الارتداد والانقلاب على الأعقاب ، ظاهرة عامة في الأديان.
مصطفى
الهادي.
مقدما أقول : الارتداد حصل في كل الديانات في حياة الأنبياء وبعد رحيلهم ، الانقلاب على موسى (ع) حصل في حياته في فتنة السامري حيث انقلبوا على هارون وعبدوا العجل. والانقلاب الثاني حصل بعد رحيل موسى حيث انقلبت صافوراء مع الأكثرية من أصحاب موسى انقلبت على وصيّه يوشع بن نون. بل أن التوراة تُبالغ في وصف عملية الارتداد فتقول : (كلهم قد ارتدوا معا، فسدوا. ليس من يعمل صلاحا، ليس ولا واحد. عملوا لهم غلفا وارتدوا عن العهد المقدس، آخذ بيت إسرائيل بقلوبهم، لأنهم كلهم قد ارتدوا عني بأصنامهم).(1) فلم يبق من بني إسرائيل على الإيمان إلا موسى وأخيه هارون (قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي).(2)
وفي المسيحية وفي حياة السيد المسيح (ع) فقد خذلهُ أقرب المقربين له ارتدوا عنه وهربوا عنه وتركوه نهبا لسيوف الرومان واليهود كما يقول الإنجيل : (قال يسوع للجموع: خرجتم بسيوف وعصيّ لتأخذوني. حينئذ تركهُ التلاميذ كلهم وهربوا).(3) لولا أن تداركه رحمة ربه فأنقذه من أيديهم. وبعد رحيل عيسى بن مريم (ع) ظهر بولص وزعم أنه رسول المسيح وقاد عملية انقلاب هائلة هو ورفيق دربه (باريشوع الساحر).(4) أسس فيها لدين جديد فارتد معهُ أغلب أصحاب السيد المسيح.
وفي الإسلام أخبرنا القرآن والنبي بعد حي بأن أصحابه من بعده سوف ينقلبون على أعقابهم (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين).(5) وقد علم الله تعالى ما في قلوب بعض أصحاب محمد من نيّة الارتداد فحذرهم قائلا : (ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون).(6)
إذن الارتداد والانقلاب على الأعقاب ظاهرة عامة تحصل في الأديان لا بل قد تحصل في الأنظمة السياسية والمدنية، بسبب التنافس على حب الدنيا والشهوات من قبل بعض ضعفاء النفوس ممن أظهر إيمانا وأبطن كفرا.(7) ولكن بعض مرضى النفوس من المسيحيين وخصوصا أهل الفضائيات التبشيرية (التخريبية) أمثال وحيد القبطي ، ورشيد المغربي وغيرهم (8) يتمسكون بهذه الآية القرآنية ويُشنّعون على المسلمين بأن دينهم ليس فيه حرية اختيار وهو دين همجي في أحكامه ضد الإنسان الذي يختار لهُ دينا ومن يفعل ذلك سيكون مصيره القتل.
في البداية أقول أنهم يستشهدون بآية بتروا نصفها لأن الآية فيها إخبار وحكم.
الإخبار : (ومن يرتدد منكم عن دينه، فيمُت وهو كافر).(9)
حكمهم
: (حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها
خالدون).
فهل
يوجد في هذا النص أي إشارة لقتل المرتد؟
المسيحيون
يقولون ذلك حتى يُشغلوا المسلمين بما عندهم ولا يلتفتوا لما في
اليهودية والمسيحية من أحكام قاسية بحق المرتد.فهم
إما لم يقرؤوا أحكام المرتد في الكتاب المقدس ، أو قرأوا ذلك ولكنهم
من باب العناد واللجاج والحجاج يقوموا بالتهريج.
الأول : أن من عجائب هذه الآية أنها قالت عن المرتد (يموت) ولم تقل يُقتل.(فيمت وهو كافر).فقد أوكل الله تعالى أمر المرتد إليه.
لا تقل لي هناك أحاديث في قتل المرتد إنما جاءنا البلاء من بعض الاحاديث، التي تسللت إلينا من بعض اليهود والنصارى عبر بعض الصحابة ممن كان نصرانيا أو يهوديا وهو ما يُسمى عندنا بالإسرائيليات.
