يحدث في‮ ‬بغداد‮.. ‬التناص بالإبداع الأدبي

2020/07/11

حميد الحريزي
الرواية،‮ ‬هي‮: ‬ذاكرة تحولات عامة او خاصة،‮ ‬وقراءة ضمنية للماضي‮ ‬والحاضر،‮ ‬واستشراف المستقبل،‮ ‬تنطلق من الخلفية الثقافية والسياسية والاجتماعية للروائي،‮ ‬يجسد كل هذ التحولات عبر تخليق شخصيات واحداث منها حقيقية واقعية ومنها متخيل ولكن له جذر واقعي‮ ‬مهما بدا محلقا في‮ ‬عالم الخيال‮ . ‬رواية‮ (‬حدث في‮ ‬بغداد‮) ‬لا‮ ‬يحتاج عنوانها الى التحليل والتأويل،‮ ‬فهو عنوان مباشر‮ ‬يشير الى ما حدث في‮ ‬بغداد،‮ ‬في‮ ‬زمن الجمهورية الثالثة‮:  ‬جمهورية البعث وحكمها في‮ ‬العراق‮.‬
عبر متابعة حياة‮ (‬مرهون الشاكر‮) ‬الروائي‮ ‬والمثقف‮. ‬هذه الشخصية العاشقة للثقافة والادب والزاهد بكل شيء الا الكتاب والكتابة،‮ ‬وهي‮ ‬احد افراد عائلة كتب عليها القهر والالم والموت‮. ‬فأخويه(واقد شاكر‮) ‬و‮ (‬علي‮ ‬الشاكر‮) ‬كانا ضحايا حرب الثمانينات في‮ ‬قادسية صدام وحربه ضد ايران،‮ ‬التي‮ ‬دامت اكثر من ثمان سنوات دموية‮ .‬
أما أخيه الاخر‮ (‬حسين الشاكر‮) ‬فقد قطع الإرهابيون رأسه بعد احتلال العراق في‮ ‬2003‮.‬لم‮ ‬يبق من افراد العائلة سوى‮ (‬مرهون‮) ‬ووالدته المفجوعة بأولادها وزوجها‮ .‬
مرهون إسم‮ ‬يدل على الإرتهان والقيود،‮ ‬حيث كان هذا المثقف المبدع‮  ‬مرتهن لأفكاره وثقافته الداعية للسلام والحرية والرفاه وصيانة كرامة الانسان‮ ‬،‮ ‬ومرتهن لظروف قاهرة متمثلة في‮ ‬حكم إسلاموي‮ ‬متخلف،‮ ‬ومعارض‮ ‬يلبس نفس الرداء الديني،‮ ‬أشاع الرعب والخراب والقتل على الهوية،‮ ‬متسلحا بفكر طائفي‮ ‬عقائدي‮ ‬متشدد‮ ‬،‮ ‬يدّعي‮ ‬مقاومة المحتل وطبقته السياسية‮  ‬الحاكمة وإستبدالها بحكم وشريعة الله على الارض‮ .‬
حيث أدت الحرب الدولية الاستعمارية والحرب الاهلية في‮ ‬البلاد الى حدوث تغيرات هائلة في‮ ‬طبيعة الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية في‮ ‬العراق‮ ( ‬اخذت الحرب والتغيير السياسي‮ ‬الذي‮ ‬جرى في‮ ‬بلادنا تؤثران في‮ ‬بنية المجتمع المهنية والسكنية والاخلاقية‮ ‬،‮ ‬فكل شيء أصبح‮ ‬يمضي‮ ‬بطريقة جديدة‮ )‬،‮ ‬ص154‮.‬ وجديدة هنا،‮ ‬بالمعنى التخلفي‮ ‬السيء وليس بالمعنى الايجابي‮ ‬الهادف لإستبدال القديم المتهالك المعيق للتقدم والحرية والرفاه،‮ ‬بل جعل التخلف أكثر رسوخا وبأساليب أشد ضراوة ووحشية وقسرية‮.‬
صدمة مثقف
