لمن يرغبون بتقحّم الاسرار أقول لهم:
اللاهوت بالنسبة لي في المسيحية هو التصوف والعرفان مجتمعان في الاسلام ، وإن كان هذا القول تطبيقيا فيه بعض البعد نظرا لنوع الثقافة المختلفة بيننا وبين المسلمين ، لربما يرى البعض ممن يقرأ لي اني اتداول الكثير من المصطلحات الإسلامية النادرة والتي يصعب لربما الحصول عليها حتى من قبل بعض المسلمين أو لربما عدم معرفتهم بها ولذلك يعمد البعض إلى القول من المسيحيين بكافة مدارسهم او المسلمين سنة وشيعة بأن إيزابيل (مؤسسة دينية شيعية كاملة يُديرها مجموعة من علماء الشيعة مع توفر كافة الامكانات لهم ) بينما ترى بعض المذاهب الدينية المسيحية أن إيزابيل (مؤسسة هرطوقية يُديرها مجموعة من القساوسة المسيحيين المرتدين عن المسيحية).
وأنا اقول : لا هذا ولا ذاك ، وإنا لربما اجازف او لربما يزعل (البعض) إذا قلت أن عقول هؤلاء لا زالت تعاني من موروث راسخ في العقلية الدينية الزائفة التي ترى المرأة في أحسن حالاتها لا تصلح (إلا للمغزل والمطبخ) وانها في احسن الأحوال حليف الشيطان ومدخله إلى الشر.
أما ان تكون امرأة بهذا المستوى فهذا مما لا سبيل له إلى تلك العقول، مع أنهم يرون حالات في التاريخ نبغت فيها المرأة وجاءت على ذكرها الكتب المقدسة جميعا.وقد عددت جانبا من هذه الاسماء اللامعة في عالم المرأة في مقالات موجودة على صفحتي وفي مواقع أخرى.
احاطتي بكل ما قرأه الاخوة لي في مقالاتي وذكري لنوادر المصادر وطرائفها ونوادرها، وتأسيسي لطريقة غير مسبوقة في تناول الاحداث والوقائع تاريخيا ودينيا وفلسفيا وحتى سياسيا واجتماعيا من المؤكد انها سوف تدفع القارئ ان يُشكك وهذا من حقه لأن أمرأة تقوم بالدمج بين النصوص المقدسة المختلفة مع تضاربها واختلافها وتحريفها وتخريفها، ثم الخروج منها بنتيجة ساطعة أمرٌ قد لا تهضمه العقول.
وهذا أحد الاسباب.
لعل اهمها هو لربما تأثري بشخصية اللاهوتية الصوفية الراهبة الألمانية ـــ هيلدغارد ــ (هايدغارد بنجين) هوالذي دفعني في بدايات دراستي ومنذ زمنٍ مبكر ان اتجه لدراسة اللاهوت ــ التصوف ــ في اليهودية والمسيحية. ثم في الإسلام.لابل اوسع من ذلك حيث تعداه لبقية الاديان حتى الوثنية، وهذا سهل جدا لمن يمتلك مفاتيح القفل.
فقد كانت (هايدغارد بنجين) ــ والتي رُسمت قديسة فيما بعد وتُعرف أيضًا باسم القديسة (هيلدغارد)، و(عرّافة الراين)ــ كانت كاتبة ألمانية وملحنة وفيلسوفة ومسيحية صوفيةً ورئيسة (دير بندكتية) للرهابات المتبتلات وشخصية كثيرة الرؤى وواسعة الاطلاع توفرت لها سبل المعرفة بطريقة ما. وكانت تعيش في (مِحصَرة) (1) كما أنها مثال أولي للدراما المتعلقة بالطقوس والترانيم المسيحية برخامة صوتها الملائكي (التروبادوري) وقد قدمت توضيحات رائعة مصغرة ومعمقة على نصوص الإنجيل حيث كسرت العرف السائد من أن المرأة (لا تصلح إلا للمغزل وانها مدخل الشيطان).
