بين الغدير وكربلاء

2021/07/29

بقلم / رجاء محمد بيطار

ركبان،... وخمسون عاماً من الزمان، وما أكثر ما تتشابه الأيام، بل ما أشبه ذلك العام بذاك العام...فرغم أنف إبليس انتصر آدم، ورغم أنف الجبت والطاغوت، انتصر آل محمد!

أما الركب الأول،  فكان عام عشر للهجرة...

يومها اصطف المسلمون يتزلفون لنبي الرحمة، يتسابقون لإظهار المودة له والطاعة لأمره والسير في ركابه.

يومها،  خرج النبي من يثرب إلى مكة ليلبي نداء الرب، ويؤدي مناسك الحب،  ويحج بيت الله الحرام،  ويختم بحجته الأخيرة دعوة الإسلام، والأهم، ليبلغ ما أنزل الله إليه،  فإن لم يفعل فما بلغ رسالته!

رباه، أي أمر جلل هذا الذي يحذر به الله رسوله وحبيبه، ويربط تبليغه بتبليغ الرسالة؟ ! فإذا هو ليس جزءاً من ذلك الكل العظيم فحسب، ... ليس كلمة يتمم بها ذاك الكتاب المبين الذي ما خطت آياته إلا بخفقات القلوب ودماء النحور وفداء الأرواح،  بل هو تمام التبليغ، وختام الوصية، مثلما محمد هو خاتم الأنبياء،  لا تستقيم الأديان إلا برسالته، ولا تتم مقالة أو عمل صالح بغير عمله ومقالته!

يومها، جمع النبي أصحابه وكل الحجيج، بعدما أدوا مناسكهم وقفلوا راجعين، وأرسل يستبطئ من سبقه ويستعجل من لحقه،  ليضرب لهم جميعاً موعداً عند ذلك الغدير، ...فأدركوا أن الأمر لا يتحمل التأخير.

وفي حر ذاك الهجير، اجتمع من الحجاج جمع غفير، وكيف لا يجتمعون وقد بلغهم أن النبي دعاهم لأمر خطير، أنه يريد أن يخطب فيهم بخطبة تكون لهم أبد الدهر كالشهاب المنير، ما إن يضعوه نصب أعينهم فسيكون لهم نجاة من سوء المنقلب والمصير!

وقفوا، ...وعيونهم منصبة على ذلك الوجه الوسيم المستدير،...لم تفلح الكهولة والشيب في إطفاء نوره، بل هما زاداه جمالاً وجلالا، حتى كان البدر يستحي من حضوره.

وقفوا، ...آذانهم تصغي، وأفواه بعض المنافقين تزبد وترغي، أن كيف يستوقفهم ليخطب بهم في ذلك الحر ، وهم ماضون في طريق عودتهم يجدون السير، ليصلوا إلى بيوتهم ومدائنهم وعيالهم ونسائهم فيرتاحوا من طول السفر وعناء الطريق.

واستوقفهم صوته الرنان، ملء القلوب والآذان، يسألهم، وقد اعتلى أكواما من رحال الحجيج ليصبح أوضح للعيان، فيراه ويسمعه القاصي والداني، وطرح سؤاله المشهود:

( ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟! )

وتداعت الأصوات تجاوبها الفيافي والوديان، تجيب بالإيجاب، بين مؤمن صادق ومدع يتظاهر بالإيمان، فعاد يرفع صوته ليسمع كل إنسان، ويخرق بنبرته الصداحة حدود المكان والزمان، ... عاد يرفع يمناه فيقبض على يسرى ربيبه وحبيبه، وصفيه ووصيه، وصهره وأخيه في الله دون بني الإنسان، من اصطفاه واجتباه ورفع يمناه بيسراه بأمر الله، وترتفع اليدان حتى تستحيلان يدا واحدة، ويهتف سيد النبيين بوصيته الخالدة:

 (من كنت مولاه، فهذا علي مولاه)

...ركبان، ...وخمسون عاماً من الزمان، خمسون عاماً من الآلام والأحزان!...ركب خرج بالنبوة وعاد بالولاية، وركب خرج بالإمامة وعاد بالشهادة.

ركب وطد أسس الإيمان، وأخذ البيعة من المسلمين لإلقاء الحجة وإتمام الدين، وركب قام ليحفظ ذلك الإيمان،  ويحيي معالم الدين التي كادت تندثر من عظم العصيان وهول الحدثان.

وبين الغدير وكربلاء،  حديث وأشجان، وتنزيل وتأويل لآيات القرآن.

بين الغدير وكربلاء، ركبان يمضيان، وتمضي في ركابهما الأرواح قبل الأبدان، فإذا اليد اليمنى تبايع وصي محمد، وحامل اللواء، ثم تشتد وترتفع مع شموخ ذلك البنيان، لتحمل السيف والقلم بين يدي سبط محمد، لتذود عن حياض الولاية، وتحمل القلب والوجدان في ظل تلك الراية، قربانا يتسامى على كل قربان، لإحياء دين محمد، فداء لتلك الآية:

(اليوم أتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا)

فهنيئا للمؤمن العارف حق المودة في القربى، وهنيئا لنا غدير نتوضأ بعذب نداه، وفرات نصلي عنده فلا تكتمل صلاتنا بسواه، وكوثر نرشفه من كف أمير النحل يوم لا ساقي إلاه، فنروي به ظمأ القلوب التي ذابت في هواه، شهدا وعشقا، لا نأبه أن نضحي ونحزن ونشقى، لننال الفرحة الكبرى برضاه، فيرضى برضاه الله.

 

 

أخترنا لك
8 إصابات جديدة بفيروس كورونا في الدوري الإنجليزي

(ملف)عاشوراء : انتصار الدم على السيف

المكتبة