التلمود (1)هو العمود الفقري للدين اليهودي وهو الدعامة التي يقف
عليها الصرح الروحي والفكري في الحياة اليهودية برمتها. ولا يوازي
التلمود شيء في القداسة حتى التوراة نفسها.وهو أصح كتاب مع الصحاح
الخمس الأخرى التي تكوّن المشنا. فيكون عدد صحاح التوارة ستة ويُطلق
عليها (الصحاح الست اليهودية) (2) ويعتقد اليهود أن التلمود بكل
اجزائه هو أحاديث وسنة موسى وما اوحى بها الله إليه بعيدا عن
التوراة. أثناء الإربعين يوما التي قضاها في طور سيناء وأمره أن لا
يكتبها وأن يُبلغها شفويا وهي على غرار القول الذي يقول : ــ اكتاب
مع كتاب الله امحضوا كتاب الله ـــ ( 3) وقد ظل الربانيون يتناقلون
المشنا شفاها حتى عهد يهودا الناسي الذي قرر جمع المشنا خوفا عليها
من النسيان أو التحريف اوضياع احاديث موسى وسنّته. فخالف بذلك امر
الرب إلى موسى بعدم كتابة سنّته.
بعد السبي البابلي وتدمير ما يُسمى حضارة اليهود واحراق اليهكل
المزعوم وضياع التوراة بأكثر من (150) عاما بادر الحكماء الربانيين
إلى البحث عن أساس جديد لصون العادات والتقاليد الدينية اليهودية.
وبما أن الفراغ الذي ولده ضياع التوراة كان كبيرا لا يُمكن سده بأي
كتاب آخر فقد عمد الحكماء الربانيون إلى مناقشة التقاليد المختلفة
في الشريعة الشفهية وتبنيها كبديل عن الناموس الذي ضاع .
على ضوء هذا الفكر رسم اليهود حدود ومتطلبات جديدة للدين اليهودي،
معطين توجيهات لليهود في كيفية العيش حياة دينية كاملة من دون هيكل
او معبد .
هذا الإطار الروحي الجديد تم إيجازه في (المشنا). (4) من قبل
الحاخام يهوذا الناسي في نهاية القرن الثاني بعد الميلاد. وقد تمت
كتابة اقوال وقرارات الربانيين ومزجها مع سنّة موسى في المشنا
بطريقة ستؤثر في صياغة حياة اليهود اليومية في كل مكان أكثر من
التوارة وتعاليمها. ويقول البروفيسور (جايكوب نويسنر) : كانت
المِشنا دستور إسرائيل .. وكانت تصرّ على قبول قوانينها والتقيّد
بها من دون أي مناقشة . في نظرهم أن المشنا اصح كتاب بعد التوراة إن
لم تكن افضل منها .
لا أحد يستطيع ان يمس التلمود ولا المشنا وقد اضطر الربانيون أن
يُظهروا أن تعاليم (التّنّيم) مساوية ومنسجمة تماما مع الأسفار
العبرانية وقد قاموا بتبرير صعوبة فهم التلمود انه يعود في اصوله
إلى الناموس الاعظم المُعطى إلى موسى في سيناء شفهيا. وتكريما
للجهود التي بذلها هؤلاء الربانيون فقد أطلق عليهم ( الأمورايم) أي
مُفسروا المشنا فكانت كل مدرسة تتمحور حول رابي بارز وحتى هذا اليوم
حيث يكتم هذا الرابي زيارات (الله) التي يقوم بها مرتين في السنة
لتدارس التلمود معه . فكانت اهم هذه الزيارات تتم مرتين في السنة
خلال شهري اذار وأيلول اليهوديين.
يقول أدين شتاينسالتز : كان الرابي يجلس على حصير خصوصية ينتظر نزول
الله لكي يبدأ الدرس. ويقول شتاينسالتز : أن معرفة نزل الله لحضور
الدرس هو أن الرابي عندما يتكلم تخرج من فمه (شرارات نار) .
(5)
حياة البداوة التي عاشها اليهود طيلة قرون ومرورهم بحضارات كبيرة
انعكس ذلك في تدوينهم للتلمود الذي كان مزيجا غريبا عجيبا مقتبس من
هذه الحضارات وممزوجا بأحاديث موسى . يقول موريس أدلر . ((كان طرح
التلمود مهلكا بالنسبة للرباني وخصوصا فصلي (هاجداه) و (هلاكاه) فقد
اختلطت الاسطورة والتاريخ الفولكلور واللاهوت ممتزجة واحدها بالآخر
بحيث تبدو كمزيج غريب من المعلومات غير المنظمة في نظر اي عالم )).
