فى ماهيَّة بلاغة الذكر والحذف

2020/05/02

د. محمد سعيد محفوظ

محمد سعيد محفوظ مقدمة: هذه الدراسة تُعد واحدة من الدراسات القلائل التى تسعى بدأب ما وسعها السعى لتجعل العلوم وحدة واحدة تخرج من مشكاة واحدة، تنبعث من منبع لا غير، ومأم ذلك الذكر والحذف، وعلى ذلك، نتلو عليكم ما تيسَّر من أهداف الدراسة:

تقوية العلاقة بين البلاغة والعلوم الأخرى ولفّهما بإسار واحد وبسوار وحيد، لا انفكاك بينهم.

علوم اللغة العربية تآزر واتفاق، لا تناحر وانشقاق .

الربط بين المصطلح البلاغى قديمه وحديثه، تليده وطريفه .

ربط المفهوم التنظيرى بالجانب التطبيقى العلمى .

منهج الدراسة:

المنهج التحليلى الوصفى:

حيث عماد وقوام هذا المنهج هو شرح وتوصيف وتحليل ظاهرة الذّكر والحذف.

حدود الدراسة: علاقة ظاهرة الذّكر والحذف –فقط دون سواها من علوم البلاغة العربية-بعلوم العربية.

الذكر والحذف: تأصيل وتقييم

أولاً- الذكر والحذف لغة واصطلاحاً:

الذكر:

يقال: ذكر الشىء ذِكْرا، وذُكْرا، وذِكْرى، وتَذْكارا، أى حفظه واستحضره وجرى على لسانه بعد نسيانه، وأعلمه ولم يضيعه وأظهره وأعلنه، ومنه الذاكرة، أى استذكار المعلوم فى الذهن(1) ومنه الذكرة أى ضد النسيان، والذكر: الصيت والثناء والتذكرة، ما تُستذكرُ به الحاجة(2)، على هذا الأساس دارت معانى الذكر، وتراوحت مرادفاته فهو، الإظهار والإعلان وهومدعاة للمحذوف، وبه يعلم ويعرف ويدرك المحذوف، فهو واسطة له وجسر له ودليل عليه ولا يبعد المعنى الاصطلاحى كثيرا عن المعنى اللغوى، فهو فى اصطلاح البلاغييين، ما تقوم عليه القرينة، وهو الأصل فى الكلام لما يضيفه من " تثبيت للمعنى وتوطيد له فى النفس، ويكون فى ذكره فضلا عن ذلك معان لا تستفاد إذا حذف "(3) هكذا اتفق المعنيان وتجاوبا معا.

الحذف:

يقال فى ذلك أيضاً: حذف الشىء أى قطعه من طرف، وحذف الشىء أى طرح من الكلام، والحِذفة: القطعة المحذوفة من الثوب ونحوه، وحذف الخطيب الكلام، أى هذبه وصفاه، وفى اصطلاح العروضيين، الجزء الذى سقط(4) و(حذف) الشىء إسقاطه(5) ويأتى المعنى الاصطلاحى ليؤكد المعنى اللغوى فهو اصطلاحيا، طى المسند أو المسند إليه وذلك فى البناء الظاهرى للجملة، ولكنه موجود فى ذهن السامع والمتلقى، كما هو موجود لدى المبدع وهو السكوت عنه شكليا، وتتسع مصطلحات الذكر والحذف اتساعا يستوعب كل المسميات والأطروحات التى ترامت وتسامعت بها الآذان فالذكر والحذف نعنى به الإظهار والإخفاء، الطى والجلى، الإعلان والإضمار، الكلام والصمت، الحضور والغياب، الأصل والفرع، المثالى والمنحرف، الملاء والخلاء، القوة الكلامية والقوة اللاكلامية، إلى غير ذلك من المفاهيم والعناوين التى تحمل مضمونا واحدا مؤداه، أن ثمة ذكرا هنا، وثمة حذفا هنالك، ولما كان الحذف خروجا على سمت المألوف من الكلام ولما كان الحذف جذبا للانتباه وإثارة له وتشويقا للسامع المتلقى، ولما كان الحذف- أيضا- اختصارا وتخفيفا وإيجازا كانت العرب إليه أميل وفيه أرغب، وقلما يخلو عمل أدبى منه، إذ هو للنفس أجذب.

