لم تكن المطالب المشروعة للشعب العراقي وليدة ساعة صفر أعد لها
على حين غفلة من الزمن أو ردة فعل طارئة على حدث معين، ولا هي
مكيدة جهة تستهدف جهة أخرى أو تتبع أجندات معينة، ولا هو أمر دبر
بليلة تشرينية تستهل يومه الأول بانطلاق شرارة التظاهر والاحتجاج
.
أنها تراكمات أحداث عقد ونصف العقد من زمن الحكم الجديد تستبطن
بداخلها تراكمات ثلاثة عقود سبقتها لترسم هذه اللوحة الاحتجاجية
الكبيرة بمنحنيات وخطوط لاتتضح الا بالأمعان والتركيز فيها بنحو
يجعلك تقرأ ما يجول بخاطر هذا الرجل الأكاديمي الذي يقف في ساحة
التحرير او بخاطر صاحب التكتك البسيط ويجعلك تقف اجلالا لمن
استشهد أو جرح لتعطي كل واحد منهم الحق في أن ما يطلبه هو( الحق )
وليس شيئا آخر في هذا الطريق المشرف كما عبرت عنه المرجعية
العليا في خطبة الجمعة ١٥ / ١١ / ٢٠١٩ " .. الدماء الزكية التي
سالت من مئات الشهداء وآلاف الجرحى والمصابين في هذا الطريق
المشرِّف ) . " .
فالمنتفع من تحقق المطالب شعب بأسره ( والشعب ) كلمة كبيرة لايعلم
قدرها ولا قدرتها هؤلاء الساسة الذين اتخذوا من البلد مغنما
يخضمون ماله خضم الأبل نبتة الربيع، فتراهم وقد اتخذوا من التسويف
والمماطلة واستغلال تواجدهم في السلطة درعا لوأد الاحتجاج وتشويه
صورته وتسليط آلاتهم الإعلامية على حوادث وقعت هنا أوهناك وغير
مستبعد ضلوعهم بها وبتركيب وتصنيع أحداثها فالمتضرر الوحيد من
الحركة الأصلاحية هم الساسة وليس أحد سواهم .
الاحتجاج والتظاهر والاعتصام وكل ما من شأنه إحداث تغيير في
المشهد العراقي أمر مشروع وهي بجملتها تشكل المظهر الرئيس للمطالب
الحقة، وإلا فكيف تتحقق المطالب دون أن تتوسل بمثل هذه الأدوات
الضاغطة باتجاه تنفيذها ؟
لقد راهن هؤلاء على أمور عدة في أن تخف الحركة الاحتجاجية يعولون
بذلك على أساليب متعددة كالقمع والتسويف وتشويه الحقائق وكان لهم
في ذلك مكاء وتصدية فبينت لهم المرجعية العليا أنهم ( واهمون )،
ووضعت للشعب منهجا مباركا وسبيلا للخلاص بدعوة هؤلاء لسن قانون
انتخابي عادل يرعى حرمة الأصوات وقانون مفوضية تكون حرة مستقلة عن
نفوذ وسطوة المحاصصة المقيتة ودعت بعدها لانتخابات مبكرة يعبر
فيها الشعب عن إرادته فيسحب البساط بطريقة سلمية وواعية من تحت
أقدام المتشبثين بالكراسي وسراق المستقبل العراقي فكان للوعي
الجماهيري دوره في تحقق البعض من هذه المطالب المهمة، ورغم ذلك
كان البعض منهم مايزال يعيش حالة ( الوهم ) أذ يتوسم بالتسويف
شفيعا ومنقذا .
فجاء الرد في خطبة الجمعة ١٥ /١١ / ٢٠١٩
: " واذا كان من بيدهم السلطة يظنون أنّ بإمكانهم
التهرب من استحقاقات الإصلاح الحقيقي بالتسويف والمماطلة فإنهم
واهمون، إذ لن يكون ما بعد هذه الاحتجاجات كما كان قبلها في كل
الأحوال، فليتنبهوا الى ذلك " .
إن المطالب المشروعة للشعب العراقي كانت وما تزال من متبنيات
واهتمامات المرجعية الدينية العليا ليس في الوقت الذي انطلقت فيه
الحركة الاحتجاجية منذ عدة أشهر - كما يتوهم البعض - ولم تأت
البيانات والخطب خلال هذه الفترة إلا بلغة التأكيد على تلك
المطالب، فمنبر الجمعة تطرق للكثير منها خلال السنوات السابقة،
فلو تم الرجوع لتاريخ تلك الخطب والنظر بمضامينها سيجد الباحث ان
هناك رؤية واضحة للمرجعية الدينية لما ستؤول إليه الأمور
وسيلاحظ بوضوح تلك الاشارات المهمة في تحذير المنظومة السياسية من
مغبة الاستمرار بهذا النهج وإشارات أخرى الى ضرورة وعي الشعب
لمواجهة الكثير من المخاطر المحدقة به .. قد يكفينا كشاهد هذا
النص الذي ورد في خطبة الجمعة ٤ / ١٠ / ٢٠١٩ مع بدء الاحتجاجات :
" إنّ المرجعية الدينية العليا طالما طالبت القوى والجهات التي
تُمسك بزمام السلطة أن تغيّر من منهجها في التعامل مع مشاكل البلد
وأن تقوم بخطواتٍ جادة في سبيل الإصلاح ومكافحة الفساد وتجاوز
المحاصصة والمحسوبيات في إدارة الدولة، وحذّرت الذين يمانعون من
الإصلاح ويُراهنون على ان تخف المطالباتُ به بأن يعلموا أنّ
الاصلاح ضرورةٌ لا محيص منها وإذا خفّت مظاهر المطالبة به مدّة
فإنها ستعود في وقت آخر بأقوى وأوسع من ذلك بكثير. " .. لنركز على
عبارة ( إنّ المرجعية الدينية العليا طالما طالبت القوى والجهات
التي تُمسك بزمام السلطة .. ) وعلى كلمة ( طالما ) تحديدا لأنها
إشارة مهمة لتحذيرات سبقت انطلاق الحركة الاحتجاجية بسنوات ..
وغيرها شواهد كثيرة لايتسع المقال لذكرها وهي بالعشرات تبين ان
للمطالب المشروعة تاريخها ومنزلتها وأنها هي الأساس في العملية
الأصلاحية وأن التظاهر والاحتجاج بالطرق السلمية والحضارية هي
الوسيلة إلى رؤية الوجه الآخر للمشهد - وأن كان بَعْدَ اللَّتيَّا
والَّتي- فالأمر يستحق ذلك .