إذا كان السيد المسيح ارسل تلاميذه في حياته ليقوموا بالتبليغ في المدن والدول القريبة والبعيدة كما نقرأ في نص الإنجيل بأنه أرسلهم كلهم الاثنا عشر، فكيف يذكرون بأن يهوذا الاسخريوطي قام بالخيانة وسلم السيد المسيح للإعدام مقابل ثلاثين قطعة من الفضة ثم ندم وأنتحر وفي رواية أخرى: عثر وسقط على الأرض وانشق بطنه ومات. كيف يزعمون ذلك ويهوذا كان من ضمن الاثنا عشر الذين ارسلهم قبل صلبه للتبليغ بعيدا؟

المسيحيون في تبرير هذا النص المضطرب يقولون بأن السيد المسيح بعدما قام من القبر أرسل تلاميذه للتبليغ. فنقول لهم : كيف يُعقل أن يكون يهوذا بينهم، وهو الذي شنق نفسه بعد خيانته لسيده؟ يعني شنق نفسه قبل اعدام المسيح. فكيف عاش بعد المسيح لكي يرسله مع الاثنا عشر. ؟

يقول نص إنجيل متى : (ثم دعا تلاميذه ألاثني عشر : سمعان وأندرواس ، ويعقوب بن زبدي ، ويوحنا أخوه ، وفليبس ، وبرثولماوس، ومتى العشار، ويعقوب بن حلفي ، ولباوس ، وسمعان القانوني ، ويهوذا الاسخريوطي. هؤلاء الاثنا عشر أرسلهم يسوع وأوصاهم قائلا: فيما أنتم ذاهبون بلّغوا قائلين : إنه اقترب ملكوت السماوات).(1) فرحلوا امتثالا لأمر السيد المسيح. منهم من ذهب إلى تركيا الحالية او إلى سوريا وغيرها من بلدان. فمتى دخل الشيطان في يهوذا الاسخريوطي فقام بتسليم سيده لليهود ويهوذا غادر مع الاثنا عشر إلى جهة مجهولة للتبليغ برسالة المسيح.

فكما هو معلوم من إنجيل برنابا وغيره من أناجيل فإن السيد المسيح ارتفع إلى السماء وأن الذي أعدم كان شبيها له. وكل الأدلة تُشير إلى أن يهوذا هو الشبيه وهذا هو سبب اختفائه. ومن هنا نرى اليهود ومن أجل تبرير اختفاء يهوذا المفاجئ زعموا أنه شنق نفسه او انتحر بعد أن خان سيده. ولكن الصحيح ان يهوذا لم يشنق نفسه بل صُلب بعد أن فدى سيده. ثم يُبررون خيانته على أن الشيطان استحوذ عليه كما نقرأ : (فدخل الشيطان في يهوذا الذي يُدعى الإسخريوطي، وهو من جملة الاثني عشر).(2)

ولكن إذا كنتم تعرفون بأنه خان سيده فلماذا اختلفتم في كيفية موته، بعضكم يقول أنه شنق نفسه (انتحر) والبعض الآخر يقول بأنه (سقط على الأرض وانشق بطنه).وإنجيل آخر يقول : بأن السيد المسيح ارسله للتبليغ بعيدا؟! منين ما أجيبها ما ترهم.

ففي سفر الأعمال يقول بأن يهوذا اشترى حقلا بالمبلغ الذي حصل عليه من اليهود مقابل خيانته للسيد المسيح ،وبينما كان يهوذا يتفقد الحقل عثر وسقط وانشق بطنه كما نقرأ (اقتنى حقلا من أجرة الظلم، وإذ سقط على وجهه انشق من الوسط، فانسكبت أحشاؤه كلها. وصار ذلك معلوما عند جميع سكان أورشليم ، فأطلقوا على الحقل حقل الدم).(3) من هذا النص نعرف أن جميع سكان أورشليم وعددهم بالملايين عرفوا أن يهوذا سقط وانشق بطنه واندلقت احشائه ومات بهذه الطريقة.

ولكن ما بالنا نرى متى في إنجيله يُخالفهم جميعا ويزعم أن يهوذا لم يشتر حقلا لأنه ندم ورجع والقى النقود في معبد اليهود ثم ذهب وشنق نفسه كما نقرأ : (لما رأى يهوذا أنه قد دين، ندم ورد الثلاثين من الفضة إلى الكهنة فطرح الفضة وانصرف ثم مضى وخنق نفسه. فذهب الكهنة الفضة واشتروا بها حقل الفخارى).(4) إذا هنا اصبح لنا روايتان : الأولى تقول بأن يهوذا هو من اشترى الحقل واسم الحقل(حقل الدم). ورواية أخرى تقول أن اليهود هم من اشترى هذا الحقل وأطلقوا عليه اسم (حقل الفخارى). فأي من الخبرين نأخذ به؟ منين ما أجيبها ما ترهم.

