الجذور القديمة للتطبيع.
مصطفى الهادي.
هذا الموضوع كتبته سنة 1991.
انتبه أعداء الإسلام إلى حقيقة خطيرة مفادها
أن أبناء الإسلام لا يتقبلون منهم ما يقومون به من جهود مقنّعة
بأثوابٍ العلميةٍ وان كل ما يطلقونه من دعايات وإشاعات لا تجد
آذانا صاغية من المسلمين ، وذلك لكونهم رجال استشراق مسيحيون ،
مهما قدموا سمومهم على أطباق مزوقة فأنهم يبقون موضع شك في عيون
المسلمين ، فأطلق أعداء الإسلام صيحتهم المشهورة (بأن الشجرة
لايقطعها إلا غصن منها).(1) فلا يُطيح بالإسلام إلا اهله.صيحات
مسيحية بأفواه يهودية.
فأوعزوا إلى تلامذتهم من بعض المحسوبين على
المسلمين أو العرب أن يقوموا بهذا الدور الخبيث ، ومن هؤلاء : فرح
انطوان ، وشبلي شميل ، وأديب إسحاق ، وجرجي زيدان ، والدكتور صروف
، وسليم عنجوري ، ولطفي السيد ، وسعد زغلول ، وعبد العزيز فهمي ،
وطه حسين ، وسلامة موسى ، وعزمي ، وعلي عبد الرزاق ، وإسماعيل
مظهر ، وساطع الحصري . وغيرهم من أعداء الإسلام والمسلمين
والمحسوبين ظلما عليهم .
وجد أعداء الإسلام أن تعاليم الإسلام ومآثره
الخالدة هي التي يستمد منها المسلم وجوده ويحافظ على وحدة كيانه
.فاطلقوا وسط العالم الإسلامي صيحات كثيرة كان أخطرها ، القومية ،
والعروبة والتجديد . الخ ولما رأوا أن الاستجابة ليست بالمستوى
الذي ينشدوه وأن جهودهم ستبوء بالفشل درسوا وبإمعان ، من أين
يستمد المسلم مقومات وجوده فوجدوا أن التاريخ الإسلامي الصحيح هو
الذي يشحذ الهمم.
فعمدوا إلى الخطط التي وضعوها لإركاع
مجتمعاتهم الغربية ونجحوا في ذلك، فحاولوا فرضها ولو بالقوة على
المجتمع المسلم ، فقاموا بخطوات كثيرة منها: فصل الدين عن السياسة
ثم دعوا إلى فكرة إعادة كتابة التاريخ معتمدين في ذلك على عاملين
مهمين :
الأول : الاعتماد على الزعماء والملوك الذين
فرضوهم عن طريق الانقلابات العسكرية ، في ترسيخ وتطبيق هذه
الأفكار، عبر تسخير الإمكانات الإعلامية الهائلة في كل بلد ومن
موارده الخاصة ، والاستفادة من علماء السوء ووعاظ السلاطين ،
فانطلقت الأقلام المسمومة وعبر أجهزة الإعلام الفاسدة ، بتوجيه
ضارباتها العنيفة وبدون رحمة إلى فكر المسلم لمسخ شخصيته ، عبر
تشويه تاريخه . ولمّا كان لمكة في ضمير كل مسلم مكانة خاصة ولمّا
كان قبر النبي (ص) في قلوب المسلمين انطلقوا من الحجاز (السعودية)
لتنفيذ فكرتهم ليوحوا إلى المسلم بأن التاريخ الذي بدأ من هذه
الأرض ، سيتم إعادة كتابته من هذه الأرض أيضا .
وفعلا وبتوجيه من الملك فهد بن عبد العزيز تمت
الدعوة إلى عقد المؤتمر الأول (لإعادة كتابة التاريخ الإسلامي)
تحت شعار : ( تنقية التاريخ الإسلامي من المدسوسات) .فبدأت
السعودية بتنفيذ هذه الدعوة خير قيام، فظهرت دعوات تكفير المسلمين
، واتهامهم بالشرك ، وأحكمت قبضتها على الحرمين الشريفين فأشاعت
الفوضى وعممت الأفكار السلفية ، وقامت بمذبحة جماعية لحجاج بيت
الله الحرام راح ضحيتها المئات ، ثم أعادت الأفكار الجاهلية عبر
تسميتها لأهم شوارع مكة المكرمة بأسماء أعداء الله ورسوله مثل : (
نفق أبى جهل ، وشارع أبى سفيان وجسر أبى لهب ، وساحة عتبة، ومدرسة
يزيد بن معاوية ...ثم هدموا كل الأضرحة والمشاهد التي يتأسى
المسلم بسيرة اصحابها.
