أسرار حروب الغرب. الحروب الحضارية والتبشير.ابادة وتدمير وليس ديانة وتبشير

2021/01/18

 

عزائي لبلدي العراق الذي دُمر على يد شرذمة خلت قلوبها من الرحمة وانسلخت من طبيعتها البشرية أن أضع هذا البحث المتواضع من أجل بيان أسرار حروب الغرب التدميرية على الآخرين . فنحن لازلنا مخدوعين بمظهرهم الجميل وما تنتجه مصانعهم من أشياء جميلة نشتريها ولا نُكلف أنفسنا يوما عناء صنعها ولو فكر بلد عربي أو إسلامي أن يستقل عن سياستها واقتصادها ويبني حضارته بيد أبناءه فسوف يتعرض لصنوف الأذى والإذلال والقمع الفكري والعسكري كما حدث سابقا لحضارات تلاشت على أيدي هؤلاء وكما حدث قريبا لليبيا ومفاعلاتها وتونس وحريتها ومصر وصواريخها والعراق وبرنامجه الفضائي وسوريا وممانعتها وغدا إيران وقدراتها وكوريا الشمالية.

فالمدنية ملك الرجل الأبيض ، وقدر الإنسان الآخر هو أن يضل يلفه الظلام والتيه واللامعقول والوحشية والبربرية حتى يحين موعده مع النور الآتي من الغرب . وقد بلغ الأمر بالجماعات الأكاديمية والفكرية والدينية في الغرب ، أنها كانت تتداول في مناظراتها - بجد واحتداد واضحين - مسألة ما إذا كان غير الأوربيين ، قابلين للتمدن أصلا ، وقد ساهم في ترسيخ هذه المدلولات كبار علماء الغرب ، أمثال : (( بلومنباخ )) و (( لورنس)) و (( لامارك)) وعلى وجه الخصوص (( جورج كوفيه)) . 

من هنا تجاوزت النزعة العدوانية التدميرية التي طغت على روح الإنسان الغربي عند غاراته على الحضارات الأخرى كل الحدود ، ففي طول تاريخ المسيرة البشرية شهدت حياة الإنسان مظاهر صراع متنوعة ، فكم هو الفرق بين حروب المسلمين مع الأمم الأخرى وهي تحمل روح التسامح والإنسانية ، فوصايا وتعاليم دينهم لا تبيح لهم حتى قطع الأشجار أو التصرف بأموال الآخرين بدون رضاهم ، بينما نلاحظ أن حروب الغرب مع الأمم الأخرى تجاوزت كل حدوده فأودى بحياة حضارات قائمة وأحرق تراثها وانتهى إلى إبادتها ، ولم تتوقف هذه الحروب بل تكررت حالات اغتيال الحضارات التي تعرضت لغزوات هذا الإنسان الأوربي المتحضر . 

فمثلا كانت تعيش في أمريكا أربع حضارات - قبل أن يصلها الإنسان الأوربي - بلغ مجموع سكانها ( مائة مليون نسمة) ، أبادها الأوربيون في خلال قرن واحد ، أي بمعدل مليون إنسان في العام الواحد ، ولم يبق من السكان الأصليين - أهل البلاد - إلا القليل الذي تركوه لأنه لا يجلب الضرر إليهم ويفيدهم في قطع الأخشاب وتعديل الطرق وخدمة الرجل الأبيض في البيوت ، فمنذ أن غزت اسبانيا أمريكا عام (1513) - وهو عام سقوط غرناطة على أيدي الصليبيين - بدأت عملية حرق الأرض تحت أهلها واسترقاقهم و تصفيتهم ، فقد ورد في ( المتطلبات) وهي وثيقة أعدها الأسبان عام ( 1513) م لتقرأ على الهنود الحمر - سكان البلاد الأصليين - جاء فيها : 

سنأخذكم ونأخذ زوجاتكم وأطفالكم عبيدا ، ثم نبيعهم ونتخلص منهم بالطريقة التي يأمر بها صاحب الجلالة ملك اسبانيا وملكتها وسنأخذ منكم بضائعكم وأشيائكم ، وننزل بكم الأذى والضرر اللذين نستطيعهما . 

وتزامنت هذه الهجمات مع تدمير حضارات أخرى في ( الآزتيك) في وادي المكسيك ، وتدمير حضارات ( الأنكا) في أمريكا الجنوبية ، وكذلك عمليات إبادة حضارات أخرى في غرب أفريقيا ، وعندما قامت اسبانيا وفرنسا وإنكلترا وهولندا بتعويض النقص في اليد العاملة ، نتج عن ذلك مجازر بشرية هائلة قام بها الرجل الأبيض - المتحضر - فأعدم 90 % من سكان البلاد الأصليين ، فتم بذلك استرقاق ( 100) مليون أفريقي من القارة السوداء والمجىء بهم إلى أمريكا وغيرها وأسكنوهم في مكان الهنود الحمر الذين ذبحوهم فيها . 