والحذف " خلاف الأصل- الذكر- ومن شروط حسنه أنه متى أظهر المحذوف زال ما كان فى الكلام من البهجة والطلاوة، وضاع ما تشعر به من جمال "(6).

ثانياً- أهمية الذكر والحذف فى إيصال المعنى:

للذكر بلاغته، لذا يقتضى المعنى وجوده، وللحذف بلاغته، ومن ثم يتحتم وجوبه، وبين هذا وذاك قرائن ودلائل ملزمة على تمام المعنى وكماله وقد أقر البلاغيون ومعهم النحاة بأن الذكر ذو قيمة- أية قيمة- جليلة فى ترسيخ المعنى فهو إذ راح يؤتى به لزيادة تقرير المعنى وإيضاحه، كما فى قوله أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (البقرة:177)، كما أنه يزيد الكلام بسطة كما فى قوله وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَىٰ (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا (طه:17)، كما أن ذلك يثبت المعنى فى نفس السامع ويؤكده ويقويه، حيث يقول عزَّ من قائل وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ۖ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي (الإسراء:85) والذكر أيضا آكد فى المعنى ولو فتشت فى أسباب الذكر لوجدتها منصبة ومركزة على وصول المعنى لدى السامع إذ هو محورها وعمودها الفقرى ومن ذلك، أن الذكر يأتى لداع خطير، إنه ضعف التعويل على القرينة، فالمبدع حينما يدرك أنه بحذفه وإسقاطه كلاما ما فإنه لاشك أدخل إبداعه ههنا دائرة الغموض والإلباس والتعمية بالتالى فلا مغنم ولا فائدة ترجى منه، فيقصد إلى الذكر ويذكر ما يخشى من عدم فهمه معنى ومبنى أضف إلى كل ما سبق وقيل، السياق، سياق المقام والحال، فالسياق وحده، وحده فقط يرغم المبدع على الذكر والحذف، فهناك سياق المدح والثناء والفخر والرثاء والإشارة بالمناقب والمآثر، لذا يكثر الذكر ويشتد، حتى تبدو المعانى واضحة جلية فى النفوس هذا عن الذكر. أما دواعى الحذف، فتأتى أيضا بغية الاختصار وبعداً عن الملل والسأم والثقل (السمعى)، وكراهية الإطالة والكلام الممجوج الذى لا غناء فيه، أى إن الحذف دوما للتركيز على المعنى المراد والرسالة المراد توصيلها لدى المتلقى المستمع ولولا هذا، لما أتى به، فالحذف والذكر وجهان لعملة واحدة كلاهما مبتغاه المعنى ومقصده وموئله ويأتى فيما يأتى- للبيان بعد الإبهام ومنه حذف مفعول المشيئة، كما فى قوله وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ (البقرة:20) ويأتى للعلم بالمحذوف، لوجود قرينة دالة عليه وهذا هو أساس الحذف، إذ لولا تلك القرينة لما جاء الحذف إذ لذهب الكلام وذهبت طلاوته ولفه الغموض واكتنفه الإلباس، وكأنى بالمبدع وهو يجنح إلى الحذف، فكأنما