طالب الظاهر ...
توغل الليل في بحر السكون ببطء وحذر...حزمة الضوء الساطع تركزت على الشرشف الطبي، كشلالٍ منهمر من المصباح الكبير المتدلي، ليكشف عن تقاطيع عُري واضح لجسد حواء قد استوطنه المجهول وإلى الأبد.
توغل الليل في بحر السكون ببطء وحذر...حزمة الضوء الساطع تركزت على الشرشف الطبي، كشلالٍ منهمر من المصباح الكبير المتدلي، ليكشف عن تقاطيع عُري واضح لجسد حواء قد استوطنه المجهول وإلى الأبد.
فراح الصمت الرهيب يجثم بإيحائه، ويشكل ثقلاً أسطورياً
على أنفاس المكان، ويحيل وقع النبض لسير الحياة، إلى لهاث متسارع
نحو الأفول، متعثر الخطى بالأجـداث، مثيراً في الوجـوه غبرة لا
مرئية كالرميم، آه...كأن الهواء هنا ثقيلاً، خانقاً، ربما لتشبعه
بالروائح الكريهة.. الغريبة، وليس كما هو عليه في كل الأزمة
والأمكنة الأخرى، المبتهجة أبداً بزخرف الحياة المخادعة، وزيف وعود
سراباتها المخاتلة، والمتغافلة أبداً عما تضمره احتمالات اللحظة
القادمة من المفاجآت.
بينما رائحة مادة (الفورمالين) النفاذة، في استخدامها من
أجل حفظ الجثث من التفسخ السريع، تنتشر في فضاء القاعة الموبوءة
بالموت، والمسكونة بالهواجس، طاغيةً بحدتها القاتلة، على جميع
الروائح الكريهة الأخرى.
وآدم يرنو من عليائه إلى مآسي هذا العالم السفلي، ويبتهل
من أجل موت الخطيئة المتأصلة عميقاً في الذات البشرية، والحدّ من
شهوة الدم المستفحلة في نسله...بكيان ولده هذا الإنسان، ويلعن لحظة
تصوّر الحرب في قابيل ليلوث سلام الأرض بسفكه لدم أخيه
هابيل.
ينفض الدكتور المشرح أحمد ظاهر القشّي يديه بتوتر شديد،
ويفركهما بقوة، كأنه يحاول التخلص من شيءٍ ما، مازال عالق بعناد
فيهما، ثم يتمتم مع نفسه بيقين راسخ، وهو يدعك رأس سيجارته في قعر
المنفضة بغضب، ويرمي بجسده المتهالك على كرسيه، ماداً قدميه إلى
الأمام تحت الطاولة باستقامة، ودافعاً رأسه إلى الوراء... فيصطدم
بصلابة الجدار، هامساً في ذاته بتوتر شديد، وفي شبه غيبوبة :
ـ ها قد تأكد حدسي الآن بما توقعت، وتبيّن بأن الوفاة
وقعت ليس بتوقف عادي لنبض القلب، وكما يشير إلى ذلك التقرير الطبي
المرفق مع شهادة الوفاة هذه، إنما خلف الأمر برمته جريمة قتل ربما
تكون متعمدة ...!