(6)
الصدمة التي ولدها مجيئ نبي مسالم غير محارب (المسيح) جعل المدرسة
التلمودية الأورشليمية تنشق إلى مدرستين واحدة بقيت في فلسطين
وسيفوريس قيصرية , والثانية في العراق في بابل .
في مدرسة بابل تم كتابة التلمود الجديد المعروف بالتلمود البابلي
سنة (219) بـ . م . وقد كتبه (الرابي آبّا بن إيبو) الذي تتلمذ على
يد يهوذا الناسي وقد كانت نقطة تحول كبيرة للجالية اليهودية في
بابل. وبكتابة هذا التلمود لم يعد السفر إلى فلسطين ضروريا لأن كبار
العلماء نشأوا في بابل وعند اكتمال صياغة المشنا كنص مستقل مهّدت
السبيل لاستقلال كامل للمدارس البابلية. وفي نهاية القرن الرابع بعد
الميلاد جائت الضربة الحاسمة في فلسطين عندما ادى ضعف مدرسة التلمود
إلى الغاء منصب السنهدريم ومنصب (ناسي) ـــ وهو البطريرك اليهودي
ـــ ونحو سنة (425) بـ . م . بدأ الأموريم في فلسطين بدمج موجز
للمناقشات الشفوية للطبقة العليا من الكهنة وتم جمعه على عجلة خشية
ضياعه نتيجة الفوضى التي عمت الديانة اليهودية في فلسطين فاكتمل
العمل في أواخر القرن الرابع بعد الميلاد ، فصار يُعرف (بالتلمود
الفلسطيني) أو الأورشليمي .
وبذلك واجهت مدارس فلسطين انحطاطا مريعا . بينما كانت مدارس
الأمورايم في بابل في أوج عطائها.
بدأ أباي ورابا بتقديم حقيقة (المسّيا المخلص الموعود) (7 ) وانه
غير المسيح الوادع المسالم . وذكر ان سبب انتقال مدرسة التلمود من
فلسطين إلى بابل هي انتظار (المسيا العسكري) المحارب القوي الذي
سيعم مجد إسرائيل على يديه . ثم بدأ آشي رئيس مدرسة صورا وكاريبلا
في جنوب بابل سنة (371 ــ 427) بــ . م . بجمع وتحقيق كل ما يتعلق
بالمسيا العسكري في التلمود البابلي وهي النبوءات التي ذكرها
(شتاينسالتز) فيما بعد على انها النبوءات الشفهية للطبقة العليا
.
أستمر العمل في بابل وسط العراق على كتابة كل ما يتعلق بالمسيا
العسكري المخلص حتى عند انتهاء حقبة (الأمورايم) في بابل في القرن
الخامس بعد الميلاد ، لا بل استمر حتى القرن السادس على يد فريق
اكثر وعيا وادراكا للمسؤولية ويُدعى هذا الفريق (السابورايم) . (8)
وجمع هؤلاء المحققون آلاف الأجزاء غير المنجزة من التلمود واضافوا
إليه الكثير من نبوءات يوم قدوم المسيا العسكري والذي سوف يكون
ظهوره بالقرب من بابل حيث يكون مركز قيادته للعالم من هناك . وقد
دام العمل بذلك قرونا حتى ترسخت النبوءات بشكل أدت بالنتجية إلى منح
التلمود البابلي ومشناه ميزة فاقت كل الكتابات اليهودية السابقة
والتي كان من اسوأ نتائجها احتلال ارض بابل سنة (2003) من قبل جيوش
اللحظة الأخيرة تحقيقا لهذه النبوءة .
يقول البروفيسور دانيال جيرمي سيلفر : المشنا النص الأساسي لليهودية
الربانية فقد حلت المشنا محل الكتاب المقدس بصفتها المنهج التعليمي
الأساسي للتربية العسكرية اليهودية المستمرة فطرزها الربانيون برموز
جعلتها غامضة جدا من ناحية الأهداف السرية للمسيّا العسكري ، والذي
حمل سر غيابه الطويل .