ان أول صدمة تلقاها هذا المثقف هي‮ ‬مقتل زوجته‮ (‬فاطمة البصري‮) ‬في‮ ‬قصف‮ ‬1991 الوحشي‮ ‬لمدن العراق،‮ ‬وهي‮ ‬المرأة التي‮ ‬وصفها‮  (‬مرهون‮) ‬بفجره الاول‮ .. ‬فجر العفة والطهارة والحب الصادق والاخلاص للحياة الزوجية وللشريك الحبيب‮ . ‬وهذه اشارة من قبل الروائي‮ ‬الى ان‮  ‬عام‮ ‬1991 كان عام موت القيم النبيلة في‮ ‬المجتمع العراقي،‮ ‬وتعرضه للقهر السلطوي‮ ‬الفاشي‮ ‬والتجويع بسبب الحصار الاقتصادي‮ ‬المفروض من قبل أمريكا بدعوى محاصرة النظام،‮ ‬وهي‮ ‬فرية مفضوحة؛ فقد كان المحاصر أولا وآخرا هو الشعب العراقي‮ ‬،‮ ‬مما أدى الى شرذمة المجتمع العراقي‮ ‬وانتشار ثقافة الثعلبة والفهلوة والقردنة كدوافع لغريزة استمرار الحياة وعدم الموت جوعا،‮ ‬وانتشار ثقافة الخرافة ومظاهر التدين الزائف وهو الملجأ الاخير الذي‮ ‬تلجأ اليه الذوات المستلبة والمقهورة أملا‮  ‬في‮  ‬عيش الحرية والرفاه في‮ ‬الحياة الآخرة،‮ ‬والهروب من حياة القهر والجوع والحرمان،‮ ‬في‮ ‬ظل الحكم الديكتاتوري‮ ‬والحروب والحصار‮  ‬المفروض لتركيع الشعوب وترويضها،‮ ‬للقبول ببدائل الواقع مهما كان هذا البديل؛ أملا في‮ ‬الخلاص‮ .‬
‮ ‬هذا‮ (‬المثقف‮) ‬المرتهن‮ ‬يقع فريسة هذا الواقع المتردي،‮ ‬فيتزوج من‮  (‬فجره‮) ‬الثاني‮ (‬نهى‮) ‬الذي‮ ‬تحول الى ليل بهيم متجسدا بهذه العاهرة المبتذلة،‮ ‬رمز الخيانة وانعدام القيم وغروب عالم العفة والطهارة،‮ ‬هذه اللعوب ابنة الواقع الفاسد القائم‮ ‬،المستهين بالثقافة والساعي‮ ‬لتحطيم الثقافة والمثقف بمختلف الأساليب‮. ‬تقع نهى بين مطرقة السلطة مجسدة بضابط الدورية والإرهابي‮ ‬الإسلاموي‮ ‬الداعشي‮ ‬مرتدي‮ ‬لباس المعارضة المسلحة،‮ ‬ولكل من‮ ‬ينتمي‮ ‬للسلطة الحاكمة،‮ ‬وهنا‮ ‬يؤشر الروائي،‮ ‬ببلاغة باهرة،‮ ‬الى واقع حال العــــــــراق عبر‮ (‬نهى‮ ) ‬العاهرة‮.‬
ففي‮ ‬الوقت الذي‮ ‬ينشغل‮ (‬مرهون‮) ‬بإكمال روايته الجديدة،‮ ‬مسلطاً‮ ‬الضوء‮  ‬على واقع السلطة والمجتمع وتحولاته الكارثية،‮ ‬على الرغم من اصابته بمرض السرطان الرؤي‮ ‬بسبب ما‮ ‬يعانيه من قهر سلوكيات السلطة والارهاب والمختزل والمجسد بسلوكية‮ (‬نهى‮) ‬التي‮ ‬تكشف له حقيقة خيانتها،‮ ‬حينما تعود ثملى،‮ ‬بعد سهرة داعرة مع الضابط والإرهابي‮ ‬وشخص ثالث،‮ ‬تركوا آثارهم وبصمات مخالبهم الوحشية على جسدها،‮ ‬حيث تخاطب مرهون،‮ ‬قائلة‮: ( ‬هل رأيت‮ ‬يا زوجي‮ ‬المثقف،‮ ‬كيف انا عاهرة بشكل