فمن الذي كان أكثر استخداما للسيف ؟ ومن هو الذي اغرق العالم بالدماء ؟ 

هم يعرفون بأن الإسلام لم يكن أبدا دين حرب وقتال . بل دعوة عدل وحرية وسلام ، وهذا سر قوته وسر انتصاره. 

وحسب مطالعاتي ضمن مشروع الجهاد في الإسلام على ضوء إطلاق السلفيين لهذه الكلمة في الهواء فقد تبين لي بأن مشروعية الجهاد في الجذور الأولى للإسلام لم تكن أبدا فكرة تدور حول القهر والفتح والاحتلال قبل مجئ الأفكار الإسلامية المتطرفة الحديثة.. 

لقد كانت حروب الإسلام جمعاء ، ومن غير استثناء حروبا تحريرية . وحروب التحرير دائما حروب دفاعية لأنها أصلا وأساسا تقوم لدفع العدوان ، واسترداد الحقوق المغتصبة ومن هنا كانت حروب الإسلام كلها حروبا دفاعية . حتى ما أخذ فيها المبادأة . فليس ضروريا أن يكون دفاع الإنسان عن نفسه والسيف مصلت على عنقه . بل ألاحكم أن تبدأ الدفاع عن نفسك قبل أن يتمكن عدوك من ظروف الغلب حتى تجرده مقدما من عناصر القوة والنصر .

هكذا كانت حروب المسلمين الأوائل ـ وما زالت إلى اليوم ـ دفاعا عن النفس وعن العقيدة .. فهي حروب عادلة لأن من حق الإنسان الحر أن يدافع عن عقيدته كما يدافع عن نفسه وبخاصة إذا كانت العقيدة والرأي تمثل اتجاها يشكل أوضاعه ويدخل في صميم حياته، ويتصل بالزاد والمعاد . 

وقد خرج العرب من الجزيرة وهم يحملون مبادئ ومثلا وقيما .. وكانت تخفق فوق جيوشهم راية العقيدة ، وترفرف عليها شعارات الحرية والإخاء والعدالة والإنصاف والمساواة في الحقوق والواجبات ... ثم المعايشة السلمية بين جميع العقائد والأديان السماوية . وقد ترك المسلمون الأوائل لليهود وللنصارى حريتهم في عقائدهم كما تركوا لهم أملاكهم وأمنهم على أرواحهم وأموالهم وها نحن بقاياهم لا زلنا شهودا على ذلك . ولم يكن ذلك من باب السياسة والدهاء ولكنها تعاليم الإسلام ومبادئه السمحاء ، وقوانينه العادلة .. وهذا جرى في جميع البلاد الأخرى التي فتحها العرب فلم يخربوا بلدا ، أو ينهبوه ، أو يستبيحوا الأعراض فيه ـ كما كانت تفعل جيوش الغزاة الفاتحين إذا واتاهم النصر ـ بل بلغت بهم تقاليد الشهامة العربية أنهم كانوا لا يجهزون على جريح ، وكانوا ـ في غير مقتضيات تأمين المعارك ـ لا يتبعون فارا . وكانوا ثوارا أصحاب مبادئ يدخلون البلاد بمبادئهم ثائرين ولا يدخلونها بنزواتهم جلادين. وكان همهم أن يتحرر الإنسان من الرق والعبودية .

بين يدي الآن حالتين . 

الأولى يقول فيها القائد العسكري لجنوده : ((تألفوا الناس وتأنوهم . ولا تغيروا عليهم حتى تدعوهم ، فما على وجه الأرض من أهل بيت مدر ولا وبر إلا تأتوني بهم مسلمين أحب إليَّ من أن تأتوني بنسائهم وأولادهم وتقتلوا رجالهم )) . (1)

طبعا في الحسابات العسكرية لا يجوز اعلام العدو بالهجوم فهذا من أخطر الاشياء التي يقوم بها أي قائد قد يعرض جيشه لخطر الابادة.ولكن هذا القائد العسكري هنا واثق من قضيته ونفسه . 

الحالة الثانية : ولفنجستون(2) مبشّر إنكليزي الوجه الآخر للحضارة الدينية الغربية ، كان يعمل في جمعية التبشير اللندنية ، كان يتطلع إلى القيام بأعمال التبشير في أفريقيا الاستوائية لزيادة عدد أتباع (يسوع ) هناك ، وبالعمل على زعمه بين شعوب فطرية لم يكن قد وصلها الأوربيون ، ولكنه بطبيعة الحال كان يفكر بالتجارة أكثر من ترسيخ الاستعمار أو التبشير بدينه وبما أنه كان أولا وقبل كل شئ مبشرا مسيحيا فلقد اختارته لندن كعضو في الحركة التبشيرية ، ولكن لندن شرطت عليه أن يبحث في طريقه عن نهر تستطيع السفن الحربية البريطانية أن تمخر فيه إلى داخل البلاد لاحتلالها واستعمارها . 