قصد الذكر، فالحذف ما هو إلا ذكر، ما دامت تلك القرائن موجودة ومقدرة سلفا لدى المرسل والمستقبل، ويأتى الحذف أيضا، للاحتراز عن العبث حيث يحذف ويسقط مالا ضرورة لذكره، وهو بالتالى يحاول التركيز على المعنى قدر الطاقة والبعد عن التشتيت، ومن دواعيه كذلك الإيضاح، ومن مقررات الحذف، نفى تعلق الغرض بغير المراد، حيث قد يوهم الذكر هنا بتعلق النفس بما لا يريد الكاتب التعلق به وترك المعنى المقصود والتحول عنه إلى معنى ثانوى، لا يدفع بمبتغى الأديب دفعا، ويركز على فكرة ربما لم يقصد إليها المرسل قصدا وأصبح الاثنان- المرسل والمستقبل- كل فى واد، وأخفقت الرسالة إخفاقا شديدا، وسقطت سقوطا، لا قيام بعده، وللسياق دور- أى دور- فى الحذف إذ نراه وقد راح يضبط ذلك وينظمه ويؤصله ويؤسسه وذلك فى قوله تعالى رَضُوا بِأَن يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (البقرة:87) لأن قبلها: وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ (البقرة:86) فجاءت الأفعال هنا مبنية للمجهول لمناسبة السياق، وهناك أيضا ضيق المقام، ومن ثم خوف الإطالة والامتداد فى الكلام وبسطه، فالسياق هو الذى يمثل خلفية محددة دائما وهو الذى يقوم بدور القاعدة وافتراض أن الأسلوب يتخلق بالانحراف الداخلى عن هذا السياق الدائم، فالسياق هو التداعى وليس هو التوالى(7) على هذا، فالسياق هنا " نموذج لغوى ينكسر بعنصر غير متوقع "(8) وتأسيسا على ما سبق نرى أن الذكر والحذف كليهما دائر فى إيصال المعنى وإذا كان أحدهما أقوى من الآخر فى تركيز المعنى جىء به لا محالة، وإن كانت اللغة العربية، لغة الحذف، لكثرته كثرة هائلة. من هنا كانت عناية البلاغيين به أكبر بكثير من عناية النحاة الذين " لا يعنون بالتركيب عناية محمودة فى الفصل بين العبارات والحذف والتكرار والتقديم وسائر الهيئات التى يحدثها لك التأليف "(9) وعلى المبدع " إيصال المعنى بأوضح السبل وأحسنها وأجملها، وإذا لم يتحقق هذا الأمر فشل الكاتب وانعدم معه الأسلوب "(10) وإننى لأرى وجوب تنوع المبدع فى عمله، فلا يسير على وتيرة واحدة ونمط واحد، وإنما يتضافر الذكر والحذف معا، ما أمكن إلى ذلك سبيلا إيثارا لقوة المعنى " كلما تعددت المفاجآت فى الأسلوب زادت القوة الضاغطة، إن تكرار نفس الخاصية يفقدها كثيرا من قوة تأثيرها، لأن المتلقى يكون قد وصل إلى حالة التشبع لهذه الخاصية ولا يحسن وقوع التكرار النمطى إلا إذا اختلف بُعد ما بين الحيزين الذين وقع فيهما التكرار "(11) بل إن الحذف يُجلب لكسر الرتيب المألوف لظاهرة الذكر المترعة بها الجمل.

