البخور في الأديان.
مصطفى الهادي.
بطريقة ما انتبه الإنسان إلى رائحة البخور
فاستخدمه حاله حال أي عطر آخر يستخلصه من الورود او بعض النباتات
والأشجار.وقد قيل الكثير عن البخور مما لا دليل عليه ، ولم يثبت
منه شيء سوى أنه عطر محبب للنفوس يُبرقع الأجواء النتنة بطبقة من
الرائحة تخفي نتانتها.
كان أول استخدام للبخور تم تدوينه هو ما وجدوه
على الجداريات المصرية قبل أكثر من اربعة آلاف عام ، ثم استخدم في
العصر الروماني واليوناني للطقوس الدينية، ثم استخدمته الصين
البوذية في معابدها واليابان في الشنتو.وهكذا تعددت استخدامات
البخور حتى فاقت الحصر.فأصبح له فوائد منها طرد السحر والجن. وجلب
الملائكة ، وانه علاج طبي لأمراض القلب والعلاجات النفسية
وغيرها.(1)
وأما في الإسلام فلم يرد نص قرآني في البخور
وكأن الأمر تُرك للناس، والأحاديث حوله لا تخبرنا بشيء سوى أنه
لتطييب الملابس وتعطير المكان ، وقد وردت أحاديث أكثرها عن طريق
صحاح السنّة والقليل منها عند الشيعة. حيث روى البخاري وغيره بأن
النبي امر بتطييب المساجد(2) وقد ذكر المؤرخون بأن عبد الله بن
عمر بن الخطاب يُبخّر المسجد إذا قعد عمر على المنبر.(3)
إلى هنا فهمنا أن كل تلك الأمم التي استخدمت
البخور لم تر فيه قدسية ولم تنسبه للدين او أن البخور هو من
مختصات الله تعالى يُعاقب من يستخدمه لا بل يأمر بقتله، حتى جاءت
التوراة فظهرت أعاجيب البخور.
فالبخور وصفة إلهية كما ترى توراة اليهود وكأن
التوراة تقول بأن الإنسان حتى عصر موسى لم يكن يعرف البخور فقام
الله بكتابة وصفة لصناعة البخور وهذا ما نقرأه بكل وضوح. فقال
الله : (خذ لك اعطارا. ميعة وأظفارا وقِنة عطرة ولبانا نقيا.تكون
اجزاء متساوية فتصنعها بخورا نقيا مقدسا. وتسحقهُ ناعما وتجعل منه
في خيمة الاجتماع).(4) وصفة البخور هذه خاصة بالله رب اليهود وكل
من يستخدمها سوف يُقتل كما يقول : (البخور الذي تصنعهُ على
مقاديره لا تصنعوا لأنفسكم. يكون عندك مقدسا للرب. كل من صنع مثله
ليشمّهُ يُقطع من شعبه).(5) فشم هذا النوع من البخور يُعتبر جريمة
يُعاقب فاعلها بالقتل.
شعيرة او عقيدة البخور الرباني المقدس تم فرضه
على كل أجيال اليهود إلى يوم القيامة كما يقول : (وحين يصعد هارون
يوقده. بخورا دائما أمام الرب في أجيالكم).(6) وهذه الوصفة
البخورية ولع بها الرب ولعا شديدا بحيث يصف حاله عندما يشمها
بأنها تصعد إلى قلبه : (أليس البخور الذي بخرتموه الذي ذكره الرب
صعد على قلبه). (7)
ولكن هذا النص يُخالف ما سبقه من نصوص تزعم أن
رائحة (الشحم المشوي). هي التي يسرّ بها الرب ويفرح وليس البخور :
(وتأخذ كل الشحم الذي يغشى الجوف، والكبد والكليتين والشحم الذي
عليهما وتوقدها على المذبح رائحة سرور أمام الرب ، كل الشحم
للرب).(8)
وكما أن الله احتكر (البخور) لنفسه وأمر بقتل كل من يشمّه ، كذلك
احتكر (الشحم) وانزل تشريعا يُحرّم به الشحم على اليهود تحريما
ابديا كما يقول : (فريضة دهرية في أجيالكم في جميع مساكنكم : لا
تأكلوا شيئا من الشحم).(9) ولكن القرآن يقول بأن تحريم الشحوم لم
يكن احتكارا من الله لأنه يحب رائحتها بل أنه عقوبة لليهود (وعلى
الذينَ هادوا ... حرّمنا عليهم شحومها .. ذلك جزيناهُم
ببغيهم).(10)
بعد هذا البيان الشافي لبخور الرب وحبه الشديد
له نرى هذا الإله يخالف اقواله السابقة خلافا عجيبا فيقول أنه
يكره البخور ويعتبره عمل باطل : (لا تعودوا تأتون بتقدمة باطلة
البخور هو مكرهة لي).(11) فإذا كان رب اليهود حرم البخور ويكرهه
حسب قوله ، فلماذا نرى اليهود يستخدمونه في معابدهم بكثرة؟
اما في المسيحية فلم يرد ذكر البخور على لسان
السيد المسيح ولا في اي حديث له والأناجيل تخلو من ذلك. ولكننا
نرى الكنائس اليوم تكاد تختنق من كثرة استخدام البخور. ففي كولوسي
يقول بولص بأن الشريعة انتهى العمل بها عند ابتداء المسيح بالدين
الجديد. (12) يعني وانتهى العمل أيضا ببخور الرب وشحمه المقدس.