رسمي،‮ ‬زوجة محترفة في‮ ‬الفجور والغرام والخلاعة‮  ‬لأخونك ليس في‮ ‬النهار فقط بل وفي‮ ‬الليل ايضا‮ ) ‬ص120? و‮( ‬ان الوطن‮ ‬يريد مني‮ ‬أن أضحي‮ ‬من أجله،‮ ‬أن أكون عاهرة،‮ ‬وهذه‮  ‬مسؤولية تاريخية‮  ‬كما‮ ‬يقول رشيد الفار،‮ ‬أما أنت فيريد منك هذا الوطن أن تكون راضخا ومنحنيا حتى‮ ‬يرضى عنك‮ ) ‬ص‮ ‬129‮.‬ 
وهنا تشير بصدق الى ما‮ ‬يريده الوطن حسب رأي‮ ‬السلطة الفاسدة،‮ ‬وما‮ ‬يريده الوطن حسب إرادة المعارض الإرهابي‮  ‬ألا وهو‮: ‬امتهان كرامة الانسان،‮ ‬وقتل وتطويع وتركيع المثقف الشريف،‮ ‬وقتل الثقافة المعارضة للقبح والرذيلة‮ .‬
وهنا تظهر هذه ال(نهى‮) ‬في‮ ‬حالة من تجلي‮ ‬الوعي‮ ‬بمسخ الذات الانسانية والوطنية،‮ ‬وقتل الثقافة المعارضة تحت سوط الأيدولوجية الارهابية معية مقاومة الاحتلال والكفر والساعية لإقامة حكم الله على الأرض،‮ ‬فيكون النكاح واجبا مشرفا في‮ ‬منطق المقاومة المزيفة،‮ ‬كما أن هذه هي‮ ‬آيدولوجية السلطة الفاسدة ومقاومة افسد،‮ ‬وكلاهما مدّع مزيف للدين والوطنية تفرض على المثقف،‮ ‬حامل رسالة التنوير والتثوير،‮ ‬حامل مشعل القيم النبيلة،‮ ‬الرضوخ والخضوع والسكوت المر،‮ ‬وهو‮ ‬يشهد الخيانة والفجور واللصوصية والزيف الممارس من قبل طرفي‮ ‬النزاع والمتخادم مع العقل الاكبر المحتل وذيوله‮ .‬
وقد كان هذا الحال‮  ‬هو احد أهم اسباب اصابة مرهون بالسرطان،‮ ‬ومن ثم موته المفجع في‮ ‬المستشفى،‮ ‬ولم‮  ‬تزره زوجته الخائنة إلا لسرقة فصول من روايته التي‮ ‬تسلط الضوء الكاشف على هذا الواقع المؤلم‮  ‬وإحراقها؛ لكي‮ ‬لا تظهر الحقيقة لعامة الناس،‮ ‬متعرفة على اسباب‮  ‬ضياعها واستغلالها وتخلفها وكشف حقيقة حملة الفضيلة والعفة،‮ ‬كونهم اكثر عهرا وممارسة للرذيلة واللصوصية والتبعية للمحتل،‮ ‬عبر اكثر الوسائل حقارة ودناءة‮.‬
واقع مؤلم
على الرغم من كل هذا الواقع المؤلم والظلام الدامس،‮ ‬يشعل الروائي‮ ‬شموع الأمل من خلال الموقف الانساني‮ ‬النبيل لصديق‮ (‬مرهون‮) ‬المهندس سعدي‮ ‬وزوجته الرائعة‮ (‬مريم الشبلي‮)‬،والتي‮ ‬تظهر وكأنها النموذج النقيض لـ‮((‬نهى‮)) ‬من حيث العفة‮  ‬والوفاء ومساعدة الغير والأنسانة الواعية‮  ‬والتي‮ ‬غالبا ما‮ ‬يستعين برأيها زوجها‮ ((‬سعيد‮))‬،‮ ‬والطبيب أحمد عزالدين الجبوري،‮ ‬المشرف على علاج مرهون‮ ‬،‮ ‬والعامل خليل عبد الله نايف،‮ ‬والصحفية الجريئة‮ (   ‬وفاء السامي‮  )‬،‮ ‬من خلال رعايتهم ل‮ (‬مرهون‮) ‬ولأمه،‮ ‬ومحاولتهم الشجاعة،‮ ‬على الرغم من المصاعب والمخاطر،‮ ‬لاسترجاع الفصول المسروقة من رواية مرهون؛ لتكتمل رسالته التنويرية‮ (‬رسالة المثقف‮ ) ‬الواعي‮.‬