ثالثاً- دور الذكر والحذف فى بلاغة الجملة العربية:

يأتى الذكر والحذف ليدفع ببناء الجملة خطوات متلاحقة متسارعة فى بلاغتها وتحقيق مقاصدها، ومن ثم مقاصد المتكلم المبدع لتوثيق عرى العلاقة بينه وبين المتلقى، فما من شك فى أن الحذف- بالذات- هو العلاقة التى تربط بين هذا وذاك ولئن لجأ المبدع إلى الحذف، وجعله سبيلا لعمله، فهو فى جنوحه هذا قد استشعر المتلقى وفكر بدلا منه ووضع نفسه موضعه حيث دار فى خلده، أن هذا المحذوف المقدر سوف يهتدى إليه حتما، وإلا لما أضحى من سمات عمله، وما غدا من كينونة إبداعه، لقد جعل الحذف الاثنين فى واحد وزاد الالتحام بينهما، إيه أيها الحذف لقد فعلت ما لم يفعله بشر، لقد تحول المبدع إلى متلق، واستحال المتلقى مبدعا فى آن اللحظة،وتخيل الكل، الآخر، كل أولئك أوجبه وأوجده الحذف، لذا قال عنه عبد القاهر الجرجانى " هو باب دقيق المسلك، لطيف المأخذ، عجيب الأمر، شبيه بالسحر، فإنك ترى به ترك الذكر، أفصح من الذكر، والصمت عن الإفادة، أزيد للإفادة، وتجدك أنطق ما تكون إذا لم تنطق، وأتم ما تكون بيانا إذا لم تبن "(12) إنه تمام الجملة وفصاحتها وأقوى بيانا، ويؤكد عبد القاهر الجرجانى أنه أبدا لم يكن مغاليا فيما يرنو إليه ويذهب إليه، لذا تجده يعود بالقول، مؤكدا على آنف ذكره " ولا يعدو الذى يقع فى أول الخاطر أن الذى قلت فى شأن الحذف وفى تفخيم أمره، والتنويه بذكره، وأن مأخذه مأخذ يشبه السحر، ويبهر الفكر، كالذى قلت "(13)

ومدار الأمر، سواء أكان حذفا أم ذكرا، فإنما مرده، النفس ومدى تقبلها له " فما من اسم أو فعل تجده قد حذف، إلا وأنت تجد حذفه هناك أحسن من ذكره وترى إضماره فى النفس أولى وآنس من النطق به "(14).

وذات الشىء فى الذكر " إن للتصريح عملا لا يكون مثل ذلك العمل للكناية كإعادة اللفظ فى قوله قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (الإخلاص:1،2) من الحسن والبهجة ومن الفخامة والنبل، وما لا يخفى موضعه على بصير ولو ترك فيه الإظهار إلى الإضمار، فقيل (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ * هوَ الصَمَدُ) لعدمت الذى أنت واجده الآن "(15) وليس عبد القاهر الجرجانى فارساً هذا المضمار فحسب، من تلك الوجهة النفسية حيث قرعها قبله، الرمانى الذى كان قوله أكثر مضاء فى تلك الناحية فلم يأت الحذف عنده للاختصار فقط، بل هو أمر نفسى بحت، يجعل مجال الإحساس والشعور متسعا أمام السامع فيتوهم كثيرا من الأشياء التى يحتمل أن يحمل معانيها اللفظ المحذوف والمفهوم من الكلام فى آن واحد(16) وذات المعنى عند ابن جنى، إذ اعتبره وعده من شجاعة العربية " اعلم أن معظم ذلك، إنما هو الحذف، والزيادة، والتقديم والتأخير، الحمل على المعنى، والتحريف "(17) فعلى هذا السبيل، نرى أن الحذف يستلب صفة من صفات الإنسان ويدل عليها؛ إنها اقتحام الأهوال، بإقدام المبدع على التمرد على قوانين الجملة، من ذكر أركانها قاطبة، بل ذلك منه " إدلالا بقوة طبعه، ودلالة على شهامة نفسه "(18) فالخروج عن نطاق المألوف إلى " غيره المجازى الفنى الإبداعى يوظفه شجاعة المبدع من خلال الحذف والزيادة "(19) ويرى ابن خالويه أن الذكر يأتى، لعدم شياع المذكور، على الألسنة، ويرى أن دواعى الحذف تقتضى الإتيان به مراعاة لرءوس الآى، كقوله فى سورة الضحى وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَىٰ (الضحى:8) أى فأغناك، وذلك موافقة رءوس الآى(20) وإن أنكرها غيره(21) ويرى سيبويه- ونحن معه- أن فصاحة الجملة تكمن فى " الحذف ولا تتم إلا به أما إذا كان الكلام تاما فلا فصاحة "(22) ويتراءى جمال الجملة وتستبين بلاغتها إذا أنت " حذفت أحد ركنى الجملة أو شيئا من متعلقاتها "(23) لقد حدد اللغويون العرب نظام الجملة وما يكون أساسيا من أجزائها، وما يمكن أن يكون ثانويا يجوز أن يستغنى عنه وتحدثوا فى ذلك عن قواعد الحذف، والأجزاء التى لا يجوز حذفها، وتلك التى يجوز أن تحذف والشروط التى يجب توافرها لجواز الحذف "(24) .