ومن أجل دفع شبهة ان السيد المسيح لا يُحسن اختيار تلاميذه برروا فعل يهوذا بأن الشيطان دخله كما نقرأ : : (فدخل الشيطان في يهوذا الذي يُدعى الإسخريوطي، وهو من جملة ألاثني عشر).(5) هؤلاء الذين دسّوا هذا النص في الإنجيل نسوا أن السيد المسيح أعطى تلاميذه القدرة على استخراج الشياطين وشفاء الأمراض وإحياء الموتى. فإذا كان كذلك فلماذا دخل الشيطان في يهوذا الاسخريوطي ودفعهُ إلى خيانة سيده ، أين ذهبت قدرة اخراج الشياطين التي اعطاها له السيد المسيح؟ يقول متى بأن السيد المسيح قال لهم بعد ما كلّفهم بمهمة التبليغ : (اشفوا مرضى. طهروا برصا. أقيموا موتى. أخرجوا شياطين).(6) فمن كانت الشياطين تفرّ منه كيف دخل الشيطان فيه؟ وفي اشكال آخر نقول : كيف يُخرج الشياطين من به شيطان. منين ما أجيبها ما ترهم.

مرقص في إنجيله يؤكد قدرة التلاميذ على اخراج الشياطين وشفاء الأمراض فيقول : (فخرجوا وأخرجوا شياطين كثيرة وشفوا امراض).(7) وهكذا تكرر نص قدرة التلاميذ على طرد الشياطين عدة مرات في الإنجيل. لا بل أن الإنجيل يؤكد بأن من لا علاقة له بالسيد المسيح استطاع ان يُخرج الشياطين من الناس، كما يقول مرقص : (فأجاب يوحنا قائلا : يا معلم، رأينا واحدا يُخرج شياطين باسمك وهو ليس يتبعنا، فمنعناه. فقال يسوع : لا تمنعوه).(8)

وينقل لنا مرقص في إنجيله نصا غريبا جدا يقول فيه بأن السيد المسيح عندما ارسل تلاميذه للتبليغ وأعطاهم تلك القدرة على إخراج الشياطين، ارتفع إلى السماء كما نقرأ : (وقال لهم : اذهبوا إلى العالم أجمع ..وهذه الآيات تتبع المؤمنين: يخرجون الشياطين باسمي. ثم أنه بعدما كلمهم ارتفع إلى السماء، وجلس عن يمين الله).(9) ففي هذا النص تأكيد على أن السيد المسيح ارتفع إلى السماء مباشرة بعد ارساله للتلاميذ ، وكذلك تأكيده على قدرة المؤمنين بعده على اخراج الشياطين. لا بل اننا نقرا أنه اعطاهم القدرة المطلقة على الشياطين كما يقول لوقا في إنجيله : (دعا تلاميذه ألاثني عشر، وأعطاهم قوة وسلطانا على جميع الشياطين).(10)

فكل اشكال الشياطين وتنوعهم كانوا ضعفاء امام قدرة تلاميذ السيد المسيح فما بالنا نرى يهوذا من بينهم يخترقه الشيطان ويهوذا ايضا يمتلك قدرة مطلقة وسلطانا شاملا على جميع الشياطين. ولعلهُ من أغرب الأمور أن السيد المسيح لم يرد نص عنهُ أنه اتهم يهوذا بأن فيه شيطان ، بل ورد أن السيد المسيح اتهم تلميذ آخر هو (بطرس) كما نقرأ : (فالتفت وقال لبطرس: اذهب عني يا شيطان أنت معثرة لي).(11) ألا يدل هذا على أن في الأمر شيئا ، وان استهداف يهوذا بهذه الطريقة المضطربة يدل على أمر خطير ازعجهم ولذلك نرى الاختلاف في روايات اختفاء يهوذا.

والأكثر من ذلك أن الإنجيل نفسه يؤكد بأن السيد المسيح ارسل سبعين شخص للتبليغ وأعطاهم قدرة شفاء الأمراض ولكن الله اعطاهم زيادة على ذلك قدرة اخراج الشياطين كما نقرأ : (عين الرب سبعين آخرين أيضا وقال لهم اذهبوا واشفوا مرضى الذي يسمع منكم يسمع مني. فرجع السبعون بفرح قائلين : حتى الشياطين تخضع لنا باسمك).(12) فماذا كان جواب السيد المسيح للسبعين رسولا : (فقال لهم : رأيت الشيطان ساقطا مثل البرق من السماء).(13) عجيب والله انه امرٌ محيّر أن يهوي الشيطان من السماء بفعل التلاميذ ولا يهوي شيطان يهوذا الاسخريوطي. منين ما اجيبها ما ترهم.