‮ ‬مما عرضهم للملاحقة والتهديد،‮ ‬وأدّى بهم للتشرد او الهجرة،‮ ‬ثمنا لانتصارهم للحقيقة ودفاعهم عن المثقف باعتباره‮ ‬يمثل‮  ‬الضمير الحي‮ ‬للشعب‮. ‬وكذلك الموقف الايجابي‮ ‬لاتحاد الأدباء وانتصاره للروائي‮ ‬باعتباره من واجبه كمنظمة مهنية‮  ‬نقابية‮ ‬يجب أن تدافع عن،‮ ‬وترعى حقوق أعضائها،‮ ‬والموقف الايجابي‮ ‬لوزارة الثقافة بشراء مكتبة مرهون وطباعة مؤلفاته كاملة تحت ضغوط كبيرة من قبل أصدقاء ومعارف مرهون من الأدباء والكتاب والصحفيين‮. ‬تلقى العاهرة،‮ ‬الزوج الخائنة،‮ ‬مصيرها المحتوم،‮ ‬حيث‮ ‬يدفعها الارهابي‮  ‬لتنفيذ عمل إنتحاري‮ ‬إرهابي‮ ‬يودي‮ ‬بحياة العشرات من الأبرياء،‮ ‬لتلتحق بعالم الحور العين،‮ ‬بعد أدائها واجب النكاح،‮ ‬لتطهر جسدها وروحها بهذا العمل الارهابي‮!! ‬كما‮  ‬انها ربّما تقوم بهذا العمل الانتحاري‮ ‬للخلاص من واقع الاستلاب والرذيلة والخيانة التي‮ ‬سقطت فيه بفعل وتأثير عوامل‮  ‬مختلفة‮.‬
‮ ‬كان الروائي‮ ‬متمكنا من السرد المشوق لأحداث الرواية،‮ ‬مرة بلسان أنا المتكلم،‮ ‬وأخرى بلسان الراوي‮ ‬العليم وضمير الغائب‮. ‬وقد تنقل السرد بشكل رشيق من حدث لآخر،‮ ‬ومن شخصية لأخرى‮.‬
ولم‮ ‬يغفل الروائي‮ ‬عن التناص في‮ ‬عملية الابداع الادبي‮ ‬بالنسبة لمرهون‮  ‬أو لغيره من الادباء،‮ ‬من خلال اهتمامه بمشروع رواية مرهون وعنوانها اللافت‮ ( ‬ينحني‮ ‬الصابر للوجع‮)‬،‮ ‬حيث ان العنوان مستوحى من قصيدة للشاعر النمساوي‮ (‬جورج تراكل‮) ‬وكما أكد ذلك صديقهم المطلع على‮  ‬الشعر الاجنبي‮.‬
يروي‮ ‬الكاتب مظاهر ومشاهد الالم لضحايا الارهاب والحرب بعيون سعيد‮  ‬صديق مرهون،‮ ‬وزيارته للمستشفى بحثا عن الدكتور احمد المشرف على علاج مرهون،‮ ‬محاولة منه للعثور على الفصلين المسروقين من الرواية‮ ‬،‮ ‬وكيفية تبرعه بالدم لإنقاذ حياة طفل جريح،‮ ‬وهو القائل لتوصيف‮  ‬المستشفى في‮ ‬ذلك الزمن المشبع‮  ‬بالموت والبارود‮ :-‬
‮((‬لكي‮ ‬تنتظر في‮ ‬مستشفى،‮ ‬عليك ان تبكي‮ ‬الف مرة،‮ ‬ففي‮ ‬كل خمس دقائق تودع راحلا وتستقبل جريحا‮ )).‬

 
أخترنا لك
خربشات قلم.. التغيير

(ملف)عاشوراء : انتصار الدم على السيف

المكتبة