وعد الله في وراثة الأرض.
مصطفى الهادي.
لم تكن نظرية أو فكرة حكومة العدل الإلهي إسلامية خاصة بهذا الدين ، بل هي حلمٌ راود البشرية منذ وجودها على هذه الأرض ومنذ إطلالة الدين الأولى، ولم يأت هذه الأمل من فراغ بل إنه معجون مع فطرة الإنسان حاولت السماء مد يد المساعدة لهذا الإنسان لتحقيق حلمه بتأسيس دولة (العدل الإلهي) التي يسود فيها العدل والسلام ويتحقق فيها الهدف الإسمى من وجود البشر على هذه الأرض.ولكن الإنسان نفسه يأبى إلا ان تكون هذه الدولة من صنعه متدخلا بشؤون السماء مستخدما القوة مما يؤدي إلى القهر والاذلال والاستعباد والافساد وقد وصف الله هذه الفئة من الناس (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنّما نحن مصلحون). فانتج تصرف هذه الفئة من الناس فئة أخرى مستضعفة اسكتها ضغط القوة ولكنها تحمل في داخلها ثورة سرعان ما تنطلق لتُزيل عروش الظالمين ولكن هذه الثورات التي تقوم في فترات مختلفة تفتقر إلى القيادة وبفقدانها لأهم عناصرها تفقد حذرها فيتسلل الطابور الذي كان في الخلف فيستحوذ على انجازات الفئة المستضعفة ويتسيّد عليها فيستعيد الظلم دورته مرة أخرى .
ولذلك نرى أن القيادة الصالحة لا تكون من اختيار الناس بسبب أن الانسان ضعيف تعتريه الاخطاء والنواقص ولذلك فإن كل قراراته وانجازاته ناقصة مليئة بالاخطاء . ولذلك خططت السماء ان يكون القائد من ترشيحها لأنها اعرف بالإنسان ولابد للناس من قائد تتكامل فيه كل مواصفاة القيادة الناجحة التي تقودهم إلى بر الأمان . ومن هنا نرى الكتب السماوية واحاديث الانبياء مليئة بمواصفاة رموز حكومة العدل الإلهي . وإذا بحثنا في كل قيادات العالم البشرية منذ القدم إلى اليوم لا نرى لهذه المواصفاة أي اثر في الاعمال والافعال والانجازات، كل اعمالهم حروب وسفك دماء وخراب وهدم وفقر.
فماذا تقول الكتب السماوية واحاديث الانبياء عن مواصفاة القيادة الصالحة.
مهما تفرعن الظالمون وتقمصوا دور الصالحين وتسيّدوا فإن وعد الله حق : (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين).(1) فقد اجمعت الديانات كلها على أن الظالمين لا يرثون الأرض وحكمهم في الأرض وقتي مهما طال ثم يذهبون ويندرس ذكرهم. والكتب السماوية واضحة في ذلك . القرآن يقول: (لا ينال عهدي الظالمين). ومثله في الكتاب المقدس : (أن الظالمين لا يرثون ملكوت الله). (2) لابل ان القضاء على الظالمين من الحتم وذلك لقوله تعالى : (فقُطع دابرُ القومِ الذين ظلموا). (3) وهذه السُنة جارية لا تبديل لها : (سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا). (4) أي أن السنن التي جرت على الأمم الماضية نفسها تجري على الامم اللاحقة لا تبديل لها.
مسألة وراثة الأرض هي من سنن الله التي لا تبديل لها حيث نرى اجماعا من قبل الأديان ولكن الأكثرية من البشر هي التي تأبى ذلك فتقف بوجه التغيير نحو الاصلح لها، وذلك بسبب اطماع آنية زائلة وقد قال تعالى : (لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون). (5) وبلغ من سفه عقول فئة من الناس انهم يعلمون أن هذا هو الحق من الله (ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله). (6)ولكنهم يكرهون ذلك لأنه يتصادم واطماعهم. الله جهّز الإنسان بالعقل وعلى ضوء اختيار العقل يتم حسابه وجزائه وأن وعد الله حق.