وبناء الجملة وكيفية تركيبه المنوط به الذكر والحذف فإذا " استدعى الكلام تقدير أسماء متضايفة، أو موصوف وصفة مضافة، أو جار ومجرور ومضمر عائد على ما يحتاج إلى الرابط، فلا يقدر ذلك دفعة واحدة بل على التدريج "(25) وعلى هذا، فما يقتضيه تركيب الجملة ويوجبه نرى المبدع يأتى به وما لا يقتضيه البناء والتركيب يستغنى عنه ويكون هباء منثورا ولا محل له من الإعراب وقد لقى حذف " المفعول اهتمام عبد القاهر بصفة عامة، مع ربط الحذف بالمعنى "(26) والحذف " يدخل البنية دائرة الكثافة، بحيث لا يخترقها إلا بعد معاناة فيكون اكتساب المعنى شبيها باكتساب التصور، فيزداد الكلام حسنا .... إن دراسة الحذف بمثابة ربط العنصر الفكرى بالبعد النفسى "(27) إن الحذف لهو بمثابة " الفارق بين مقررات النظام اللغوى وبين مطالب السياق الكلامى الاستعمالى "(28) بل إن جملا وأساليب كاملة لن يتم لها " حق الفهم الكامل إلا بمسرحة الكلام، والحذف جزء من ذلك "(29) والرائى للحذف، يدرك أن ثم أكثر من معنى " فمرجع المزية فى حذف المسند كامن فى تكاثر المعنى، نظرا لكثرة الوجوه التى تصلح لتقدير المحذوف"(30) إن علم المعانى وما يحتويه من مباحث الذكر والحذف، والتقديم والتأخير، إلى غير ذلك " يعنى بالأمرين- الجمالى والنفسى- ويقيم الحكم على التحسس بمواطن الكلام موظفا الذوق فى تقويم الكلام "(31) وتتمثل قيمة السياقات المحذوفة أوالفارغة فى أنها " تمثل إمكانية، إنها تعبر عن رابطة التساهم التى لم يتم إنشاؤها بين عاملين أو أكثر، إنها تشير إلى خاصية (التلاؤم اللازم) التى تعد أول خاصية من خواص السياق "(32) وبالنظر إلى مقولة الذكر والحذف، يمكن القول أن هناك " بنيتين، بنية سطحية يمثلها الذكر وهى وصف الصيغة الصوتية للجمل، وبنية عميقة يمثلها الحذف يحدد التفسير الدلالى للجمل "(33) إن هذه التغيرات التى تصيب الجملة- ومنها بالطبع الحذف- لتؤدى إلى حالات " تغيير لفظى ناجم عن الحذف والإضافة التامين "(34) ويأتى حذف التنوين ليزيد المعنى بهاء ووضوحا وذلك حين نقرأ قول الأحوص:

سلام الله يا مطرٌ عليها    وليس عليك يا مطرُ السلام

فتنوين (مطرٌ) فى الشطر الأول، يدخل فى " منطقة التجهيل والتنكير وعدم تنوينه فى الشطر الثانى وبناؤه على الضم، تأكد لنا هنا أن الشاعر متوجه إلى معروف مقصود "(35) إن الحذف ليس انحرافا عن " المعيار، بل انحراف عن المعنى "(36) واختلاف المعنى تال لاختلاف التقدير ومترتب عليه، كما فى قوله وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ (البقرة:220) فإن قدرت المحذوف ضميرا كان رفع (إخوانكم) أى: فهم إخوانكم، وإن نصبت كان صوابا كأن تقول: فإخوانكم تخالطون والمعنى " لابد أن يختلف باختلاف التقدير، ولكن الاختلاف هنا دقيق ولطيف غاية فى الدقة واللطف، فإذا كانت الجملة (فهم إخوانكم) فالمعنى أن هذا شىء ثابت مقرر ولا غضاضة فيه وإذا كانت (فإخوانكم تخالطون) فالمعنى أن لا بأس من استحداث هذه السنة الحميدة مع إخوانكم "(37) ويذهب بعض الباحثين مذهبا بعيدا فى دور الحذف فى بناء الجملة، إذ يراه يتجاوز ذلك إلى " بناء تشكيل تعبيرى مواز للنص الشعرى المنطوق، أو بمعنى آخر يساعد فى خلق فضاء يحيط بالنص، ثم يساعد فى إنشاء علاقة جدلية بينهما، ثم يقوم على إضافة كثير من عناصر التعبير الغائبة بالفعل أو بالقوة إلى الفضاء، ثم يرد إلى النص المنطوق كثيرا من الدلالات الفضائية، وبهذا نصبح أمام ثنائية نصية، طرفها الأول: ما يقوله النص بالفعل(الذكر) وطرفها الثانى: ما يقوله النص بالقوة (الحذف) والغائب هنا فى الفضاء يلعب دورا أساسيا فى إنتاج الصياغة وإن كان غير مباح له أن يظهر بشكل مباشر بأى حال من الأحوال "(38) ومن هنا فإن ثنائية الذكر والحذف لها عظيم الأثر فى بناء الجملة وبلاغتها ويعيد الأديب المبدع بناء الجملة على أساس من تلك الثنائية " لتتشابك مع حسه الشعورى واللاشعورى وتدخل فى التركيب اللغوى للجملة "(39).

ومهما يكن من أمر، فبعد هذه التطوافة نتلمس أثر الذكر والحذف فى بلاغة وفصاحة الجملة، أى أثر.

رابعاً- الحذف والاستغناء:

ويتلاقى الحذف والاستغناء؛ فإذا كان الحذف إسقاط وترك أحد ركنى الجملة اكتفاء بالآخر، فإن الاستغناء عدم الاحتياج إلى شىء اكتفاء بشىء آخر(40)، هو ترك لفظ من كلامهم ألبتة اكتفاء عنه بغيره، فيصير المستغنى عنه مطروحا من كلامهم أبدا بحيث لو " رام رائم إظهاره فى الكلام أتى بضرب من العبث الذى تتنزه عنه ساحة لغتنا العربية "(41) ومنه الاستغناء الاستعمالى، كجمع القلة والكثرة حيث يستغنون بأحدهما عن الآخر لمناسبة دعت إلى ذلك وتتجلى قيمة الاستغناء عند سيبويه بارتباطه بالمعنى " حيث لم ينتقص المعنى "(42) تماما كالحذف، حيث لا يخل بالمعنى وإلا لما وجد وشرع ويتأتى الاستغناء لسد شىء مسد المستغنى عنه، تماما كما فى خبر (لولا) حيث سد جواب (لولا) مسد خبره، كما فى قولنا: لولا زيد خرج على وكذلك سد جواب القسم مسد الخبر المحذوف (قسمى) كما فى قولك: لعمرك لأفعلن كذا، وكذلك فى سائر الحذف. إن المحذوف والمستغنى عنه يتفقان فى كون المعنى لا يتغير ولا يتبدل بذكرهما أوعدمهما وقد ذكر عبد القاهر الجرجانى ذلك فى دلائله حين قال " وذلك مثل قولهم: أكرمنى وأكرمت عبد الله " أردت " أكرمنى عبد الله وأكرمت عبد الله " ثم تركت ذكره فى الأول استغناء بذكره فى الثانى فهذا طريق معروف ومذهب ظاهر "(43) على أن ثم فارق بين نوعى الحذف والاستغناء، حيث يفترق معنى الحذف الوجوبى عن الاستغناء " فهو بعيد من ساحة الاستغناء، لأن المحذوف فيه غير مراد معناه، حيث يمتنع ذكر المتروك ويميز بأن معناه مراد بخلاف الحذف، أما الحذف الجوازى فإنه يلتقى مع الاستغناء فى أن محذوفه مراد، ولكنه يصح ذكره فلا يفسد اللفظ "(44) وجملة الأمر فإن الاستغناء والحذف يدوران حول إضمار وإخفاء أحد مكونات الجملة العربية ولو كانت الحاجة إليه أشد، لما أسقط وأهمل، وتمام الكلام من جهة المعنى هو أمارة الاستغناء وقد تكلم ابن جنى فى خصائصه عن ذلك فى باب إصلاح اللفظ وأن المبغى من ذلك كله هو الاحتياط للمعانى(45).