ثم بدأت بإزالة المعالم التاريخية الهامة فمدت
الشوارع عبر وادي ( بدر) الذي وقعت فيه معركة بدر الخالدة وإزالته
من الوجود ، ثم عمدت إلى مقابر شهداء ( أحد ) فضيعت معالمها.ثم
قامت بنقل نُصب الشيطان من مكانه إلى جبل عرفات ليعبده المسلمون
بدلا من رجمه. ووضعوا مكانه مجسّم سفينة نوح. ثم أصدرت الكتاب
الأول من سلسلة إعادة كتابة التاريخ (سيرة أمير المؤمنين يزيد بن
معاوية) ثم كتاب (لا مهدي يُنتظر بعد النبي خير البشر)! اضافة إلى
ملايين الكتب والنشرات التي تُعيد صياغة التاريخ على أسس اموية.
وفي أواسط عام 1976 أطلق صدام التكريتي صيحته
من العراق ، داعيا المسلمين وعلمائهم إلى ضرورة إعادة كتابة
التاريخ .! ثم بدأ خطواته الأولى بإعدام كوكبة من العلماء
المجاهدين وعلى رأسهم المفكر الإسلامي السيد محمد باقر الصدر، ثم
اغلق كلية أصول الدين في بغداد وصادر أملاكها ثم قام بعملية إعادة
التاريخ لمعركة القادسية ! فشن حربه الضروس ضد الجارة المسلمة
إيران والتي راح ضحيتها الملايين من الطرفين إضافة إلى الخسائر
المادية الهائلة التي تكبدها البلدان.(2)
وفي العام نفسه دعت مصر إلى نفس الفكرة .
(وشكلت مصر والعراق وسوريا وبعض البلدان الأخرى لجان لإعادة كتابة
التاريخ وبما أن الدعوة لم تكن جادة ونزيهة حيث لم تتوصل هذه
اللجان إلى نتائج مهمة ولربما تخلت عن أعمالها مؤقتا أو دائما)
.(3)
ثانيا : أن الدعوة لإعادة كتابة التاريخ لها
صلة بالهجمة الثقافية الشرسة التي يحاول العدو الصهيوني من خلالها
احتلال مساحة العقول بدلا من احتلال الأرض وصولا إلى فرض التطبيع
معهُ كأمر واقع. ولذلك نرى أن هذه الدعوة لم تلق استجابة جادة من
النخبة الواعية من علماء الأمة في بدايتها، والمثير للدهشة أن
بروز فكرة إعادة كتابة التاريخ في عالمنا الإسلامي سبقتها نفس
الفكرة في أوربا والغرب ، حيث وجهت الدعوة هناك لإعادة كتابة
التاريخ ولكن على أساس حذف النصوص والوقائع التي تسئ للعنصر
اليهودي فقط تحت عنوان معادات السامية، وقد استغلوا اسطورة
المحارق النازية لليهود ، الوهم الأكبر الذي اجبروا الناس على
تصديقه . وعلى ضوء ذلك قامت الحكومة المصرية وبعض الحكومات
العربية ، بإزالة كل ما هو ضد اليهود ، حيث أصدروا قرارا منعت
بموجبه قراءة الآيات القرآنية التي تصرّح بكفر اليهود. وكذلك قامت
هذه الدول بالدعوة الجادة إلى إعادة كتابة الكتب الدراسية وحذف
النصوص والعبارات المعادية لليهود والكيان الصهيوني وشملت عملية
إعادة النظر والحذف دروس التاريخ ، واللغة ، والعلوم الاجتماعية ،
والدين.
وقد أدى نجاح العملية المنقطع النظير في أوربا
أن يقوم الصهاينة بفرضها على الأنظمة العميلة في بلاد المسلمين .
ويؤيد قولنا هذا هو ما جاء في تقرير الجمعية
اليهودية الأمريكية بالولايات المتحدة في عام 1952 م الذي جاء فيه
: (أن الانتصارات التي حققناها هنا في السنوات الماضية ، وسنة
1950 م أزالت كل إشارة معادية في الكتب الدينية المسيحية وكتب
التدريس، فبفضل جهودنا أصبح 85 بالمائة من الكتب الدراسية خاليا
اليوم من العبارات العدائية والمحقرة لليهود) . (4) ولعل أخطر
عملية تزييف للتاريخ هو قيام بابا روما بتبرأت اليهود من دم
المسيح على الرغم من أن الأناجيل مجتمعة تُثبتها وبكل وضوح.