و(هايدغارد) بحسب الباحث الألماني (مادوك) من بين أكثر العلماء (النساء) تميزًا في القرون الوسطى حتى فاقت (البابا) في علمها فحنق عليها ودس لها السم بعد ان تناها إلى سمعه أن مجمع الكرادلة على وشك ان يفتي بصلاحية (هايدغارد) للبابوية الثانوية ـــ رئيس كرادلة ـــ .
وقد دفعني الظلم الذي اصابها إلى أن اتعمق في دراسة شخصيتها فوجدت أن اكبر ما لحق بها من ظلم ليس (السم) الذي قتلها فاستراحت من زمنها القاسي. بل أن الاعتراف بها (قديسة) كان معقدا مع تعنت البابوبات الذين شعروا بالاحراج ان تتفوق عليهم امرأة بحيث ان قضية (ماسترليخ) (2) الأكثر غموضا والتي عجزت عن معالجتها الكنيسة عالجتها (هايدغارد) خلال نصف ساعة بعد ان بقيت بنودها غامضة طيلة عشرات السنين لأنها ابرمت تحت سقف لا غالب ولا مغلوب.
(هايدغارد) لاحقتها لعنات الكنيسة فلم تعترف بها قديسة وحتى القرن الأخير حيث اضطر البابا (بنديكت السادس عشر) سنة 2012 أن يعتبرها طبيبة الكنيسة. وليست قديسة.ولكن كل من قرأ عن هذه المرأة اطلق عليها قديسة على الرغم من انف الكنيسة.
(هايد غارد) التي كانت تحت رعاية الراهبة الموهوبة (جوتا)، ابنة النبيل ستيفان الثاني من سبونهايم،العالمة اللاهوتية الالمانية المشهورة هو الذي دفع (هايدغارد) ان تعمد إلى تطوير ممارسات النظريات الصوفية داخل المسيحية ويُقال انها اعتمدت في ذلك على كتب الفلاسفة المسلمين وكتب الصوفية والعرفاء فجمعت بينها وبين اللاهوت التصوفي المسيحي وخاصة في تقاليد الكاثوليكية والأرثوذكسية الشرقية القريبة من الاسلام والتي تأثرت كثيرا بآراء التصوف الاسلامي الذي تُمارس فيه مجموعة متنوعة من الرؤى حول اتحاد الروح الصوفية مع الله مع التأمل من الكتاب المقدس أي القراءة الإلهية.
وعلى اثر ذلك شهدت العصور الوسطى ازدهار حركة التصوف المسيحي والتنظير المرافق له والذي رافقه ازدهار الرهبانيات الجديدة في العالم الاسلامي فنتج عن ذلك قامات شامخة في الرهبنة والتصوف امثال : ( برنارد منكليرفو) فتطور على يديه التصوف الألماني الدومينيكاني والذي من ابرز منظريه العالم الراهب (ميستر إكهرت) الذي قيل انه استعان بكتب التصوف الاسلامي ونسب بعضها إلى نفسه لما رآه الناس من قوتها حتى خالها البعض انها ملكوتية وليست ناسوتية.
فكانت (هايدغارد بنجين) وبحق اول رائدة جمعت ذلك كله متأثرة بالتصوف الإسلامي الاسباني والذي ألّفت على ضوئه موسوعتها (التصوف المسيحي) (3) حيث اعتبر عصرها عصر النهضة الأدبية للتصوف في الثقافة الكاثوليكية والتي كانت من اشهر اعلامها تلميذتها ( تريزا الأفيلية) نادرة التصوف المسيحي الحديث (4). وعلى ضوء ذلك تجرأ بعض اشهر علماء اللاهوت على اعلان انفسهم تلاميذ مدرسة (هايدغارد) وعلى رأسهم : (يوحنا الصليب ، وفرنسيس بورجيا وإغناطيوس دي لويولا.وحديثا دانيال بي والاس و إيزابيل بنيامين ماما رائدة قسم (كرسيولوجيا) في الكنيسة السريانية الاشورية. وكذلك الاب البروفيسور فيليب هرمز خوشابا). وغيرهم كثيرون ممن وصفت بعض الكنائس إيمانهم (بالخريستولوجي المونوفيزيتي) (5) اي هرطقات صوفية لا داعي لها.