ولكن باستنطاق الكتاب المقدس نرى انه حدد فئة معينة من الناس يستطيع الشيطان أن يسيطر عليهم كما يقول الملاك رافائيل لطوبيا : (فقال له الملاك رفائيل : استمع فأخبرك من هم الذين يستطيع الشيطان أن يقوى عليهم؟ إن الذين يتزوجون، فينفون الله من قلوبهم، ويتفرغون لشهوتهم كالفرس والبغل أولئك للشيطان عليهم سلطان).(14) واستنادا إلى هذا النص وبعد التدقيق جيدا في سيرة يهوذا الاسخريوطي تبين أنه لم يكن متزوجا حتى يكون للشيطان سلطان عليه؟!.

بولص الذي يهرف بما لا يعرف اختلطت عليه الأمور فزعم أن التلاميذ كانوا ثلاث عشر كما يقول : (أن المسيح مات .. وأنه دفن، وأنه قام في اليوم الثالث وظهر لصفا ثم للاثني عشر).(15) كيف يُعقل هذا! سمعان كان ضمن الإثنا عشر كما يقول الإنجيل : (ثم دعا تلاميذه الاثني عشر وأسمائهم . الأول : سمعان الذي يُقال له بطرس).(16) فإذا كان سمعان ضمن الاثنا عشر كيف عدّهُ بولس التلميذ الثالث عشر؟ بينما يقول الإنجيل بأن عدد التلاميذ بعد رحيل السيد كان أحد عشر؟! كما نقرا : (وأما الأحد عشر تلميذ فانطلقوا إلى الجليل).(17)

وبقي عددهم أحد عشر فترة طويلة إلى أن عملوا قرعة وانتخبوا (متياس) فأكملوا به العدد اثنا عشر كما نقرأ : (القوا قرعتهم، فوقعت القرعة على متياس، فحُسب مع الأحد عشر رسولا).(18) ولربما من حقنا أن نقول بأن التاريخ يعيد نفسه ، أو أن أحداثه تتكرر على يد الإنسان باستدعائه لممارسات الأمم السابقة. فالسيد المسيح عندما شعر بقرب رحيله ارسل تلاميذه للتبليغ كل اثنين (اثنين، اثنين) معا كما نقرأ : (ودعا الاثني عشر وابتدأ يرسلهم اثنين اثنين).(19) ولكن التلاميذ لم يمتثلوا للأمر وبقوا خارج المدينة. كما فعل اصحاب النبي محمد (ص) عندما ارسلهم لغزو الروم فلم يمتثلوا وبقوا خارج المدينة مع علمهم بأن النبي لعن من تخلف عن الجيش.

المصادر:

1- إنجيل متى 10 : 1 ـ 11.

2- إنجيل لوقا 22 : 3.

3- سفر أعمال الرسل 1 : 18.

4- إنجيل متى 27 : 4 ـ 7.

5- إنجيل لوقا 22 : 3.

6- إنجيل متى 10 : 8.

7- إنجيل مرقص 6 : 13.

8- أنجيل مرقص 9 : 38.

9- إنجيل مرقص 16 : 16.

10- إنجيل لوقا 9 : 1.

11- إنجيل متى 16 : 23.

12- إنجيل لوقا 10 : 17.

13- إنجيل لوقا 10 : 18.

14- سفر طوبيا 6 : 16. يقول الكتاب المقدس عن رفائيل بأنه موكل بمراقبة الشياطين ومحاربتهم وهو الذي علّم طوبيا صناعة اسلحة لمحاربة الشياطين وطردهم ، حيث قال له كما في سفر طوبيا 6 : 19 : (إذا أحرقت كبد الحوت، ينهزم الشيطان). ولكن ما نوع هذا الحوت لم يُبين لنا الكتاب المقدس ما جنسه بل أشار إلى أمر غريب جدا وهو أن هذا النوع من الحيتان يعيش في نهر دجلة، كما نقرأ في نص سفر طوبيا 6 : 1ــ 8. : (وسافر طوبيا فبات بجانب نهر دجلة وخرج ليغسل رجليه، فإذا بحوت عظيم خرج ليفترسه. فقال له الملاك : أمسك بخيشومه واجذبه إليك.شق جوف الحوت واحتفظ بقلبه ومرارته وكبده، فقال له طوبيا ما ما منفعة ذلك ؟ فقال الملاك : إذا ألقيت شيئا من قلبه على الجمر فدُخانه يطرد كل جنس من الشياطين في رجل كان أو امرأة بحيث لا يعود يقربهما أبدا).

15- رسالة بولص الرسول الأولى إلى أهل كورنثوس 15 : 5.

16- إنجيل متى 10 ك 2.

17- إنجيل متى 28 : 16.

18- سفر أعمال الرسل 1 : 23 -25.

19- إنجيل مرقس 6 : 7.