‬قراءة في رواية عركَشينة السيد‮ ‬

2020/06/18

إبراهيم الأعاجيبي‮ ‬
من الرواياتِ‮ ‬التي‮ ‬يجب أن تتحول إلى عملٍ‮ ‬سينمائي‮ ‬يُترجم إلى لغاتٍ‮ ‬مختلفة، إنها تُجسد الجنوب العراقي‮ ‬بملوحتهِ، كان الكاتبُ‮ ‬عالماً‮ ‬عارفاً‮ ‬بلغةِ‮ ‬وطبيعةِ‮ ‬الجنوبيين، تبدأ الرواية بحدثٍ‮ ‬ذو دلالة عميقة أتقن صناعته الكاتب، يبدأه بعمليةِ‮ ‬تغيير اسم الطالب المقبل على دراسة الماجستير في‮ ‬علم النفس، يدقق موظف التدقيق في‮ ‬معلوماته الشخصية فيجد أن اسم والدة الطالب خوشية، يسأله عن اسم أمهِ‮ ‬الصحيح فيجيبه أنها حوشية وليست خوشية ولاتوجد امرأة بهذا الاسم، يرفض المدقق المعاملة وهنا تبدأ الرواية من هذا الحدث، فالإسم على ما‮ ‬يبدو جنوبي‮ ‬ومن العمارة، على الطالب أن‮ ‬يذهب إلى دائرةِ‮ ‬نفوس العمارة ليُغيّر اسم والدته، يمضي‮ ‬الطالب البغدادي‮ ‬إلى العمارة وهناك‮ ‬يتم التعارف بينه وبين السيد هاني‮ ‬الناجي، يرى السيد الناجي‮ ‬حيرة هذا البغدادي‮ ‬في‮ ‬دائرة نفوس العمارة، يأخذه السيد إلى بيته ليحل له مشكلته، إن السيد‮ ‬يأخذ سلمان إلى البيت دون أن‮ ‬يعرف مشكلته أو اسمه ونسبه، هذه ميزة تضاف إلى الجنوبيين أنهم كرماء، يطرق الباب فيوعز إلى زوجته‮: ‬علوية وياي‮ ‬خطار من بغداد
فترد العلوية‮ : ‬يا هلا بالخطار‮.‬
يقوم بضيافتهِ‮ ‬أحسن ضيافة وذلك قمة الإيثار أن‮ ‬يقوم بمحاولة ذبح الديك الوحيد، ألحَّ‮ ‬سلمان بأنه جائعٌ‮ ‬ويريد أن‮ ‬يأكل الموجود وألا‮ ‬يذبح الديك، يأكل صحن بيض وسيّاح التي‮ ‬تجيده العلوية، يقص سلمان على السيد مشكلتهِ، يخبره أن الحل بسيط جداً‮ ‬وعليه ألا‮ ‬يكترث، يأخذه إلى سوق العمارة في‮ ‬الماجديةِ، سلمان‮ ‬ينذهل من السيد الناجي‮ ‬الشخصية الجنوبية المحترمة بين أبناء مدينتهِ، يمضي‮ ‬السيد و ضيفه ويمران على الجسر، يرى سلمان اختناق السيد وحسرته بهذا المكان، لعل ذروة القصة بدأت من هنا، ليكتشف سلمان بعدها أن السيد عاشقٌ، وقصة عشقه‮ ‬غريبة الأطوار، السيد متزوج ولديه طفله أسمها خديجة وهذه البنت مريضة بمرضٍ‮ ‬من الأمراض الخبيثة، سلمان‮ ‬يسأل السيد عن هذه العلاقة الغريبة الأطوار والغير مألوفة، كيف اقترب الحب إلى قلبِ‮ ‬السيد بمثلِ‮ ‬ظروفه‮! ‬يبدأ السيد بسرد قصة عشقه بالرمز، بعد أن‮ ‬يحل مشكلته وذلك بخلط مسحوق القاصر والليمون ويأخذ من المخلوط بحجم عود الثقاب، يمسح النقطة التي‮ ‬على أسم حوشية، وغداً‮ ‬يختم على الاسم وبذلك تنتهي‮ ‬مشكلة سلمان، يوصله إلى كراج ويدفع كروته دون أن‮ ‬يشعر رغم التصاقه به لكن السيد استغل الثواني‮ ‬المعدودات ليدفع أجرة الأستاذ البغدادي، يتصل السيد بسلمان على حين فجأة، لأنه ذهب لواجب العزاء في‮ ‬بغداد، سلمان كان متشوقاً‮ ‬لمعرفة قصة عشق السيد، كانت حبيبة السيد طالب في‮ ‬معهد المعلمين ووصفت بأنها المعلمة الواعدة، الجسر كان هو المكان الذي‮ ‬يتبادل العاشقان مشاعرهما بحرصٍ‮ ‬بالغٍ، كان لديهما سجلاً، يوم عنده ويوم عندها ليكتبا به مشاعرهما، ذات‮ ‬يوم لا بد ان‮ ‬يُفتضح أمرهما، بالفعل‮ ‬يأتي‮ ‬ذات‮ ‬يوم، بينما هما‮ ‬يتبادلان أعذب كلمات الهوى ويشتكيان تباريح الهوى، تقبل عليهما سيارة لاندكَروز‮ ‬، يأخذوا ابنتهم سحلاً، وينهالوا على السيد بالضرب المبرح، يأخذ أحدهم السكين ويجرحه بصدرة جرحاً‮ ‬عميقاً، يتركونه ويمضون ويبقى السيد‮ ‬يعاني‮ ‬الألم والجرح، يبقى‮ ‬يحبها ولم‮ ‬ينقطع عن الجسر، ذات‮ ‬يوم تخبره برسالةٍ‮ ‬مع أحدى المتعلمات أنها قد تزوجت ابن عمها وهي‮ ‬سعيدة جداً‮ ‬معه وأنها تسكن في‮ ‬قرى أم كَعيدة وأعطته رمز بأن الماء‮ ‬يحيط بها، حاول السيد أن‮ ‬يذهب ويجوب قرى أم كعيدة كلها حتى‮ ‬يعثر عليها، لكنه خشي‮ ‬عليها، لأنه‮ ‬يعرف معنى أن تتزوج البنت ابن عمها ويُكتشف عليها زلة تتعلق بالشرف، فجأة بينما سلمان في‮ ‬قاعة امتحان الكورس الأول في‮ ‬الماجستير، إذ تصل إليه رسالة من السيد‮ ‬يخبره بأن خديجة توفيت، أحس سلمان بألم كبير وجرح عميق كيف له أن‮ ‬يعزي‮ ‬صديقه القريب وهو في‮ ‬قاعة الامتحان، يأجل السنة أم‮ ‬يأجل العزاء إلى صديقه، بقي‮ ‬هكذا حتى أتم امتحانه وخرج أول الطلاب، أراد أن‮ ‬يذهب إلا إن الامتحانات كانت في‮ ‬ذروتها، وما هي‮ ‬إلا ثمانية أيام فيذهب مسرعاً‮ ‬إلى الكراج ليتجه إلى العمارة، يركب سيارة التكسي‮ ‬يخبر السائق أنه‮ ‬يريد إلى الماجدية فيسأله السائق عمن‮ ‬يريد من الماجدية، أريد السيد هاني‮ ‬الناجي، يقول له السائق أتيت للعزاء، قال له نعم، وهل ما زال جادر عزاء خديجة باقياً‮ ‬للآن؟
يخبره السائق إن جادر خديجة قد نزل ولكن جادر السيد ما زال منصوباً، صدمة كبرى وحالة من الدهشة‮ ‬يصاب بها سلمان، فهو الذي‮ ‬شعر بتأنيب كبير لأنه لم‮ ‬يعزي‮ ‬صديقه على وفاة ابنته، فكيف به الآن وصديقه قد توفي، الكلمات الجنوبية بملوحتها كانت طاغية وحاضرة حضوراً‮ ‬مميزاً، الكاتب قد مارس عملية الإحياء من جديد وصبغها بصبغ‮ ‬الحداثة، يتحدث عن الإنسلاخ الكبير الذي‮ ‬تعرض له العراق في‮ ‬بداية العراق الجديد عام‮ ‬2003، بدأ الناس‮ ‬يغيرون اسماءهم ويستبدلونها بأسماء أخرى، إن السرد الغرائبي‮ ‬الذي‮ ‬تميزت به الرواية كان واضحاً‮ ‬منذ السطور الأولى، إذ التسلسل السردي‮ ‬جرى على وتيرة تصاعدية مشوقة، الحبكة كانت في‮ ‬الثلث الأخير من الرواية أو الربع الرابع بالتحديد، صحبنا السرد وكنا نستطلع إلى النهاية التي‮ ‬ستنتهي‮ ‬بها هذه القصة، كنا نتوقع أن تنتهي‮ ‬بالانفصال وكنا نتوقع أن تموت خديجة لكن موت السيد لم‮ ‬يكن متوقعاً، إذ الكاتب أختصر حبكته بمفاجئة صادمة لأنه اختصرها بكلماتٍ‮ ‬معدودة على عدد أصابع اليد الواحدة، كيف‮ ‬يموت السيد ومن معه في‮ ‬موته، هذه بقيت مجهولة لدينا إلا ما سمعه الراوي‮ ‬من احد الذين حضروا مجلس العزاء وقال إن السيد مات في‮ ‬الماء، البناء الهندسي‮ ‬كان متقناً‮ ‬بحرفية عالية، ربما تنفع الذي‮ ‬يدرسون علم النفس، إنه صراعٌ‮ ‬نفسي‮ ‬كبير كان‮ ‬يعيشه السيد، إلا إن نفسه كبيرة وسامية فحلقت في‮ ‬ملكوت عالٍ، إن المبادئ لا تموت ولكن تحتاج أن تطبق وتنشر في‮ ‬عموم الناس لتتعلمها الأجيال جيل عن جيل، كل الرواية كانت بوهج ناصع وإشعاع‮ ‬يُبعث من بين سطورها، الكلمات لم تُبلى لأنها لم تفقد برقها ونصوعها، إنها لم تلجأ إلى قاموس الكلمات لتستعير منه ألفاظاً‮ ‬رنانة موسيقية، بل لجأ الكاتب إلى الفولكلور العراقي‮ ‬ليرى أنه‮ ‬يحمل من الكلمات المتوهجة قسطاً‮ ‬كبيراً، هذه الحكاية أعطت دروساً‮ ‬وعبراً‮ ‬بالكرامة، الشهامة، الوفاء، الكرم والحب العذري، المونولوج الذاتي‮ ‬كان مفعماً‮ ‬بالروح الوثابة الحزينة التي‮ ‬فعل الهوى فعله وقسى عليها، صراع القلب وما‮ ‬يهوى والمحيط والظروف العامة كانا على طرفي‮ ‬نقيض تماماً، السيد فقير الحال، هو مجرد موظف في‮ ‬دائرة لا‮ ‬يجني‮ ‬من المال إلا القليل، فكيف له أن‮ ‬يتزوج احدى النساء التي‮ ‬تسكن حي‮ ‬المعلمين فهو‮ ‬يخبرها ذات‮ ‬يوم‮: ‬إذا الله قسمج إليّ‮ ‬تره راح نموت من الجوع، فتجيبه بصدمةٍ‮ ‬كيف، يقول لها‮: ‬ما أكَدر أتخيل أعوفج وأروح للشغل، هكذا كان‮ ‬يعشق السيد ولكن حبه انتهى بما انتهت به قصته، حاك الكاتب القصة بإسلوب بديع جداً، هو بنّاء ماهر بعنصر المباغتة والصدمة الطارئة التي‮ ‬يفاجئ بها القارئ كل حين‮ .‬
أخترنا لك
تجربة حياة.. الأنوثة بين الشكل والفكر

(ملف)عاشوراء : انتصار الدم على السيف

المكتبة