نتائج الدراسة

وبعد ......،،،

فلقد توصل البحث إلى نتيجة هامة أفرزتها هذه الدراسة، جاءت كالتالى:

الحذف ليس، كما يفهم من الوهلة الأولى أنه إسقاط وإخفاء وإضمار بل هو الغائب الحاضر، هو حذف باطنه ذكر وليس معدوما دوما.

توصيَّات الدّراسة:

1- ضرورة تناول أية ظاهرة بلاغية على ضوء علاقتها بالعلوم الأخرى؛ بُغية التكامل والتآزر.

2- التأكيد على أن يكون هذا التناول مستوعبًا فى إهابه التليد والقشيب.

3- إسقاط الحداثوية آن هذا التناول .

وأخيراً وليس بآخر نود القول بأن هذه الدراسة ربما أثارت سؤالا تجيب عنه قادم الأيام وقادم الصفحات مؤداه: هل يمكن لعلوم البلاغة الأخرى، كما الذكر والحذف أن تؤسس لوحدة معارفاتية تكاملية ؟ هذا، وعلى الله قصد السبيل.

 

د. محمد سعيد محفوظ عبد الله

...................

(1) المعجم الوسيط: مادة (ذكر) ص 133.

(2) مختار الصحاح: مادة ذكر ص 222.

(3)/ د/ أحمد بدوى – من بلاغة القرآن– دار نهضة مصر – سنة 1978م – ص 118.

(4) المعجم الوسيط: مادة (حذف) ص 162 – 163.

(5) مختار الصحاح: مادة (حذف) ص 127.

(6) – د/ عبد الرازق أبو زيد -علم المعانى بين النظرية والتطبيق– مكتبة الشباب – القاهرة – ط2 – سنة 1987م – ص101.

(7) انظر: – د/ صلاح فضل، علم الأسلوب – مبادئه وإجراءاته، دار الآفاق الجديدة، بيروت – سنة 1982م – ص 192.

(8) المصدر نفسه – ص 256.

(9) – د/ مصطفى ناصف- نظرية المعنى فى النقد العربى– دار الأندلس – بيروت – سنة 1965م – ص 15.

(10) – ريمون طحان- الألسنية العربية– بيروت – سنة 1972م – ص 117.

(11) نظرية المعنى فى النقد العربى – ص 241.

(12) دلائل الإعجاز – ص 146.

(13) المصدر نفسه – ص 171.

(14) المصدر نفسه – ص 153.

(15) دلائل الإعجاز – ص 170؛ وانظر الخصائص 3/56.

(16) انظر: – الرمانى -النكت فى إعجاز القرآن– تحقيق أ/ محمد خلف الله، د/ محمد زغلول سلام – دار المعارف – القاهرة – سنة 1970م – ص 70 – 71؛ وانظر: أثر النحاة فى البحث البلاغى – ص 253.

(17) الخصائص 2/ 362.

(18) المصدر نفسه 2/ 394.