(وقد صرح شمعون بيريز في أحد لقاءاته أن ( 40%
) من ميزانية (إسرائيل) خصصت للمجال الثقافي والبحث العلمي وإذا
حلّ زمن السلام فيجب مضاعفة القضية).(5)
ولكن الجانب الإسرائيلي لم يشارك العرب نفس
الشعور فيعمد إلى اعادة صياغة تاريخه فيقوم مثلا بحذف بعض آيات
التوراة وخصوصا تلك التي تدعوا لإبادة العرب وخصوصا الفلسطينيين
منهم ، ولم يتوقفوا يوما عن تصريحاتهم العدوانية ، واستفزازاتهم .
ولا زال مسلسل التآمر الصهيوني قائما ومصحرا بعمله متحديا جميع
الدول التي مدت أيديها إليه وقد قامت (إسرائيل فعلا بالتحرك
المكشوف نحو أهدافها غير عابئة بالعالم كله ، يدعمها في تحركها
هذا كبار رجال السياسة الأمريكية ولأوربية ومنهم : آلفرد اثرتون ،
وهارولد ساندرز ، وشيستر كروكور ، وريتشارد مورفي ، وسفراء
أمريكيون سابقون لهذه الدول العربية، فعاثت في كل دول العالم
فسادا قتلا وانقلابا واغتيالات.
إضافة إلى هؤلاء انظم عدد كبير من الشخصيات
الثقافية لدعم المخطط الصهيوني بتأسيس المؤسسات الكبيرة لدعم
مخططه الرهيب ، ولعل من أخطر هذه المؤسسات العربية وأهمها هي ما
يسمى بـ (البادرة من أجل السلام والتعاون في الشرق الأوسط).
وعندما سأل مدير هذه المؤسسة عن أسماء العاملين في المؤسسة أجاب
مدير العلاقات العامة في المؤسسة ، (أن أسماء الباحثين في المركز
سرية وأضاف أنه بإمكاني الإشارة إلى هذه النقطة كهدف أساسي
للمركز، وهي : أن الرأي العام العربي والإسلامي يرفض تطبيع
العلاقات مع الصهاينة ومهمتنا هي التخطيط والإعداد لثقافة مشتركة
بين العرب وإسرائيل من شأنها أن تسهل طريق التوافقات السياسية
.هذا هو الهدف الذي تسعى مؤسساتنا إلى تحقيقه).(6)
وفعلا انطلت الخدعة على الكثير من الدول ،
وخصوصا أولئك الذين يريدون النفع الشخصي حتى ولو على حساب المبادئ
والشعوب، فقد ساهم هؤلاء كثيرا في تمرير هذه المشاريع الجهنمية
وكانوا من أشد المندفعين والمتحمسين ، كيف لا وهم يرون بريق الذهب
والمناصب الذي يعمي الأبصار. وعلى ضوء ذلك تم تأسيس ستة عشر مركزا
تحقيقيا أمريكيا ، وستة مراكز صهيونية ومركزين مصريين.والمركز
الرئيسي لمجموعة هذه المراكز ، في مصر ، وله فروع في كل من أمريكا
والكيان الصهيوني.
ويلعب مركز (غوته) الثقافي الألماني في مصر
دورا مهما في تطبيع العلاقات بحيث يمكن أن يعد جسر اتصال بالنسبة
للكيان الصهيوني . فقد كشفت الكاتبة المصرية (سلوى بكر) النقاب عن
أن هذا المركز يقوم باستدعاء الكتّاب (الإسرائيليين) شهريا لتشكيل
مؤتمر في مؤسسة (غوته) في مصر.(7) وفي الوقت نفسه يحاول ـ بشتى
الأساليب ـ حمل الكتّاب العرب والمصريين الحضور في هذه المؤتمرات
ومن المؤسف له أن الكثيرين من كتابنا العرب قد استجابوا لدعوات
العدو الصهيوني أمثال : طاهر بن جلون ، وأميل حبيبي ، الذي حصل
على جائزة (السلام الثقافي) من يد رئيس وزراء الكيان الصهيوني.