بناءا على ذلك فقد تم نفي فكرة بناء الهيكل الذي غالبا ما يكون عرضة
للهجمات البشرية والتدمير وتم تأجيل ذلك حتى قدوم المسيا العسكري ،
الذي سوف يقود عملية ترويض للشعوب حيث يعم السلام على يديه ، ومن
هنا فقد عمد (يوهنان بن زكاي) وهو تلميذ محترم للقائد الفريسي
(هلّل) إلى جعل اعادة انشاء البنية التحتية الكاملة للحياة الدينية
بدلا من التركيز على بناء الهيكل الذي دمرته الفيالق الرومانية سنة
(70) بعد الميلاد. يقول البروفيسور شتاينسالتز : واجه يوهنان بن
زكاي تحدي تأسيس مركز روحي لليهود وذلك بتحويل الغيرة اليهودية من
الاهتمام بالهيكل الذي لم يعد موجودا ، إلى بناء هيكل الروح
بالاستعانة بالشريعة الشفوية. وقد كان يوهنان مصيبا في عمله ذلك حيث
أعلن الأمبراطور الروماني هادريان أن منطقة أورشليم ــ فلسطين وما
حولهاــ مدينة محرمة على اليهود . وعزز ذلك أيضا الفتوحات الإسلامية
التي منعت أيضا اليهود من دخول فلسطين كما في عهد عمر بن الخطاب
لنصارى فلسطين . فتقرر التركيز على بناء الهيكل الروحي مع احتفاظ كل
يهودي بحجر مستطيل في بيته ليقدمه للمسيا العسكري الذي سوف يأتي
فيجد احجار بناء الهيكل جاهزة وهكذا تحول هدف التلمود بكامل فروعه
إلى مدرسة للبناء الروحي بدلا من التوراة تؤسس ليوم الاستقبال
العظيم الذي ينتظره شعب إسرائيل على يد مخلصه المسيا العسكري الذي
سوف يؤسس لهم دولة العدل والسلام بعد أن يقضي على أعدائهم ويُبقى
على فئة قليلة من الناس لخدمة شعب الله المختار حيث يجعلهم الرب
عبيدا لشعبه ((وَيَقِفُ الأَجَانِبُ وَيَرْعَوْنَ غَنَمَكُمْ،
وَيَكُونُ بَنُو الْغَرِيبِ حَرَّاثِيكُمْ وَكَرَّامِيكُمْ أَمَّا
أَنْتُمْ فَتُدْعَوْنَ كَهَنَةَ الرَّبِّ، تُسَمَّوْنَ خُدَّامَ
إِلهِنَا. تَأْكُلُونَ ثَرْوَةَ الأُمَمِ، وَعَلَى مَجْدِهِمْ
تَتَأَمَّرُونَ )). (9)
(( أتمنى التركيز على المصادر والتوضيحات في آخر البحث )) .
المصادر والتوضيحات ـــــــــــــــــــــ
1- التلمود ومعناه الدارسة او التعليم وهو أحد الكتب القليلة جدًا،
التي لم يرد ذكرها كثيرًا، ولا يعرفها إلا القليلون جدًا. فمازال
الكثير من الغموض يحيط بالتلمود في العديد من الدوائر، باللغة
الإنجليزية: Talmud - باللغة العبرية: תַּלְמוּד - وباللغة
اليونانية: Ταλμούδ. يقول حسن ظاظا: التوراة عبارة عن جزئين :
احدهما المشنى والثاني الجمارا. الذي هو شروح على المشنا ويحوي
التلمود ابحاث احبار اليهود وفقهائهم وربانيهم في شؤون العقيدة
والشريعة والتاريخ المقدس وتقع في ثلاث وستين سفرا. والتلمود إثنان
: اورشليمي وهو إلى يهود فلسطين. و . بابلي وهو ليهود العراق. أنظر
حسن ظاظا ، الفكر الديني الإسرائيلي ص 95.
2- الصحاح اليهودية الستة هي : التلمود ولا استطيع تشبيهه إلا بصحيح
البخاري ، ثم المشنا وهي بمثابة صحيح مسلم في الأهمية . والزراعيم و
ناشيم و نزيقين وقداشيم . وهي بنفس اهمية الصحاح الستة عند المسلمين
والتي هي بمثابة احاديث محمد نبيهم وسُنته . كما أن الصحاح اليهودية
الستة هي احاديث موسى وسنته.