الثاني: أن الله حكم على المرتد بأنه (كافر). وأحكام الكفر في القرآن موجودة وما أكثرها.(10)
أما ما يذكروه من أن النبي (ص) قال: (من بدل دينه فاقتلوه).(11) هذا حديث غير صحيح لأن الحديث أطلق الحكم إطلاقا، فعلى ضوئه يتم قتل أي شخص يُبدّل دينه، فلو بدّل اليهودي أو المسيحي أو البوذي دينه وجب قتله أيضا. وهذا الحديث يتعارض وقوله تعالى (لا إكراه في الدين).(12) لأن الدعوة إلى الإسلام تتم عبر قوله تعالى : (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن).(13)
أما لو عدنا إلى الكتاب المقدس لوجدنا أبشع النصوص مما تقشعرّ لهُ الأبدان في أحكام المرتد ، وإليك بعضها : في سفر التثنية : (اذا أغواك سرا اخوك ابن امك او ابنك او ابنتك او امراة حضنك او صاحبك قائلا نذهب و نعبد الهة اخرى لم تعرفها انت و لا اباؤك من الهة الشعوب الذين حولك لا ترض منه و لا تسمع له و لا تشفق عينك عليه و لا ترق له و لا تستره بل قتلا تقتله أولا. ثم جميع الشعب يرجمه بالحجارة حتى يموت لأنه التمس ان يردّك عن الرب الهك).(14) فهذا حكم المرتد في اليهودية والمسيحية ، القتل بالسيف أو الرضخ بالحجارة حتى الموت. أخوك ، أختك ، ابنتك ، زوجتك ، صديقك، لا فرق كلهم اقتلهم إذا حاولوا ان يردوك عن دينك. هذا الحكم على مستوى الأفراد، أما لو ارتدت مدينة كاملة فاقرأ اعجب الأحكام بحقها.
يقول في تثنية أيضا : (ان سمعت عن احدى مدنك قائلين نذهب و نعبد الهة أخرى فضربا تضرب سكان تلك المدينة بحد السيف و تحرمها بكل ما فيها مع بهائمها الطفل والشيخ والشيخة والحمير وكل شيء بحد السيف تجمع كل أمتعتها الى وسط ساحتها و تحرق بالنار المدينة و كل أمتعتها فتكون تلا الى الأبد لا تبنى).(15)
فهل تجد أخي المسيحي في القرآن مثل هذه الأحكام القاسية المرعبة؟
ومن عجائب النصوص أن الله اتخذ بني إسرائيل شعبا لهُ أي اختارهم من بين الأمم الوثنية التي كانوا يعبدون آلهتها، ليبعث فيهم أنبياء، ولكن الله تعالى علم بما في نفوسهم من ميل إلى الارتداد فوصفهم بأن الارتداد مما انطوت عليه جوانحهم نظرا لتشرّب حب الدنيا فيهم ، وكلما بعث الله لهم أنبياء يدعوهم للهداية (ذهبوا من أمامهم يذبحون ويُبخرون للتماثيل المنحوتة شعبي جانحون إلى الارتداد عني يدعونهم إلى العليِّ ولا أحد يرفعُهُ).(16) نصوص الارتداد هذه التي تملأ الكتب المقدسة لم يستطع أي مفسر مسيحي إنكارها فقالوا في تفسير قوله تعالى : (شعبي جانحون إلى الارتداد عني). يقول القص أنطونيوس فكري : (يرتدّون عن الله ولا شيء يُمسكهم أو يوقفهم تلقوا دعوة الأنبياء يدعونهم إلى الله العلي ومع هذا ارتدوا فسقطوا في هوة الانحطاط).(17)
وأما القمص تادرس يعقوب فيقول في تفسير هذه الفقرة : (لا يفكرون في العودة إلى الله. في داخلهم ميل شديد وانجذاب نحو الارتداد. أرسلت من يدعوهم إليّ لكنهم أبوا أن يرجعوا. أمام هذه المقاومة من جانب إسرائيل يضطر الله إلى التأديب قائلا: كيف أجعلك يا إسرائيل؟ كيف أجعلك كأدمة كصبوييم؟ وأدمة وصبوييم مدينتان في منطقة سدوم وعمورة وقد احترقتا بسبب شرّهما).(18)
وفي الإنجيل أبى بني إسرائيل التخلي عن ارتدادهم فقد طلب اليهود المتنصرون الذين يأبون التخلي عن تعاليم التوراة ،طلبوا من المتنصرين الجدد أن يقوموا ببعض الطقوس اليهودية ذات الأصول الوثنية في الأعياد تحت حجة عدم تعرض الكهنة والرومان لهم، يعني عملية ارتداد مبطنة عن تعاليم السيد المسيح.
