تعقيب على موضوع السيدة إيزابيل (قالوا ويقولون . ذبيح شط الفرات. شبهات وأجوبة).

2025/09/15

تعقيب على موضوع إيزابيل (قالوا ويقولون . ذبيح شط الفرات. شبهات وأجوبة).
مصطفى الهادي.
لا أدري اسباب عزوف السيدة آشوري عن مراجعة التفاسير المسيحية والروايات الإسلامية حول موضوعها قتيل الفرات. فلو فعلت ذلك لكان موضوعها كالموضوع الأول (قتيل شاطئ الفرات). الذي طار صيته في الآفاق. ولذلك أضيف لعلها تتقبل ذلك.
على ما يبدو من خلال استعراض النص للمعركة التي وقعت في أعالي نهر الفرات، فإن الناس في ذلك الزمان عندهم أخبار بأن معركة كبيرة ستقع على الفرات تسقط فيها ذبيحة مقدسة، ولكن أين. لا يعرفون، لأن الفرات يمتد عبر مساحات شاسعة جدا. ولذلك في معرض ذكره تعالى للمعركة التي وقعت بين الأمم الوثنية ، فرعون مصر من جهة والملك البابلي بنوخذ راصر من جهة أخرى وكلاهما وثنيان كما يذكر سفر إرمياء : (كلمة الرب التي صارت إلى إرميا النبي عن الأمم، عن مصر، عن جيش فرعون نخو ملك مصر الذي كان على نهر الفرات في كركميش، الذي ضربه نبوخذراصر ملك بابل).(1) يقول تفسير الكتاب المقدس : (فرعون نخو: هو الملك الثاني من الأسرة السادسة والعشرين وهو آخر ملوك مصر ملك عام 609 قبل الميلاد. وكركميش : معناها قلعة كاموش إله موآب الرئيسي).(2)
ويتفق كل من فسر نص إرميا بأن هناك جيشان في هذه المعركة واحد مهزوم وآخر منتصر. وهذا مما لم يحصل في كربلاء فلم يكن الصدام بين جيشين. بل جيش ضد فئة ثائرة. يضاف إلى ذلك أن المفسرين اتفقوا على أن (جيش مصر يتكون من المرتزقة من دول شتى ويذكر هذه الدول بأسمائها القديمة مثل : كوش : الحبشة . فوط : منطقة قبلية كبيرة بين ليبيا والصومال . اللوديون : جنود من ليبيا. فقد كان قوام الجيش المصري متكوّن من مرتزقة من ليبيا وافريقيا والحبشة).(3) بينما الجيش الأموي يتكون من القبائل العربية الشامية وبعض نواحيها.
يستغل الله تعالى هذه المعركة ليقوم بتذكير الناس بأنها ليست المعركة المصيرية المقصودة فهذه المعركة بين امم وثنية يضرب الله تعالى فيها الظالمين بعضهم ببعض. ففي النص الأول يذكر معركة فرعون مع نبوخذراصر ، وفي وسط النص يذكر شيئا آخر لا علاقة له بالمقدمة. فيقول في النص الثاني : (فهذا اليوم للسيد رب الجنود يوم نقمة للانتقام من بغضيه، فيأكل السيف ويشبع ويرتوي من دمهم. لأن للسيد رب الجنود ذبيحة في أرض الشمال عند نهر الفرات).(4) النص الأول يتكلم عن أمم وثنية متصارعة فيها منتصر ومهزوم. ولكن النص الثاني استدراك يذكر بأن المعركة ستقع فيها (ذبيحة للرب).ويطرحها بصورة مأساوية حزينة فيها عويل وبكاء من امرأة أشار لها النص برمز. وهنا يتبارد إلى الذهن سؤال نطرحه على القائلين بأن المعركة لا علاقة لها بما حصل على فرات كربلاء : متى كانت الذبائح الوثنية مقبولة عند الله؟ فإن النص يؤكد بأن (لله ذبيحة في أرض الشمال عند نهر الفرات). ويستمر النص فيقول (بطلا يصدم بطلا فيسقطان كلاهما معا).(5) فلم يثبت تاريخيا ولا دينيا أن المعركة بين مصر وبابل قد اسقطت الملكين فلم يسقط نبوخذراصر ولم يسقط فرعون نخو. الأول رجع منتصرا والثاني انسحب مهزوما، فقد كان هناك منتصر ومهزوم، فعن أي ابطال يتحدث النص ويقول يسقطان معا؟ لم نجد سوى الإمام الحسين وأخيه العباس عليهما السلام ينطبق عليهما هذا الوصف حيث سقطا معا على شاطئ الفرات ورثتهما أختهما زينب فيقول النص عنها : (قد ملأ الأرض عويلك)، ودونك كل المعارك التي دارت في هذه المنطقة ابتداء من منابع نهر الفرات وحتى نهايته في البصرة، هل حصلت معركة كان أحد طرفيها ذبيحة مقدسة لله غير التي وقعت في كربلاء، وفي أي معركة سقط بطلان ينصر بعضهما البعض. ولم يسع المفسر المسيحي إلا الاعتراف بأن بداية الاصحاح لا علاقة له بمنتصفه فهناك نبوتان لا واحدة في النص، وكأن نص السفر كله يصف عدة مشاهد لا مشهد واحد ، وكأن الله تعالى أراد عزل النص الأول عن الثاني لكي لا تختلط الأمور على الناس، فيقول أنطونيوس فكري : (ابتداء هذا الإصحاح نجد نبوات ضد أحد عشر أمة من الأمم الوثنية، هذه الأمم ترمز للشيطان الذي يعبدونه من خلال آلهتهم الوثنية، والشيطان يُحرك ملوكهم، أما بابل فهي رمز واضح للشيطان ومملكة الخطية . ولكن ابتداء من الرقم العاشر يُشير لكمال الوصايا أي الكمال التشريعي، وأي زيادة هي التعدي. ورقم ثاني عشر يُشير إلى ملكوت الله على الأرض).(6) فلم يستطع المفسر المسيحي الهروب من واقع (ذبيحة الرب) الوارد في النص، فيقول مرغما بأن الفادي الحقيقي لم يأت بعد فهو الثاني عشر الذي يأتي على يديه ملكوت ــ حكم ــ الله. ثم يحيلنا المفسر إلى نص سفر إشعيا فيستشهد به فيقول: (لأن يوم النقمة في قلبي وسنّة مفديي قد أتت).(7) ولكن كعادته في اركاع النص يقول المفسر بأن هذا المفدي هو السيد المسيح. ثم يكرر المفسر مرة أخرى بأن بداية النص لا علاقة لها بالنص الثاني فيقول : (في هذا الإصحاح نبوتين ، وهذا ما سيحدث في نهاية الأيام حيث = بطلا يصدم بطلا فيسقطان كلاهما مع فتهيج حربا شديدة تخرب العالم مع مملكة الشر في العالم وأن بين النبوءتين سنوات طويلة). ( 8 ) أما القمص تادرس ملطي فيتحدث عن النبوءة بلسان آخر ورؤية أخرى فيقول : (واضح أن هذه النبوات لم ينفرد بها نبي معين، لكنها تكاد تكون مشتركة بين الأنبياء، وتُمثل جزؤا حيا من الكلمة الإلهية التي تود أن تُكشف لكل البشرية).(9) ففي رأي القمص تادرس فإن جميع الأنبياء تحدثوا عن نبوءة قتيل شاطئ الفرات (10)
وهذا يعني أن الأمم السابقة واللاحقة لها علم بما سيحصل وهذا العلم حصلت عليه من أنبيائها. ولعل القديس جيرون في تفسيره يذكر ذلك بوضوح فيربطه بمعارك اليوم الأخير قبل نهاية الحقبة الأرضية الحالية فيقول في تفسيره : (أن الأمم المقاومة لله والتي خضعت للتأديب هي احد عشر أمة، إذ لم تبلغ اثنتي عشرة، رقم الكمال الذي يُشير إلى ملكوت الله على الأرض).(11) المفسر هنا يرى بأن وسط نص إرميا لم يقع بعد، فهو الحدث الثاني عشر الذي لم يأت بعد وهو ملكوت الله على الأرض. فكل نبي كان يطلب من الله تعالى أن يُعجل بإتيان يوم الملكوت حيث يكون فيه الحكم لله وحده ، وهذا ما نراه يلوح في توصيات السيد المسيح لحوارييه كما يذكر نص إنجيل متى : (صلوا أنتم هكذا: أبانا الذي في السماوات، ليتقدس اسمك لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض، ليأت ملكوتك).(12) فكانت أمنية المؤمنين في كل جيل أن يكونوا من أتباع من يتحقق على يديه ملكوت الله تعالى ، وهذا لم يتحقق على يد أي نبي من الأنبياء قبل الإسلام. فكان أول يوم من أيام الملكوت هي معركة كربلاء التي حمل انبائها سيد الملائكة جبرئيل إلى جميع الأنبياء. وهي في واقعها ليست معركة من أجل حكم بل معركة من أجل جميع الأنبياء وهذا ورد في الزيارات المقدسة على لسان الامام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف : (أين الطالبُ بذحول الأنباء وأبناء الأنبياء).