(19) – د/ أحمد كشك- النحو ودوره فى الإبداع– دار غريب – سنة 2008م – ص 25.

(20) انظر: ابن خالويه -إعراب ثلاثين سورة– تحقيق/ عبد الرحيم محمود – دائرة المعارف العثمانية – سنة 1360ه – ص 121.

(21) انظر: فلسفة البلاغة بين التقنية والتطور – ص 78.

(22) الكتاب 1/ 279.

(23) المراغى -علوم البلاغة –– المكتبة المحمودية التجارية – القاهرة – سنة 1965م – ص 92.

(24) – د/ عبد الحكيم راضى- من آفاق الفكر البلاغى عند العرب– مكتبة الآداب – القاهرة – سنة 2006م – ص 28.

(25) – د/ نهاد الموسى- نظرية النحو العربى فى ضوء مناهج النظر اللغوى الحديث– دار البشير – سنة 1987م – ص 87.

(26) – د/ محمود سليمان ياقوت- علم الجمال اللغوى– دار المعرفة الجامعية – سنة 1995م – ص 310.

(27) – د/ محمد عبد المطلب البلاغة العربية – قراءة أخرى– الشركة المصرية العالمية للنشر – سنة 1997م – ص 221 – 223.

(28)– د/ تمام حسان- اللغة العربية معناها ومبناها– الهيئة المصرية العامة للكتاب – سنة 1987م – ص 298.

(29) – د/ أحمد كشك- اللغة والكلام أبحاث فى التداخل والتقريب– دار غريب – سنة 2004م – ص 18.

(30) – د/ محمد أبو موسى- خصائص التراكيب– مكتبة وهبة – سنة 1980م – ص 215.

(31)– د/ أحمد مطلوب- بحوث لغوية– دار الفكر – القاهرة – سنة 1987م – ص 106.

(32) – د/ وليد منير- جدلية اللغة والحدث فى الدراما الشعرية العربية الحديثة– الهيئة المصرية العامة للكتاب – سنة 1997م – ص 97.

(33) انظر: تشومسكى -البنى النحوية– ترجمة د/ يوئيل يوسف عزيز – بغداد سنة 1985م – ص 81 – 110؛ وانظر كذلك: من الأنماط التحويلية فى النحو العربى – د/ محمد حماسة – دار غريب – سنة 2006م – ص 14 وما بعدها.

(34)– د/ صلاح فضل- بلاغة الخطاب وعلم النص– عالم المعرفة – الكويت – سنة 1992م – ص 115.

(35) النحو ودوره فى الإبداع – ص 25، 26.

(36) – فولفجانج إيسر- فعل القراءة – نظرية فى الاستجابة الجمالية– ترجمة / عبد الوهاب علوب – المجلس الأعلى للثقافة – سنة 2000م – ص 98.

(37) د/ محمد حماسة – فتنة النص – بحوث ودراسات نصية –دار غريب – سنة 2008م – ص 178.

(38)– د/ محمد عبد المطلب قضية الحداثة عند عبد القاهر الجرجانى– الشركة المصرية العالمية للنشر – سنة 1995م – ص 116 – 119.

(39) فلسفة البلاغة بين التقنية والتطور – ص 79.

(40) اللسان: مادة (غنى).

(41) انظر: مجلة جامعة الأزهر للدراسات الإسلامية والعربية – المنصورة من مقال للدكتور / أبو المجد على حسن عمايرة بعنوان (دور الاستغناء فى تثقيف اللفظ العربى وعلاقته بالحذف – سنة 1992م- 1/ 874

(42) الكتاب 1/ 361.

(43) دلائل الإعجاز – ص 163.

(44) انظر: مجلة جامعة الأزهر 1/ 515.

(45) انظر: الخصائص 1/ 313 – 317.

أخترنا لك
الانتقالات الشتوية: تشيلسي أكثر نشاطا وحذر عمالقة القارة العجوز

(ملف)عاشوراء : انتصار الدم على السيف

المكتبة