خلاصة ذلك، فإن المسيحية بحكم الإنجيل ديانة مرتدة كما يخبرنا سفر الأعمال من أن بولص كان يدعوا الناس إلى الارتداد ، وعلامة ارتدادهم الإيمان بإنجيله و ترك الختان كما نقرأ من دعوته إلى إنجيله لا إنجيل المسيح (في اليوم الذي فيه يُدين الله سرائر الناس بحسب إنجيلي).(19) وأما شرطه لمن يؤمن به أن لا يختتن فهذا إنجيله يشهد عليه : (أنك تُعلّم جميع اليهود الارتداد عن موسى قائلا أن لا يختنوا أولادهم). (20) فكان بولص يسخر منهم ويقول : (ليس الختان شيئا، وليست الغرلة شيئا).(21) لقد عاش السيد المسيح اكثر من ثلاثين عاما فكانت شريعة الختان معمول بها طوال مدة حياة السيد المسيح فلم نسمع منه اعتراضا عليها، بل أن المسيح نفسه اختتن ونبي الله زكريا وأبنه يوحنا.(22) فجاء بولص وحوّل مسار المسيحية وحرّف إنجيل المسيح وهدم تعاليمه وجاء بشريعة هي ما نراه اليوم في المسيحية. وبذلك تكون المسيحية البولصية مرتدة عن دين السيد المسيح الذي لاوجود له اليوم. لا بل أن بولص حكم على المسيحية بالقتل عندما منعها من الختان وهذا تشريع صادر من ربهم في كتابهم المقدس بأن كل من لا يختتن يُقتل، كما نقرأ : (وقال الله لإبراهيم: احفظ عهدي، أنت ونسلك من بعدك في أجيالهم. يُختتن منكم كل ذكر، تختنون لحم غرلتكم، ابن ثمانية أيام يختن عهدا أبديا، وأما الذكر الأغلف الذي لا يُختن في لحم غرلته فتُقطع تلك النفس من شعبها).(23)
المصادر:
1- المزامير 53 : 3. و: المكابيين الأول . 1: 16 . و : حزقيال 14 : 5.
2- المائدة : 25.
3- متى 26 : 55 ــ 56.
4- يصف الإنجيل شخصية (باريشوع) رفيق بولص فيقول : (رجلا ساحرا نبيا كذابا يهوديا اسمهُ باريشوع، كان مع الوالي سرجيوس).() سفر الأعمال 13 : 6 ــ 7.
5- آل عمران : 144.وهذا ما حصل في سقيفة بني ساعدة.
6- البقرة : 217.
7- زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا. آل عمران : 14.
8- في أقل من عشرين عاما أصبح عدد القنوات التبشيرية أكثر من (32) قناة وتمويلها من الفاتيكان وأمريكا وغرب أوربا ورجال أعمال نصارى عرب ، وكل هذه القنوات تسعى لخلق فتنة ولها أهداف استعمارية.
9- البقرة آية : 217.
10- (ومن كفر فإن الله غنيٌ عن العالمين). آل عمران : 97. (فمن كفر فعليه كفره، ولا يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم إلا مقتا، ولا يزيد الكافرين كفرهم إلا خسارا). فاطر : 39. (ومن كفر فلا يحزنك كفره، إلينا مرجعهم فننبئهم بما عملوا). لقمان : 23.(ومن كفر فأمتعهُ قليلا ثم اضطرهُ إلى عذاب النار). البقرة : 126. وقد يقول قائل وما معنى قوله تعالى (فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب). قال المفسرون المقصود بذلك كفار مكة المشركين ومن تبعهم الذين يمنعون الناس عن الإيمان بالنبي ويُصدون المؤمنين عن المسجد الحرام.فليس للمسلم المرتد هنا اي مكان. وهذا ما نراه في قول ابن عباس: الكفار المشركون عبدة الأوثان. وقيل : كل من خالف دين الإسلام من مشرك أو كتابي إذا لم يكن صاحب عهد ولا ذمة.انظر تفسير الآية في الميزان ، وتفسير القرطبي.
11- صحيح البخاري باب حكم المرتد والمرتدة واستتابتهم حديث رقم (6922).
12- البقرة : 256.
13- النحل : 125.بل أن القرآن أكد بأن (من يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين).آل عمران : 85.فلم يأمر تعالى بقتله بل أوكل أمره أيضا إلى الآخرة.
14- سفر التثنية 13 : 6.
15- سفر التثنية 13 : 13.
16- هوشع 11 : 2.
17- شرح الكتاب المقدس القمص أنطونيوس فكري، تفسير سفر هوشع 11.
18- تفسير الكتاب المقدس ، القمص تادرس يعقوب ملطي ، سلسلة من تفسير الآباء الأولين ، تفسير سفر هوشع : 11.فصل : التأديب مع إشراقة الخلاص.
19- رسالة رومية 2 : 16.
20- سفر أعمال الرسل 21 : 21.
21- رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل كورنثوس 7 : 19.
22- بل رأينا الإنجيل يذكر في أكثر من مكان يؤكد فيه المسيح على شريعة الختان كما نقرا في إنجيل يوحنا 7 : 22 مخاطبا اليهود (أعطاكم موسى الختان، ليس أنهُ من موسى، بل من الآباء). وكذلك قوله في أعمال 7 : 2 ــ 8. (ظهر إله المجد لأبينا إبراهيم وهو في ما بين النهرين، وأعطاه عهد الختان، وهكذا ولد إسحاق وختنهُ في اليوم الثامن).
23- التكوين 17 : 9 ــ 14.