(13) وفي اللغة ، الذحول : هي جمعُ ذحل، والمقصود في هذا المعنى هو الثأر. ففي أغلب الروايات فإن المهدي هو الطالبُ والمُدركُ لثارات الأنبياء وأبناءِ الأنبياء. وفي قول : أن الأنبياء يُدركون على يد المهدي غاياتهم التي من أجلها ارسلهم الله تعالى في أرجاء العالم فجاهدوا وناضلوا وتحملوا شتى الصعاب والآلام من أجلها. فنهاية هذه الغاية وكمالها ستتم في دولة الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف. فكانت بداية هذه الشعلة في كربلاء، والتي سيحملها المؤمنون بكل ما فيها من صعاب ليُسلموها للإمام المهدي في المعركة الأخيرة بين الخير والشر. ولذلك لا يستغرب القارئ الكريم إذا قلنا بأن وصف النبي إرمياء لمعركة الفرات هي امتداد لما علمه الأنبياء قبله وبعده. لا بل أن سفر أخبار الأيام يخبرنا بأن الله تعالى بشّر داود بأن هناك من نسله من يثبت كرسي حكمه على ملكوت الله تعالى إلى الأبد. فيقول تعالى لداود : (متى كملت ايامك لتذهب مع آبائك، أني أقيم بعدك الذي يكون من بنيك وأثبت مملكته. أثبت كرسيه إلى الأبد... وأقيمه في بيتي وملكوتي إلى الأبد، ويكون كرسيه ثابتا إلى الأبد). (14)
والروايات الإسلامية تشير إلى ذلك فتقول بأن المهدي إذا خرج سيحكم بحكم الله كقضاء داود عليه السلام ففي رواية عن أبي عبدالله (ع) قال : (لن تذهب الدنيا حتى يخرج رجل منا أهل البيت يحكم بحكم داود وآل داود لا يسأل الناس بينة).(15) وفي رواية عن الإمام العسكري سأله أحد اصحابه عن القائم إذا قام بم يقضي بين الناس؟ فجاء الجواب: سألت عن الامام فاذا قام يقضي بين الناس بعلمه كقضاء داود (ع) لا يسأل البينة).(16)
من كل ذلك نرى حكمة الله تعالى في ذكره لملحمة الفرات وسقوط الذبيحة المقدسة على شاطئها وأن بحكمته يريد اخبار الناس بأن بداية يوم حكم الله على الأرض ستكون علامته هذه المعركة التي ستقع في تلك الصحراء القاحلة وأن حفيد هذا المقتول هو الذي سيطلب الثأر لجميع الأنبياء وأولاد الأنبياء في اشارة إلى الائمة المقتولين سلام الله عليهم.
المصادر:
1- إرمياء 46 : 1 ــ 2.
2- تفسير الكتاب المقدس ، الموسوعة الكنسية لتفسير العهد القديم. تفسير سفر إرمياء 46. تأديب مصر. وعلى ما يبدو فإن كركميش اشارة إلى مكان مقدس جدا هيكل أو معبد.
3- تفسير الكتاب المقدس ، الموسوعة الكنسية لتفسير العهد القديم. تفسير سفر إرمياء 46. تأديب مصر.
4- إرمياء 46 : 11ــ 12.
5- إرمياء 46 : 12.
6- شرح الكتاب المقدس ، العهد القديم ، القمص أنطونيوس فكري تفسير سفر إرميا : 46.
7- سفر إشعياء 63: 4.
8- شرح الكتاب المقدس ، العهد القديم ، القمص أنطونيوس فكري تفسير سفر إرميا : 46.وتفسير سفر الرؤيا 17 : 16 ــ 17.
9- تفسير الكتاب المقدس، العهد القديم، القمص تادرس يعقوب ملطي،تفسير سفر إرميا : 46.نبوات عن الأمم.
10- الروايات في ذلك كثيرة منها ما رواه الحافظ السيوطيّ الشافعي في (ذيل اللآلي المصنوعة)، والخوارزميّ الحنفيّ في (مقتل الحسين عليه السلام)، والبدخشيّ في (مفتاح النجا في مناقب آل العبا) وكذلك في بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج ٤٤ - الصفحة ٣٠٠ (أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله ذكر أنّ الله جلّ وعلا قال لنبيه موسى وحياً: يا موسى، لوسألتني في الأوّلين والآخرين لأجبتك، ماخلا قاتل الحسين بن عليّ بن أبي طالب، فإنّي أنتقم له منه).وفي مسند الامام أحمد 44 : 143. أن النبي (ص) قال : (أتاني جبرئيل فأخبرني أن أمتي ستقتل إبني هذا – يعني الحسين عليه السلام – وأتاني بتربة من تربته حمراء).فإذا كان جبرئيل عليه السلام اخبر النبي بمقتل الحسين عليه السلام فلابد أنه أخبر قبله الأنبياء أيضا.
11- تفسير الكتاب المقدس، العهد القديم، القمص تادرس يعقوب ملطي،تفسير سفر إرميا : 46.نبوات عن الأمم.
12- إنجيل متى 6 : 9 ــ 10.
13- إقبال الأعمال ، السيد ابن طاووس ج1 ص 509.
14- سفر أخبار الأيام الأول 17 : 11 ــ 14.
15- بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج ٥٢ - الصفحة ٣١٩.
16- الكافي - الشيخ الكليني - ج ١ - الصفحة ٥٠٩.
أخترنا لك
النوم والغفلة .

(ملف)عاشوراء : انتصار الدم على السيف

المكتبة