بقلم | مجاهد منعثر منشد
....................................
*( نخلة)
في جوف الليل تسللت لذاكرته وصية النَّبيِّ كنسماتٍ رقيقة, حركت عينيه على غلام لونه يشبه جذع نخلة كان مولى سيدة من بني أسد ؟
- أَتبيعينَ هذا الغلام !
ـ نعم ياوصيَّ رسول الله .
اشتراه واعتقه , سأله : ما أسمك ؟
ـ سالم .
أخبَرَني رسول الله أنّ أسمك الذي سمّاك به أبوك في العجم ميثم .
ـ صدق رسول الله وخليفته واللهِ إنّه لاَسمي.
أرجِعْ إلى أسمك الذي سمّاك به رسول ودَعْ سالماً.
أصطحبه أمير المؤمنين معه واشترى له دارا قريبا من بيته في الكوفة , نام ليله فرآى مناديا يناديه : أَيّها النائم , فوالله لتُخَضِّبَنَّ لحيتكَ من رأسِكَ!
مضى يصلي صلاة الصبح , صلَّى خلف الإمام , قصَّ عليه رؤياه , أَنصت لصوت علي : صدقت , واللهِ لتُقطَعَنَّ يداك ورجلاك ولسانك والعينان .
اندهش ونطق : ومن يفعل ذلك يا أمير المؤمنين!
ـ ليأخذنَّكَ العُتلُ الزَّنيمُ ابن الأَمة الفاجرة.
مسك يد هاني , أمضي معي أريك النخلة التي تصلب على جذعها !
عشرين سنة يحيطها بالماء , يصلي عندها ركعتين ويخاطبها وهو يسقيها : أنبتك الله من أجلي وغذاني من أجلك .
**********
*( حج التمار)
ستون للهجرة ماتت نخلته الباسقة وأصبحت جذعا يابسا , قطع غصنها فتحولت إلى جذع قصير ,و أخذ مسمارا وكتب عليه أسمه ,فسمره في الجذع.
سار إلى دكانه في سوق الكوفة, أَوصى أَولاده ببيع التمر وودعهم , انطلق الى بيت الله الحرام .
فقصد زوجة النبي أمّ سلمة , استأذن بالدخول عليها , كلَّمته من وراء ستار : أنت مِيثم ؟
ـ أنا ميثم.
أردفت
طالما سمعتُ رسولَ الله يذكرك في جوف الليل ويُوصي بك عليّاً.
ـ روحي فداء لرسول الله وعلي .
نطقت :وكثيراً ما رأيتُ الحسينَ بن علي يذكُرك.
ـ سألها بلهفة :فأين هو؟
خرج في غنمٍ له آنفاً.
ـ أنا واللهِ أُكثِر ذِكرَه، فأقرئيه السلام فإنّي مبادر!
**********
*( مصلوب)
توافد المؤمنون يباركون حجَّ ميثم التمَّار في السوق , أَخبروه قبل ثلاثة أيام عن قتل مسلم وهاني , وسعت حدقة عينيه , صمت , أشتكى أحدهم قسوة عامل الوالي ومطاردته لأصحاب علي .
نهض ومضى إلى دار الإمارة , حرك لسانه : أيها الوالي الباعة يعانون من ظلم عاملك في السوق .
أنحنى حرس ابن زياد هامسا في أذنه اليمنى : أتعرف هذا أيها الأمير, إنه الكذاب مولى الكذاب.
ـ ويحكم هذا الاعجمي ؟
فأردف الطاغية : أين ربك؟
أجابه بشجاعة : بالمرصاد للظلمة وأنت منهم.
صمت ابن زياد ونظر بوجوه الحاشية قائلا: هل كل الموالي لعلي من هذه القماشة, لما لم تنفضوا التراب والقمل عنه قبل أن تسمحوا له بدخول دار الأمارة؟
منذ متى لم يمس جلدك الماء أيها التمار ؟
ألم تغتسل بحياتك ؟
تعالت قهقهات جلاوزة الوالي .
ـ رد عارفا فقيها : أولا :عليكم أن تعلموا أيه الجهلة أن التراب هو المطهر بعد الماء .
ثانيا : أفضل أن يأكل القمل جسم النحيل هذا خير ما يأكله بين جدران القبر الدود والعقارب والافاعي .
ثالثا : من صفات أبناء الزنا والحرام أن يحقروا أعدائهم بهذه التهم والأكاذيب وها أنا بينكم لا أحمل قملا ولاترابا.
أشتاط ابن زياد غضبا كبركان يتطاير شراره , سارت به قدماه مسرعتين. ركل وجه ميثم فأسقطه على الأرض.
كلمه حاجبه : فديتك ياسيدي دع هذا العجوز الواقف على حافة القبر يبدو إنه ملأ بطنه خبزا فامتلأ به جلبابه , فالجدل مع هذا البائس لا يليق بمثلك سيدي .
صرخ سوف أقتله شر قتله , أمرهم ,خذوه وأخرجوا لسانه من حلقومه القذر ثم أَصلبوه على جذع نخلة ليبصق الناس عليه .
ـ غرد لسان ميثم كبلبل يشدو : لاحول ولاقوة إلا بالله , قسمًا بذات الله إنَّني كنت على علم بما ستفعله بي, لقد سمعت كل شيء من سيدي علي .
استغرب الوالي مرددًا :علي , ماذا سمعت من علي ياحقير؟
ـ حدثني سيدي علي عن كيفية موتي , قال لي: ياميثم أنت سوف تقتل حتمًا على يد ابن زانية , يقطع لسانك ويعلقك على جذع النخلة التي كنت تقتات منها .
كشر عن أنيابه ابن زياد قائلا : علي كذاب, سأثبت لك إنَّه كاذب كبير, سأجعل قتلك مُغَايرًا لما تنبأ به علي!
نادى يا ابن حريث خذوه لغياهب سجن مظلم لتأكل لحمه الحشرات ويموت منسيا .
أطرق مسامعه ميثم : أنت على يقين من صدق علي عليك, يافاسق اذهب وافعل ما يحلو لك, أقسمُ بالله العظيم ما سمعت من عليٍّ شيئا غير الحقيقة والحجج الناصحة .
تأَهوَّه ابنُ زياد مستهزئا :آهٍ آهٍ . إستدار لخادمه يقول له: يابن حريث الطمْهُ على فمِهِ, وأبعده عن ناظري .
أصابه ألم في صدره ,سار لغرفته يتألم , يتمايل بجسمه, يردد : آهٍ آهٍ .
ضربه جلاوزته عدة ركلات على ظهره ووجهه وسحبوه بقوة نحو سجنه المظلم .
تألم واخترق صوته مسامع المختار فحدثه :وأخيرا قمت بعمل مثلي دفنك حيًّا .
ـ أجابه : أين القبر من هذا النفق المظلم يا أبا أسحاق , أعوذ بالله من ضغطة القبر ومنحدره أن الوصول للحبيب مليء بالمخاطر أدعو الله تعالى كي لانضيع ونحن نسعى للخلاص من متاهات هذه الانفاق المتداخلة .
أردف المختار : سوف لن نضيع عندما ننظر إلى السماء نرى النجم الذي يهتدى به .
ـ أجل وإن كانت السماء غائمة أو صادفتنا بالطريق بئر فهناك من كان رأسه في السماء فوجد نفسه بالبئر ماذا نصنع حينئذ ؟
لاتتشائم ياميثم ,طريقنا طريق صعب ووعر, لكننا ليس في الجاهلية , حبّ الإمام علي سبيل رشادنا .
ـ سأله : هل أنا مجنون يامختار؟
همهم قائلا معاذ الله , ان كنت مجنونا فمن العاقل أذن ؟
أردف بسؤال أخر : أنت مغرم يامختار ؟
ـ أَلا أَبدو لك كذلك؟ .
فأجابه :لا يبدو عليك ذلك وجرح عينك هذا يثير الشك ,أحذر الشيطان يامختار سوف تُكَلَفُّ بمهمة خطيرة, ستقتل ابن مرجانه وتدوس على وجهه بقدمك, وعندها إياك والغفلة من البئر الذي تحت قدمك , لربما يرسلك لقعر جهنم .
حرس السجن أبلغوا قائد الشرطة : ميثم لا يكفُّ عن السبِّ وتحريض السجناء .
خاطبهم :بأمر الأمير اقطعوا لسانه فورا , اشنقوه أمام الناس وعلى جذع النخلة .
قيدوه , صلبوه على جذع النخلة , لجموه , اليوم الثالث , طعن بالحراب , كبر , أخر النهار سالت الدماء من فمه وأنفه , التحقت روحه بالسماء.