني‮ ‬أبوح بما في‮ ‬القلبِ‮ ‬من ألمٍ‮ / ‬يدير فيه من الذكرى طواحينا‮".‬
‮ ‬وما أن تتفتح قريحته في‮ ‬رثاء أبيه حتى‮ ‬يناجيه قائلاً‮: "‬أبي‮ ‬أجبني،‮ ‬تحدث عنك عن خبرٍ‮/ ‬ومد لي‮ ‬كف عوّانٍ‮ ‬على الكُرَبِ‮ / ‬عرفتُ‮ ‬فيك عراق النبل في‮ ‬رجلٍ‮ / ‬إذا النبوءات عزّت فالعراقُ‮ ‬نبي‮ / ‬ورافداهُ‮ ‬وأنت النهرُ‮ ‬بينهما‮ / ‬من المزيّات حتى الاسم والنسبِ‮ ".‬
‮ ‬وما أجمل التلقائية في‮ ‬الغزل حين‮ ‬يقول في‮ ‬قصيدة‮ (‬ليست قصيدة‮): " ‬أعترفُ‮ ‬أنني‮ ‬هُزمت‮ ‬ُ‮/ ‬في‮ ‬معركةٍ‮ ‬لم أخضها أبداً‮ / ‬لم أسمع بها أبداً‮ / ‬معركة السيكارة التي‮ ‬تنطفئ كلَّ‮ ‬لحظةْ‮ / ‬وعود الثقاب الذي‮ ‬لم‮ ‬يشتعل‮! / ‬وانتظاري‮ ‬الطويل داخل القلب المغلق‮ ..."‬
وكلما سرّحتُ‮ ‬النظر في‮ ‬بوحه الشجي‮ ‬رأيت عوالم من شوقٍ‮ ‬ولهفةٍ‮ ‬واغتراب والرجعى إلى ذلك المساء الذي‮ ‬يرافق وجده وحنينه للعالم الأفضل الذي‮ ‬يتمناه وللوجوه التي‮ ‬يحبها‮.‬
‮ ‬نصير النهر‮ ‬يغرف من نهر الشعر بلا تكلّف ولا تقعيرٌ‮ ‬للغة،‮ ‬ويموسقها كيف‮ ‬يشاء ليكـــون مرورها على القلب رهيفاً‮.‬
معاناة الم
وفي‮ ‬قصائده أملٌ‮ ‬وانتظارٌ،‮ ‬رغم ما عاناه من ألم،‮ ‬وكأنه‮ ‬يداوي‮ ‬الألم بالأمل،‮ ‬بلا قنوط ولا‮ ‬يأس،‮ ‬فقد عركته المحن بصمت وجعلته‮ ‬يلوذ بالشعر،‮ ‬مرةً‮ ‬عاشقاً،‮ ‬ومرةً‮ ‬ثائراً،‮ ‬وأخرى‮ ‬غريباً‮ ‬يتأمل موقده في‮ ‬مساءٍ‮ ‬مدجج بالثلوج‮.‬
وربما أختتم قولي‮ ‬بما شدّني‮ ‬أكثر في‮ ‬قصيدته‮ (‬صفصافة الدار‮)‬،‮ ‬وهي‮ ‬رمز لشريكة حياته‮ (‬ندى‮)‬،‮ ‬حيث قال فيها‮: "‬في‮ ‬نظرةٍ‮ ‬للماء‮ /‬وجدت وجه امرأةٍ‮ ‬شفافةٍ‮ ‬كالماء‮ / ‬يشبه وجهي‮ ‬خلته أنا‮ / ‬فكانت الندى‮/ ‬وكانت الصفصاف‮ ‬“.
ولا‮ ‬غرابة أن‮ ‬يلتقي‮ ‬النهرُ‮ ‬مع الندى فيفيض‮ ‬ُ‮ ‬شعراً‮ ‬فراتاً‮.‬
‮ ‬

أخترنا لك
جائزة “الشيخ زايد للكتاب” تفتح باب الترشيح لدورتها 15

(ملف)عاشوراء : انتصار الدم على السيف

المكتبة