بشرى البستاني
مهما اختلفت الآراء حول حضور التراث في التجربة الشعرية العربيةالمعاصرة، فإن هذه التجربة في نماذجها المهمة عملت على إلقاء الضوء على مكوناته ونصوصه الايجابية وبث الحياة من جديد في جذوره الأصيلة عبر صور تستلهم ولا تقلد، صور حريصة على ابراز القيم الانسانية لهذا التراث وتقديمه في حلة جديدة معبرة عن هموم الانسان المعاصر ومجسدة معاناته في ظل حضارة مادية استغلت الانسان أبشع استغلال واستلبته اقتصاديا واجتماعيا وشوهت حياته بالحروب والاحتلالات والتهجير والعدوان.
إن التراث بحسب المؤلف الدكتور عبد المطلب محمود يشكل أحد أهم المرتكزات المكونة لأسس البنية الشعرية العميقة لنصوص الشعراء منذ ظهور هذا الشعر في عصر ما قبل الاسلام والى يومنا هذا حتى صارت عملية التفاعل ما بين نصوص الشعراء عبر العصور تأخذ مسميات ومفاهيم ،وتلبس أردية من مصطلحات بدأت منذ القرن الرابع للهجرة ولم تتوقف حتى الآن، وقد تم تداولها بدءاً من الآمدي الذي بحث في ما سماه سرقات أبي تمام ومحمد بن الحسن الحاتمي الذي اتهم المتنبي بالتهمة ذاتها لكن المصطلحات تتغير وتتطور بتطور الحياة من حولها فصار ما عرف بالسرقة يعرف بالتناص في العصر الحديث واستلهام النصوص وقصيدة القناع وكل هذه المصطلحات غدت معروفة في الأجهزة المصطلحية المعاصرة وصار ما يدخل في باب التراث يعني أكثر ما يعني النظم الثقافية والعادات والتقاليد فضلا عن الاساطير والأغاني الشعبية والملاحم والنصوص الدينية والنصوص شعرا ونثرا. ويشير المؤلف الى انه ارتأى ان تقتصر الدراسة على محطات بعينها منها :
- الوقوف على ما يمكن أن يكون تراثا منغلقا على الحدث المركزي للنص..
- الوقوف على مداليل التراث المفتوح على المستقبل والمتجه لتثوير بؤر النص المركزية..
الوقوف على ما أمكن للشاعر حميد سعيد استبداله من مداليل قارة تاريخيا بما أدى بها للتحول الى تراث بمداليل منفلتة من أحيازها،الى مواقع وتشكيلات يشير إليها الشاعر ويجعل منها تراثاً جديدا لعلاقات لم تظهروتتشكل بعد.
تجربة معاصرة
لقد تباينت الآراء والمواقف حيال التجربة الشعرية المعاصرة ، وإنقسم النقاد إلى فريقين. فريق إتهم رواد هذه التجربة الشعرية الحداثية بالخروج على عمود الشعر العربي والإنفصال عن التراث، والتنكر له ومحاولة قتله. مع العلم أنّ هذا الرأي لم يكن مبنياً على حجج وأدلة منطقية، بل كان إنطلاقاً من مواقف شخصية، لا تمت للدفاع عن التراث بصلة..
والفريق الثاني دافع عن هذه التجربة الشعرية الحداثية بإعتبارها تجربة إنسانية تعكس واقعا إنسانياً معاصراً يخضع لعوامل إجتماعية، وإقتصادية وسياسية مختلفة. كما أنّها تهدف الى دراسة جديدة للتراث على أسس جمالية فنية وإنسانية يمكن الأخد بها وبلورتها في ظل المعاصرة..
لقد أكدت التجربة الشعرية المعاصرة أنها لم تتنكر للتراث بل عملت على إحيائه وتثبيت جذوره وتأصيله عبر تجارب جديدة استمدت حيويتها من تلك الجذور الحية التي مازالت ترفد الذاكرة العربية بأروع الصور..
- هذا وقد تشكلت الدراسة من مقدمة وخاتمة وخمسة فصول كانت كالآتي:
-الأول، منابع التراث العربي والانساني .. وقد تناول المحاور الآتية:
- التأسيس، تراث في البواكير.
- تراث الغناء.
- تراث الشعر والتاريخ.
- تراث الكتب المقدسة.