إضافة إلى كل من : الطيب صالح ، وصلاح أبو ديب ، ومحمد برادة ،
ومحمد بنيس ، وتوفيق بكرا ، وجمال الغيطاني ، وصنع الله إبراهيم ،
ومالك علوية . وغيرهم من أنصاف المثقفين ،الذين يلهثون وراء
الشهرة والمال ، ولم يكن اختيار هؤلاء عن جهل ، بل أن خبرتهم في
اختيار الأشخاص والأماكن أيضا تنم عن خبرة واسعة .
وقد لا يخفى على القارئ الكريم براعة هؤلاء في
اختيار الأماكن والأشخاص.
أما في اختياره للأشخاص فقد مر شئ منه . وأما اختياره للأماكن
فمكة قبلة المسلمين جميعا وعندما تنطلق الصيحات منها ، يعتقد
أعداء الإسلام بأن خطتهم ستلاقي النجاح المرجو ، وذلك اعتمادا على
ما يكنه المسلمون من احترام بالغ لهذه الأماكن المقدسة.
وهكذا بالنسبة إلى مصر فإنها قلب العالم السني ، حيث تظم بين
جنبيها الجامع الأزهر، الذي يكن له المسلمون قدسية خاصة وقد
استجاب الأزهر إلى هذه الصيحات حيث لبى خمسون من علمائه دعوة
الملك فهد لحضور مؤتمر جدة.
وصدام حسين لم ينطلق من العراق بعفوية .
فالعراق مهد الحضارات العالمية المشهورة بحضارة وادي الرافدين ،
وهو البلد الذي ستتم عملية فتح العالم منه ، وسيكون مركز قيادة
العالم كما تذكر روايات جميع الأديان ، إضافة إلى هذا فإن العراق
فيه مدافن اكثر المذاهب الإسلامية ومنها على سبيل المثال لا الحصر
:
أ - مدفن الشيخ عبد القادر الجيلاني الذي ينتشر مريدوه وأتباع
طريقته في أرجاء العالم.
ب - مدفن الشيخ سيد محمد الرفاعي . مؤسس الطريقة ــ الرفاعية ــ
منتشرة في أرجاء العالم الإسلامي.
ج - مدفن الإمام الأعظم أبو حنيفة النعمان بن ثابت ، حيث تعتنق
الغالبية العظمى من المسلمين مذهبه.
د- يعتبر العراق مركز الطائفة الشيعية ففي النجف الأشرف مقر
زعامات المذهب الروحية ، إضافة إلى المدافن الشهيرة لأئمة الشيعة
. ناهيك عن الحوزات العلمية والجامعات الإسلامية الكبرى.
والأخطر هو تأسيس قاعدة تكون في قلب العالم الإسلامي تنطلق منها
حركاتهم المشبوهة ودعواتهم فتم البدء بإعداد دول الخليج لتكون
قاعدتهم الرئيسية لذلك بما تملكه من ثروات هائلة يتم توظيفها
لخدمة مشاريع التطبيع مع الكيان الصهيوني.
المصادر:
1- قال المستشرق صموئيل زويمر سنة 1935في مؤتمر القدس: تبشير
المسلمين يجب أن يكون بواسطة رسول من أنفسهم ومن بين صفوفهم؛لأن
الشجرة يجب أن يقطعها أحد أغصانها).
2- دعى صدام حسين بتاريخ 19/9/1979. إلى إعادة كتابة التاريخ
القومي على أساس بعثي في محاولة منه لإحياء مجد الدولة العباسية
وإمبراطوريتها الواسعة، عن طريق نشر مبادئ الحزب في كافة ارجاء
الوطن العربي.
3- مجلة التوحيد العدد 85 السنة الخامسة عشر ، ص 145 مقابلة مع
الدكتور عبد الهادي التازي.
4- مجلة التوحيد العدد 102 السنة الخامسة عشر .
5- مجلة التوحيد العدد 84 السنة الخامسة عشر ص 117.
6- نفس المصدر السابق.
7- معهد غوته (جوته) هو المعهد الثقافي العامل في كافة أنحاء
العالم والتابع للحكومة الألمانية يشرف عليه مركز المستعمرات في
وزارة الخارجية الألمانية.أنشئ سنة 1951 نسبة إلى الأديب الألماني
يوهان غوته. يعمل في 80 بلدا في 144 .أهم فروعه في القاهرة.