3 – لعله من أغرب الأمور التي مرت بي هو أن كتب الصحاح الستة تروي
بأن النبي أمرهم ان يتداولوا سنته (شفيها) ولا يكتبونها ، وهذا هو
نفس رأي اليهود في سنة موسى حيث امره الرب حسب رواياته بان
يتناقلونها شفيها ولا يدونونها. ففي مسند الأمام أحمد بن حنبل بسنده
من حديث أبي هريرة قال : كنا قعودا نكتب ما نسمع من النبي صلى الله
عليه وسلم فخرج علينا فقال : ما هذا تكتبون ؟ فقلنا نسمع منك ، فقال
: أكتاب مع كتاب الله ؟ فقلنا ما نسمع ، فقال : اكتبوا كتاب الله
امحضوا كتاب الله ، أكتاب غير كتاب الله ، امحضوا كتاب الله وأخلصوه
، قال : (فجمعنا ما كتبنا في صعيد واحد ثم أحرقناه بالنار) . قلنا :
أي رسول الله أنتحدث عنك . قال : نعم تحدثوا عني ولا حرج . فقلنا :
يارسول الله ، انتحدث عن بني اسرائيل ؟ قال : نعم تحدثوا عن بني
إسرائيل ولا حرج )) ففي هذه الرواية ان النبي امرهم أن لا يُدونوا
سنته ، والرب ايضا امر موسى أن يقول لقومه ان لا يُدونوا سنته بل
يتناقلونها شفهيا . الربانيون جمعوا خالفوا هذه التعاليم وجمعوا
سنّة موسى في ستة مجلدات ــ الصحاح اليهودية الست ـــ والمسلمون
أيضا خالفوا قول نبيهم فجمعوا سنّته في الصحاح الست . لا زلت متعجبة
من هذا التوافق العجيب .. والأعجب من ذلك . لماذا اقحم ابا هريرة
هنا قوله : قلنا يا رسول الله انتحدث عن بني إسرائيل ؟ قال نعم
تحدثوا ولا حرج ... والرب هذا من أعجب الأمور التي مرت بي . تشابه
عجيب وكأن هذه المذاهب ليست اسلامية ، إنما مذاهب يهودية اتبعت
اليهود شبر بشبر حتى أنهم دخلوا جحر الضب وراء اليهود ...
4- المشنة . المشنا وتعني بالعبرية المثنى المكمل للتوراة المكتوبة
.وهو العقيدة غير المكتوبة، وتفسيرها وهي تعليم أحد الحاخامات الذين
عاشوا خلال القرنين الأولين للميلاد , والتي جمعها فيما بعد الحاخام
يهوذا الناسي في نهاية القرن الثاني الميلادي.
5- انظر حُلّين 137ب ، التلمود البابلي الطبعة العربية إسرائيل .
6- موريس أدلر ، كتاب عاَلم التلمود .
7- المسيا الملك: في الترجوم -التفسير اليهودي القديم- أُضيفت كلمة
(المسيا) إلى لفظة (الملك) فقيل: (أيها الملك المسيا ) جاءت
الكتابات المسيحية الأولى والليتروجيات تفسر هذا المزمور بكونه
تسبحة العرس القائم بين المسيا والسيد المسيح . تسبحة العرس للمسيا
الملك المحارب . أنظر (تفسير مزمور 45 - تفسير سفر المزامير الأصحاح
الخامس والأربعون - تفسير العهد القديم). الغموض الذي يلف التلمود
من ناحية المسيا المنتظر، يجعل اطرافا دينية اخرى تقول بغير ذلك .
خصوصا إذا عرفنا أن المسيح سوف يأتي كما هو مذكور ولذلك لابد من أن
يكون القائد الذي يأتي معه من غير الديانة اليهودية لأن اليهود
واليهودية مستهدفة من قبل القائدين المسيا والمهدي .. فليس من
المعقول ان يكون يسوع محاربا من اجل اليهود الذين حاولوا قتله
وابادت رسالته ، وطعنوا في عرض أم المؤمنين مريم واتهموها بالزنا
؟!. وكذلك ليس من المعقول أن يكون القائد الإسلامي ــ المهدي ــ
الذي سوف يأتي مع المسيح محاربا من اجل اليهود بعد أن حاولوا القضاء
على رسالة الاسلام وقتل نبي الاسلام. يجب هنا التأمل جيدا ..
8- السابورايم كلمة آرامية قديمة تعني الشرّاح ، أو أصحاب
الرأي.
9- سفر إشعياء 61: 5 .