ومن هنا ترى أن يوحنا الدمشقي يصف هذه الطريقة بأنها من اختلاف فئتين من المنشقين عن الكنيسة وهم (المبتهلون) أو القاطعين ذواتهم (النسّاك) وهم الذين يجتمعون ويقدمون تسابيح لله برقص وآلات . وطريقة النُسّاك هذه هي نفسها التي يطلق عليها الله في القرآن المقدس بقوله : (ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله ).(6)
هذا هو سر التأثير الصوفي او الاسلامي بصورة عامة على ما تكتبه إيزابيل.
تحياتي
1- المِحصَرة ، هو مكان الاعتكاف والتأمل الذي ينقطع فيه المعتكف عن العالم لينفرد بافكاره في زاوية دير ، أو جوف غابة ، او صحراء أو كهف.'
2- اتفاقيات ماستريخ هي الاتفاقيات التي تم عقدها بين الأطراف المتحاربة مذهبيا وقعت شرارتها بدايةً وبشكل عام في أراضي أوروبا الوسطى (خاصة أراضي ألمانيا) العائدة إلى الإمبراطورية الرومانية المقدسة، فقد اندلعت الحرب في البداية كصراع ديني مذهبي بين الكاثوليك والبروتستانت واستمر لفترة طويلة وانتهت كصراع سياسي والتي تسببت في قتل ربع سكان اوربا ثم تم توقيع الاتفاق ولكن مناقشة بنود الاتفاق استمر سنوات طويلة ولم يصل احد إلى نتيجة ولهذا السبب كانت الحروب تندلع بين فترة واخرى.وإلى الآن كما يحدث في بريطانيا بين البروتستانت البريطانيين والكاثوليك الايرلنديين وإلى هذا اليوم تحت مسميات مثل الجيش الجمهوري الايرلندي. وقد اتفقوا على توقيع معاهدة انكلو ـ ايرلندية وقعت في السادس من ديسمبر (كانون الاول) 1921 ضمن بنود معاهدة مايستريخ. ولو قام العرب او المسلمون بدعم الايرلنديين لضربوا بريطانيا بنفس اسلوبها فرّق تسد.
3- هذه الموسوعة التي زعم الكثير ممن قرأها من الآباء المقدسين والفلاسفة أنها جزء من الوحي الباطني الذي كانت تراه (هايدغارد) على شكل مكاشفات شديدة الوضوح والتي كانت تصاحبها انخطافات روحية متكررة . هذه الموسوعة الفريدة والنادرة كلها تحت يد إيزابيل تغترف من معينها وترمي ببعض اسرارها على صفحتها لتُكحل بها العيون النهمة لطلاب المعرفة الحقيقية.
4- انظر، من روائع التصوف المسيحي: السيرة الذاتية لـ (تيريزا الأفيلية) - الروحانية الكرملية طبع بيروت 1991. نقله إلى العربية أنطوان سعيد خاطر. يقول الأب شاهين ريشا الكرملي رئيس (دير سيدة الكرمل الحازمية- لبنان) : (قصة القديسة تريزا الأفيلية مع التأمل هي قصة حياة. فيه عاشت واختبرت سرّ الله، وبسببه عانت القلق والخوف والمحن على أنواعها، وعنه حاججت كبار اللاهوتيّين وقضاة محاكم التفتيش، ولأجل ممارسته قامت بإصلاح الكرمل وتأسيس أديارها، حتى صار التأمّل مرافقاً لاسم تريزا الأفيليّة. فلا جَرمَ إنْ أعلَنَتْها الكنيسة، بفم البابا بولس السادس سنة 1970، أوَّلَ معلّمةً للكنيسة جمعاء).
5- لمعرفة المزيد عنها اقرأ الدكتور جورج مرتزيلوس : الأرثوذكسية واللاخلقيدونيون بحسب القديس يوحنا الدمشقي. تعريب الأرشمندريت ديمتريوس شربك.
6- سورة الحديد آية : 27 . وقد مدح الرب الرهبان في سورة المائدة آية 82 فقال : ولتجدنَ أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون.