ما بين السطور.. أمهات بلا أمومة

2023/05/07

د.حصة العوضي

هناك أطفال وصغار يتمنون لو أن أمهم على قيد الحياة، ليرتموا في أحضانها، ويبثوا شجونهم وشكواهم.

وهناك آخرون أيضًا يتمنون لو أن أمهاتهم لم تغادر البيت ولم تكن في مكان آخر، ليتمكنوا من اللجوء إليها في كل وقت وكل حين.

وهناك أطفال وأبناء يتمنون حقيقة، لو أن أمهم ليست موجودة معهم، وليسوا واقعين تحت سلطتها وإرادتها القاسية.

كل من هؤلاء الصغار لهم مشكلة أو قضية مع الأم، ذلك الإنسان الذي يمتص أحزانهم، وهمومهم، وآلامهم، ويشعرهم بالأمان والطمأنينة في ظله، وتحت جناحيه في كل وقت وآن، دون انتظار لشكر أو أجر أو ثناء.

إلا أننا حين ننظر حولنا، نجد أبناء يتيهون تحت سلطة الظلم والتعاسة لغياب الأم، بموتها، أو بانفصالها عن الأب. وأحيانًا لا يجدون القلب الحقيقي الذي بإمكانه احتضان أوجاعهم وأحزانهم، ويبتلون بأخريات، على شكل زوجة أب، أو قريبة، مُتسلطة، لا تعرف شيئًا عن الحب والحنان، فتقوم بتفريغ كل شحنات غضبها وسلطتها على هؤلاء الذين لم يعرفوا بعد الفرق بين الظلم والعدل.

وهذا الأمر تجسده لنا الكثير من القصص والحكايات القديمة، التي لم تكتب في الأصل، ولم تخرج من أعماق مُنتجيها، إلا لغصة في حلقهم، وسيول من الألم والشقاء الذي لزمهم أثناء نموهم، لفقدهم تلك الأم التي وعوا على صوت هدهدتها، واحتموا في ثنايا رحمتها، واطمأنوا في كونهم تحت جناحي الرحمة والحب والحنان.

ورغم اتهام النقاد هذه الحكايات التي تصور زوجة الأب، أو المرأة التي تتخذ موقع الأم بعد غيابها، بالشر والقسوة والظلم، فإنها حقيقة واقعة، في كل أنحاء العالم، بدليل أن حكايات زوجة الأب الشريرة، لم تخرج من مُجتمع واحد فقط، ومن بيئة معينة فقط، بل إنها خرجت من كل جهات الأرض، بكل لغاتها، وعاداتها، وانتماءاتها.

وقد كانت معظمها، تمثل فقد الأم أو غيابها، واستبدالها لمن تملك زمام السلطة في البيت، حتى على آبائهم.

هؤلاء هم الذين فقدوا أمهاتهم، اللاتي غيبهن الموت في أحضان اللحود، قبل أن ينهلوا من منبعها كل ما يحتاجونه من قوة وأمان، في تلك الأزمان العصيبة، والتي لم يعرفوا أصلًا بحقيقة وجودها في العالم الإنساني، وعالم المرأة الطيبة الحنونة، التي تنقلب فجأة وبحكم ما بداخلها من غل وحقد وأنانية، على هؤلاء الأيتام، أو فاقدي الأم بانفصالها عن الأب.

وهذا لا يُعطينا الحق بأن نشير إلى أن كل امرأة تتولى تربية أبناء زوجها، شريرة وقاسية كما تصورها الحكايات، لكن الشر يقابله الخير، والظلم يقابله العدل، والقسوة تقابلها الطيبة والحنان، وهو ما يكون خارجًا عن مضمون تلك الحكايات، رغم أنه لا ينفي بقاء عدد من الآفات منه حتى يومنا هذا.

أما عن الصغار والأبناء الذين يرون في أمهاتهم، نوعًا شديدًا من القسوة والظلم، واللاتي يفرقن بين ابن وآخر، وبين فتاة وأخرى، مما يشعر هؤلاء الأبناء أنهم يعيشون في بيئة غريبة عما يسمعونه ويعرفونه عن معيشة أقرانهم في العائلة أو المدرسة أو الحي.

نعم، يوجد هناك عدد من هؤلاء الأمهات، لسن بالكثرة حقًا، لكنهن يمتلكن تحت سقوفهن، براعم لا تزال تتفتح، إلا أنهن بدلًا من اتخاذهن موقف الأم الحقيقية، والتي أوجدها الله لحمايتهم ورعايتهم بالعدل والأمان، فإنهن يلبسن رداء الخوف والترهيب والعقاب القاسي، والتجويع، والضرب، وغيره من أنواع التربية الظالمة..

أعرف بعضهن، ورأيتهن وهن يتركن على وجوه صغارهن آثار أصابعهن التي انهالت عليهم بالصفع دون ذنب أو جريرة، وهم لا يزالون في سن لا تتخطى الرابعة والسادسة.

ربما اليوم أحاول لفت أنظار هؤلاء الأمهات، وزوجات الآباء، والقريبات اللاتي يحتضنّ أيتامًا لا حيلة لهم ولا مهرب، أن هناك من يحصي عليهن كل حركة، وكل كلمة، وكل موقف يقفن فيه ضد هؤلاء المحرومين، والذين سيكونون القاضي والجلاد، بأمر من الخالق الأعظم، لينلن ما جنته أيديهن، وما لفظته ألسنتهن، وما سكبته مشاعرهن القاسية عليهم في يوم من الأيام.

أخترنا لك
الوجه غير الروائي لنجيب محفوظ

(ملف)عاشوراء : انتصار الدم على السيف

المكتبة