مسألة الوراثة هي من الاحكام الثابتة وأن وراثة الأبناء للآباء من المبادئ الإلهية التي لا تتغير (وورث سليمان داود).(7) وهذا الحكم ثابت في الكتاب المقدس وهونفسه يسري في الأديان : (هكذا قال الرب: إن أعطى الرئيس رجلا من بنيه عطية، فإرثها يكون لبنيه. ملكهم هي بالوراثة).(8) اي ان أولاده يرثون منه. وقوله: هكذا قال الرب ، يُقابلها عندنا في القرآن : (وقضى ربك). وهو من الاحكام القطعية التي رجوع فيها.
اما وراثة الأرض فهي أيضا من اختيار الله تعالى (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم).(9) وقد أعد الله تعالى شخصيات اختارها وذكر أوصافها كما نقرأ في الكتب المقدسة اوصافهم (/ المباركين / الصديقون / من ينتظرون الرب / الودعاء / والابرار). وهي نفسها التي ذكرها القرآن إلا أن القرآن أضاف لهم صفة أنهم من المستضعفين.
اما نصوص الكتاب المقدس المتعلقة بوراثة الأرض فهي
1- (لأن عاملي الشر يقطعون، والذين ينتظرون الرب هم يرثون الأرض).
سفر المزامير 3: 9.
2- (أما الودعاء فيرثون الأرض، ويتلذذون في كثرة السلامة). سفر المزامير 37: 11.
3- (لأن المباركين منه يرثون الأرض، والملعونين منه يقطعون). سفر المزامير 37: 22.
4- (الصديقون يرثون الأرض ويسكنونها إلى الأبد). سفر المزامير 37: 29.
5- (وشعبك كلهم أبرار. إلى الأبد يرثون الأرض). سفر إشعياء 60: 21.
6- (طوبى للودعاء، لأنهم يرثون الأرض). إنجيل متى 5: 5.
هذه النصوص كلها تتجسد في القرآن بقوله تعالى : (ونريد أن نمن على الذين استُضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين). (10)
وبما أن الوارث سوف يعتمد على قانون صارم حازم لتثبيت حكم الله فلابد له من كتاب يحكم به بين الناس ، وبما أن الأديان السابقة فقدت كتبها وطال التحريف ما تم كتابته لاحقا وهذا حسب شهادة تلك الكتب ، فلم يبق صالحا للحكم بين الناس إلا القرآن : (إنا أنـزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله). (11) إضافة إلى أن الكتب الأصلية سوف تظهر في زمن القيادة العالمية.
اليهودية مضت ، والمسيحية مضت ولم يتحقق حلم وراثة الارض فيهما. ولم تتحقق الأبدية في الاديان الأخرى حيث أن شرط وراثة الأرض ان من يرثونها سوف يتمتعون بها إلى الأبد (ويسكنونها إلى الأبد). الغريب في التفسير المسيحي أنه يقول بأن الانسان يوم القيامة سوف يقسمه الله قسمين ، قسم يذهب إلى السماء وعددهم (144) مائة واربع واربعون الف. والقسم الآخر يصنع الله لهم فردوسا أرضيا يعيشون فيه وبذلك يرثون الأرض؟! وهذا لايستقيم أبدا لأن الانسان هو بالاساس على الأرض وامره الله ان يسكن فيها ويستعمرها ولكنه فشل ونشر الفساد في الأرض وسفك الدم.فلم يتبق إلا الوعد الحق بأن هناك قائد سوف يقود البشرية إلى تأسيس دولة العدل الإلهي حيث ينعم الناس بالسلام على الأرض قبل الانتقالة الكبرى.
(يوم نطوي السماء كطيّ السجل للكتب كما بدأنا أول خلق نُعيدهُ وعدا علينا إنا كنا فاعلين).(12)
المصادر :
1- سورة القصص آية : 5.
2- سورة البقرة آية : 124. و. رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل كورنثوس 6: 9.
3- سورة الأنعام آية : 45.
4- سورة الأحزاب آية : 62.
5- سورة الزخرف آية : 78.
6- سورة محمد آية : 9.
7- سورة النمل آية : 16.
8- سفر حزقيال 46: 16.
9- سورة الاحزاب آية : 36.
10- سورة القصص آية : 5.
11- سورة النساء آية : 105.
12- سورة الأنبياء آية : 104.