الفصل الثاني ..تراث الأفق والفوضى والورد والرماد ..وتضمن المحاور الآتية :
- إشارات كاشفة
- تراث الأفق الأوسع
- تراث ما في الفوضى
- تراث الورد والرماد.
الفصل الثالث تراث المشهد المختلف والمورسكي
1- تراث في (مشهد مختلف)
2- تراث في (من أوراق الموريسكي)
الفصل الرابع :
تراث في (أولئك أصحابي)
تراث في (ما تأخر من القول )
ما يشبه الخاتمة ..
يؤكد المؤلف أن ثيمة الدراسة توزعت على ثيمات فرعية عدة في شعر الشاعر وشكلت إحدى مرتكزات أسس البنية الشعرية العميقة في دواوينه وكان هذا الموضوع من السعة والتنوع والتعدد والشمولية بحيث يتقدم ليكون واحداً من أهم الموضوعات التي تناولتها الدواوين المدروسة، وفيما يتعلق بمصادر البحث فإن الباحث يؤكد حقيقة كثرة المصادر والمراجع والكتب والدراسات والمقالات والصفحات المتفرقة اليومية والاسبوعية التي درست هذا الشعر وأشرت موضوعة التراث فيه بكل ألوانه وتشكلاته ، والملاحظ أن المؤلف ولكي يكشف في دراسته عن المهيمنات التراثية التي وجهت عمله في كل ديوان فقد وقف عند بعض الآراء النقدية التي اضاءت الموضوع ومنها رأي الشاعر سامي مهدي الذي كان يرى ان الشاعر حميد سعيد مؤمن بالتراث ايمانا عميقا ومنفتحا على منجزات التراث العربي والعالمي ساعياًا في ذلك إلى تحقيق التواصل والتجدد، وكذلك كان رأي الدكتور نجمان ياسين الذي وجد في شخصيات ماريا ومروان وبستان عبد الله وأبي يعلى الموصلي وغيرهم رموزا جديدة تشكلت على وفق رؤية جديدة، ويرى الد.عبد المطلب أن شعر حميد سعيد شكّل تناصا مع نصوص الكتب المقدسة وقصص الانبياء والموروثات الدينية الأخرى،فهو يماثل ويمزج القديم بالحديث مشكلا رؤى جديدة لشعرية جديدة:
في كربلاء صوت زينبٍ يحاور السيوف
يقارع الرجالَ والأسنةْ
يشق أنهار الرمال عنوة
يزرع حقد الريح في الأجنة..
ومثل القصيدة المعاصرة التي تراسلت فيها الأجناس نجد في قصيدة حميد الغناء والموسيقى والرقص وأغاني من الفلكلور الشعبي:
ياقمر ياحلبي
قل لابويه خل يجي
يجيبلي سلة عنب
والعنب ما اريده الاعمال الشعرية،301.
ولا يقتصر التناص لديه مع الشعر العربي بل هو ينظر الى ما يستهويه من تراث الشعر الإنساني ملتفاً إلى لوركا والأندلس:
بالمهرة يستبدل لوركا بيت حبيبته
مرآة حبيبته
صندوق الزينة الاعمال الشعرية،301.
ويمزج بين الكارثتين ،القدس والاندلس:
تخلع القدس قمصانها في شوارع مدريد
تعرى ،تجوعُ
تدقُّ النوافذ ،مدريد تغلق أبوابها في العشياتِ
وتشرب مدريدُ من دم أطفالها .. الأعمال الشعرية ،308.
ويلتفت الشعر من ولادة الى علي بن الجهم والمتنبي ،الى السياب ووفيقة :
أنت هنا وعيون المها في الرصافةِ
أيكما يعبر الجسرَ
أيكما يستطيع الاقامةَ
أيكما يستضيف الينابيعَ
أيكما تسكن القبراتُ قصائدهُ الأعمال، 307.
وتواصل القصيدة رحلتها العذبة بهذه الغنائية المتوهجة والاستفهامات التي توقظ أعمق مافي المتلقي من أحاسيس مع صعود النغم وهبوطه حيث تفعل شعرية الأسئلة فعلها في خلق جو من النشاط المثير الذي يحفز النص على إثارة انتباه التلقي،منتقلاً بين الماضي والحاضرحيث لا تعدم القصيدة نقاط التقاء بين الزمنين :
فقراءُ سومرَ يبدأون نشيدهم ليلا
فإن عاد النهار
صمتوا وحلَّ بهم دوار..
فأي دوار ذلك الذي يوقف النشيدَ مع النهار ويحيل المنشدين على صمت جماعي..! ولعل من اللحظات النقدية الجميلة أن يحيلنا الشاعر والناقد معا على لحظات أندلسية وآيات قرآنية وشعر جاهلي واسلامي وصوفي وهندي وغربي فيحضر أبو نواس والمتنبي وسحيم وأبو العلاء وعلي بن الجهم وغيرهم كثر مما يؤكد سعة أفق شعرحميد وتواصله مع التراثين العربي الإسلامي والعالمي.
***
ملاحظات الختام
ختاماً لعل الملاحظات الآتية أهم ما يمكن الوقوف عنده نهايةً لهذه الورقة التعريفية:
- عدم الاستسلام للتنظيرات التي يستسلم لها الباحث الأكاديمي،ويطيل بها وفيها، بل كان الدكتورعبد المطلب يكتفي منها بما يوضح مراده ويلقي الضوء على مباحثه ومحاوره.
- الإشادة بالاختيارات الشعرية التي استشهد بها الباحث وبمدى تجاوبها مع التنظيرات التي جاءت تصديقاً لمسيرتها.
- نجح الكتاب في تدوين مثابرة الشاعر حميد سعيد في متابعة الجديد، والاطلاع على المتاح من الشعرالعالمي والسعي لتحقيق تطلعات القصيدة في النهوض بمهماتها التركيبية والدلالية والجمالية معاً،مما جعلها متاحة لدراسة تأويلية تفكك وتربط وتحلل وتعيد التركيب .
- لم يكن سعي الشاعر وقصيدته التراسل مع التراث العربي والاسلامي حسب،بل كان التوجه عربيا وعالميا مما وسّع أفق القصيدة ولوّن نسيجها وجعلها قصيدة مضيافة مفتوحة الأبواب والنوافذ والشرفات على أكثر من أفق.
- كان التراسل مع الفنون المختلفة سمة شعر الشاعر منذ بداياته الاولى، وقد أدرك الباحث هذه السمة وأشّرها واستشهد لها فقصيدة حميد سعيد قصيدة متراسلة مع الغناء والموسيقى ومع الفلكلور الشعبي والرقص والمسرح، وهكذا..
- بالرغم من ثراء مدونة الشاعر إلا أن الباحث لم يقع في الإرباك،بل بقي هادئ الأسلوب منتظم المنهج متأنياً في اختياراته حتى نهاية البحث.
- سلامة اللغة العربية التي كتبت بها الدراسة وإشراقها بعد أن عاثت بها أقلام الجهلة فسادا ولحناً وتجاوزاً على القواعد والتشكيل.
- يؤكد د.عبد المطلب أن حميد سعيد لا يتعامل مع التراث بوصفه إرثاً صامتاً قادما من الماضي ،ثابتاً نمعن بقسماته المضيئة القادمة من الأمس ونكتب شعرا عنها،بل هو يحركها باعثاً الحياة في مفاصلها،حياة من إيجابية، أرواحنا وحركية من معاناتنا ومن وهج المكابدة التي تلتفت بنا إلى ذلك الصرح الباذخ وهو يطمئن انكسارات الروح المكلومة بالظلم والظلمات وبنكبات الحاضر الدامي لعل أصابع الماضي تجدي نفعاً في بعث التأسي بروح القارئ المجروح بفيض العذاب .وإمعانا في تصوير انتكاسة الحاضر وهو يلقي على الماضي المزهر من مكابداته ما يغير ملامحه ويحيل الايجاب فيه تحت وطأة السلب المعاصرإلى مساءلة جادة، أحقاً هؤلاء الذين بنوا ذلك الصرحَ الباذخ نحن.؟ ،نعم ..نحنُ ولكن الظلم غدا أكبر من طاقة المقاومة ، وذلك أبلغ ما يمكن أن يقال..
والتفتُّ أخيراً
رأيتُ الذي كنت أسمعُ وقع خطاه
النواسيَّ
هذي العصا والغصون
لا جنانٌ ولا عبق البيلسان.. ديوان من وردة الكتابة الى غابة الرماد، 22