يسعى أغلب كتّاب الواقعية لاحتواء الواقع المعاش دون النظر الى منهجية
محددة سعيا لتمثيل الواقع الذي يحمل بين ثناياه بؤر جمالية أكبر من أي
تكوين منهجي، فيصبح الواقع عندهم التزاما وهوية انتماء. وبهذا المفهوم
نستطيع ان ننظر الى رواية (جسر الخر) على انها هوية الكاتب (صباح
رحيمة) والذي استهل مفتتحه الروائي بسردية وصفية احاطت بكل تفاصيل
القرية من مكونات مكانية، وشخوص وتعريفات قدمت سيرة ذاتية لقرية
(النواب ضباط) مستفيدا من ثراء التكوين المرجعي للقرية بشخوصها
وتراثها الشعبي وبألعاب اطفالها الجميلة (كالجعاب، والبقرة، وغميضان،
وصگله) بحفلات افراحها كحفلة ختم القرآن، وعوالم رمضان، و(الماجينه)
وصور جميلة تشكل تداعيات عالم جميل وهوية شعورية تعمق كينونة الحدث
دون ان تضع عقدا اسلوبية تعرقل صياغات نقل الحدث بشفافية تنفتح على
عالمين متناقضين داخل بقعة مكانية واحدة. (جسر الخر) – الحارثية: بيوت
طين واكواخ بجانبها قصور فخمة، اجساد طفولة غضة امام ملوحة أوجه كالحة
بالجوع، قرية تنتهي وحي ينمو.
فقد تعامل (صباح رحيمة) بذكاء بحضور القرية وتغييب عالم القصور وكأنها
محطة حلمية لا نفسية، عالم جميل لكنه ليس لنا، وليس هناك شخصية محورية
بل سمات مجتمع يشكل مدينة مستقبلية. مثل هذه الوصفية للمكان والشخوص
المصوغة اسئلة وجدانية تطالب بتفسير معنى النصيب، وما تعنيه كلمة
أرزاق، يشكل ثنائية المشهد النقيض بين القرية والحي المجاور بواسطة
تراكيب مشهدية مشحونة بالموحيات؛ فالقرية وطن النازحين من جور الاقطاع
ورغم محدودية حياتها وبساطة تكوينها الا انها قادرة على تصدير الجمال
عبر رسام الصف الى قلب الحارثية ليؤدي وظيفة الرسم وظيفة جمالية،
لكننا نجد ان التداخل بين العالمين مرهون باحتياج حي الأغنياء وليس
برغبات القرية الفقيرة.
تفاصيل واقعية ولشدة واقعيتها من الممكن توقع اغلب احداثها الثانوية
بسبب تعرش الدلالات المرسومة ضمن فضاءات السرد النمطي، لكن التوغل في
البنية النصية سيمنحنا عوالم أكبر من الواقع نفسه، فثمة اجتماعات سرية
اعتبرت نواة تكوينية للحزب الشيوعي في القرية تجتمع ليلا كما اللصوص،
وتتداول اسرارها عبر التخفي معبرا عن ظلامية
التكوين.
علاقات تأخذ شكل الشبهة الاخلاقية مع محاولة ذكية تسعى الى ابعاد
التكوينات العائلية لهذه الشخصيات الظلامية عن محور الشبهة لكونها
تمثل شرف القرية عبر متغير سياسي عام (الثورة) انفتحت الرواية على
عالم اخر كشف ما وراء القرية (ملك – ملك من ورق ليس إلا – لكن خوفي
على اهل قريتي، شبابنا الذين يتولون حراسته – اخشى ان يقتلوا بين
هؤلاء واولئك) انعكاسات مقتل العائلة المالكة على القرية الصغيرة
ليكون منها المقتول مع الملك ومنها الثائر ضده، ظهرت امتدادات جذرية
وصراعات كبيرة وعلاقات جديدة قلبت الموازين واستبدلت مواقع اجتماعية
بأخرى المجنون (صادق) صار مسؤولا، والموظف البسيط (ابو نعيم) صار
قائدا، وتنامت مخاوف جديدة (الذي ينكر وجود الخالق ولا يقر بالأنبياء
والأوصياء ويرى ان الدين هو سبب التخلف وتعطيل
الحياة).
اذن ثمة تناقضات مثل واقعية الجسر عبر تفاصيل حياتية مملوءة بالمخاوف
والقلق مرسومة بعناية وفق مشاهد وانتقالات استرجاعية عكست تباينات
دقيقة وكبيرة بين الحزب – المجتمع- تباينات فكرية صعدت فاعلية المشهد
النصي جماليا حيث هيأت لنا وجود ذهني لمسعى تلك التفاصيل المشكلة
لمعنى الصراع وارتعاشات ابي نعيم المتعاقبة وفضول ياسين العطار مع
واقع اجتماعي... وتوزيع أراضي، سلسلة سجون، تعذيب، استشهاد الحاج
فليح، والشاب صالح... نقائض واقع يسأل به المكان (صباح رحيمة) يبقى
على الانسان ان يعيش مسلوب القول والحكم والمعتقد والمحاولة وكيف تملأ
الصحف والاذاعات تصريحات تشهر بالعدالة والحرية وكيف؟ وكيف؟ ولتشكل
هذه الأسئلة واقعا هي الاخرى داخل الواقع الحياتي المعاش متمثلا صور
الحدث الكلي لرواية حافظت على الديناميكية الاجتماعية والنفسية في
حبكة تسجيلية راهنت على ان تكون نسيج عمل مبدع.