وتقول دائرة المعارف : (من المؤكد أن البخور لم يُستخدم من قبل
المسيحيين الأولين. وفي الواقع كان استخدامه أحد سمات الوثنية حيث
يشعلونه على المذابح الوثنية وأن المسيحيين الأولين لم يتعاطوا
حتى تجارة البخور).إذا كان كذلك فمن أين جاءت عادة استخدام البخور
في الكنائس.(13)
بعد الذي عرفناه عن البخور. فما هي الحقيقة
وأين يكمن السر؟ .
كانت وصفة البخور غالية جدا،(14) ولذلك فإنها
مصدر نفع مادي كبير، ولمّا كانت المعابد تحتوي على (فِرَق) وفيالق
من الكهنة فلابد من تأمين مصدر دخل لهم ينتفعون منه فكان البخور
خير وسيلة لذلك لأن بعض أنواع البخور يُعادل في قيمته الذهب في
ذلك الزمان، فكانوا يُبيعونه للناس ليستخدموه في طقوسهم. ففي سفر
أخبار الأيام يخبرنا بأن الكهنة انفردوا وحدهم بهذه المنافع (بخور
، ذهب ، فضة). فيقول : (ولفرق الكهنة واللاويين، ولكل من عمل
بخدمة بيت الرب، آنية الذهب وجميع آنية الفضة بالوزن ومنائر الذهب
وسُرجهاــ مصابيحها ــ من ذهب ولمنائر الفضة بالوزن. وذهبا بالوزن
لموائد خبز الوجوه وذهبا خالصا للمناشل والمناضح والكؤوس. ولأقداح
الذهب والفضة ولمذبح البخور ذهبا مصفى. قد أفهمني الرب كل ذلك
بالكتابة بيده). أعداد هائلة من الكهنة ورجال الدين يعيشون على
هذا البذخ والناس حولهم يتضورون جوعا.وعندما يعترضون يقول لهم
الكهنة : (لقد كتب الرب ذلك بيده).(15)
المصادر:
1- وحتى الذين لا دين لهم استخدموا البخور في مقاصد شتى حسب
اعتقادهم منها ممارسة التأمل تحت تأثير رائحة البخور لبلوغ
مستويات من الوعي السامي . والحصول على قدرات خارقة خصوصية خارج
نطاق العالم المادي. وحتى اشعال البخور بكثرة خانقة للاتصال
بكائنات فوق الطبيعة، أو استحضار الجن.
2- الغريب أنهم ذكروا في صحاحهم أن النبي أمر بتطييب المساجد
بالبخور، فقد كان عبد الله العمري خادم النبي يقوم بتجمير المسجد.
ولكن مالك بن أنس كان يكره تبخير المساجد او تطييبها خلافا لما
أمر به النبي. انظر الثمر المستطاب في فقه السنة والكتاب ، ناصر
الدين الألباني ج1 ص : 586.
3- ما هو السر وراء قيام عبد الله بن عمر بتبخير المسجد عند دخول
عمر بن الخطاب وجلوسه على المنبر؟!وفي رواية هو نُعَيْم بن عبد
الله المُجَمِّرِ، فكان يبخّر المسجد إذا قعد عمر على المنبر،
انظر كتاب : التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، ص :
177. ترجمة نعيم بن عبد الله المجمر. ويُقال أنهم يفعلون ذلك
لإخفاء رائحة الخمر التي كانت تفوح منه كما يروي البلاذري
والزركلي وغيرهم من أن أحب الشراب إلى عمر كان النبيذ، وانهُ كان
يأكل ثم يمسح يديه بنعاله ويقول : أن مناديل آل عمر نعالهم. أنساب
الأشراف البَلَاذُري تحقيق: سهيل زكار: دار الفكر – بيروت الطبعة:
الأولى، 1996 .وكان يهوى البول وقوفا ويقول : البول قائماً أحصن
للدبر. المتقي الهندي كنز العمال ج9 ص 588.
4- سفر الخروج 30: 34 ـ 36. وخيمة الاجتماع هي المكان الذي يجتمع
فيه الله مع بني إسرائيل لتداول شؤونهم وأمور تدبير العالم، ومن
هنا استحوذت على اليهود فكرة السيطرة على العالم.
5- سفر الخروج 30 : 37. وقوله (يُقطع من شعبه) أي تقتله تجتثهُ من
اصوله اذا شم رائحة بخور الرب.
6- سفر الخروج 30 : 8.
7- سفر إرمياء 44 : 21.
8- سفر الخروج 29 : 25. و سفر الخروج 29 : 13.
9- سفر اللاويين 3 : 17.
10- سورة الأنعام آية : 146. ما روى عن ابن عباس أن رسول الله (ص)
كان قاعداً خلف المقام ، فرفع بصره إلى السماء وقال : لعن الله
اليهود لعن الله اليهود لعن الله اليهود ، إن الله حرم عليهم
الشحوم فباعوها وأكلوا ثمنها وإن الله لم يحرم على قوم أكل شيء
إلا حرم عليهم ثمنه). صحيح البخاري برقم (2224) وصحيح مسلم برقم
(1583 ).
11- سفر إشعياء 1 : 13.
12- كولوسي 2 : 14.
13- نفى بعض علماء المسيحية في أن تكون الكنائس قد استخدمت البخور
في الكنيسة في القرون الأربعة الأولى معتمدين في شكهم على عدم
ورود أي تفصيلات في كتابات الآباء عن هذا الطقس أو أي ذكر واضح
للبخور واستخدامه في العبادة ومن هؤلاء العلماء فلاسفة كبار أمثال
: اثيناغورس و كليمندس الإسكندري وترتليان وأغسطينوس.أنظر مقدمة
في علم اللاهوت الطقسي. القمص إشعياء بعد المسيح فرج: لمحة
تاريخية عن استخدام البخور في العبادة ص : 34.
14- عود البخور الأزرق يصنف اليوم من أجود و افضل أنواع البخور و
اعلاها سعرا يُستخدم في المناسبات الهامة وغالبا يستخدمه الاثرياء
و الامراء و اصحاب رؤوس الاموال بسبب كلفته العالية.
15- سفر أخبار الأيام الأول 28: 18. اللاويون، مفردها لاوي هو
المتحدر من أسباط بني إسرائيل الاثنا عشر، وهم مثل السادة عندنا
الذين يعود اصلهم إلى النبي (ص)،واللاويون يستحقون (العشور) وهي
اموال تُجمع مثل (الخمس) يأخذون سهما منها لمعيشتهم. كما يقول في
سفر العدد 18 : 24. (وأما بنو لاوي فاني اعطيتهم كل عشر في
إسرائيل ميراثا لك أعطيتها ولبنيك وبناتك فريضة دهرية كل طاهر في
بيتك يأكل منها). يقول المفسر المسيحي : اللاويين يأخذون العشور
وعلى الشعب أن يرفعها من المحصول. فما يأخذه اللاويين هو ملك الله
لأن الله ملتزم بإعالتهم وهو المسئول عن تدبير أمورهم المادية،
فقد حرّم العشور على الناس وأباحها للاويين، فما يُعطى للاويين
كأنما اعطيَ لله. أنظر شرح الكتاب المقدس - العهد القديم - القمص
أنطونيوس فكري العدد 18 - تفسير سفر العدد. واليوم يتميز اللاويين
في إسرائيل بوضع متميز خاص بهم .