لقد أراد المبشر ولفنجستون أن يكتشف طرقا في أفريقيا ليس للمبشرين وليس للمدنية أو الإنسانية ، وإنما للسفن الحربية البريطانية لقتل الآمنين واستعمار بلادهم بقوة النار والحديد ، ونهب ثرواتهم ، وجلبهم أسرى ليخدموا في بلادهم . 

خلاصة الأمر فقد كان ولفنجستون مبشرا قبل أن يكون رحالة ، ولم تكن رحلته المشهورة إلى أفريقيا وآسيا ، إلا تمهيدا للبعثات التبشيرية والحربية . 

يقول ولفنجستون في أحد تقاريره المرسلة إلى الجمعية التبشيرية اللندنية : ((إن نهاية الاكتشاف الجغرافي هي بداية العمل التبشيري ، وهذه حقيقة كلية إذ أنه من المحال أن تكتشف أرضا جديدة دون أن ينبه ذلك فينا شوق دعوة أهلها إلى الإنجيل)). (3) 

هذا التعبير هو أدق ما قيل حول أهداف دعوة الناس للمسيحية لأنه يشف عما تحته من أهداف استعمارية وإن تبرقعت ببرقع التبشير .

فهل قام ولفنجستون واضرابه بالتبشير للمسيحية (( دين الرحمة والإنسانية والمحبة والسلام ... ))!! أم اتضحت أهدافهم الخبيثة الداعية إلى قتل من يرفض اعتناق الدين الجديد وسرقة أمواله ومصادرة ثرواته وكرامته أو استعباده للخدمة في بيوتهم . 

فعندما دخل ولفنجستون وهو يرتدي لباس الرهبان ويحمل الصليب بين يديه وقد ارتسمت على وجهه ابتسامة عريضة ، عندما دخل جزيرة هاييتي ( اسبانيولا) برفقة بحارة أسبان ، انشغل ضباط الرحلة والجنود أول الأمر باكتشاف الجزيرة وهل تملك وسائل دفاع أو جيشا ، وعندما تبين لهم أن سكان الجزيرة أناس مسالمون ، قاموا باحتلالها . (( وقد تولى هذه المهمة كل من دييغو فيلاسكيز ، وبانفيلودونار ، فأبديا من ضروب الوحشية ما لم يسبق له مثيل ، متفننين في تعذيب سكان الجزيرة بقطع أناملهم وفقء عيونهم ، وصب الزيت المغلي ، والرصاص المذاب في جراحاتهم ، أو بإحراقهم أحياء على مرأى من الأسرى ... ليعترفوا بمخابئ الذهب أو ليهتدوا إلى الدين الجديد ! بينما كان المبشّر ولفنجستون مشغولا بالبحث عن بناء مناسب لإقامة كنيسته. وقد حاول ولفنجستون إقناع الزعيم (( هاتيهاي)) باعتناق الدين المسيحي ، وكان الزعيم مربوطا إلى المحرقة ، فقال له : أنه إذا تعمد يذهب إلى الجنة ... فسأله الزعيم الهاييتي : (( وهل في الجنة اسبانيون)) ؟ فأجاب الراهب : (( طبعا ، ماداموا يعبدون الإله الحق !!)) .

فما كان من الزعيم إلا أن قال : (( إذن ، أنا لا أريد أن اذهب إلى مكان أصادف فيه أبناء هذه الأمة المتوحشة )).(3) 

ولم تنفع كل توسلات الزعيم الهاييتي بأن يتركوا شعبه ، بعد أن قدم لهم الزعيم غرفة مملوءة بالذهب ، وغرفتين مملوءتين بالفضة ، فقام ولفنجستون بإحراقه بنفسه على العمود الذي صُلب عليه ، ثم عمدوا إلى آلاف الأسرى فعذبوهم تعذيبا هائلا من أجل الذهب ثم قتلوهم . 

هذه هي حضارة الغرب وهذه هي فتوحاته التي يُريد إنقاذ الشعوب من ربقة حكامها الذين عينهم وسلطهم على هذه الشعوب وهذا هو جوهر الربيع العربي وحقيقة حركات التحرر في العالم. 

المصادر والتوضيحات ـــــــ

1- وهو حديث إسلامي مشهور ، وضع القواعد الأولى لقانون التعامل مع الناس في الحروب.رواه ابن مندة وابن عساكر ج4 ، ص 758

2- ديڤيد لڤنگستون (19 مارس 1813 - 1 مايو 1873) (David Livingstone) كان من أشهر المبشرين المسيحيين في أفريقيا وتاهيتي وهو اسكتلندي الأصل انضم الى جمعية لندن التنصيرية عام 1838 وعمل في جامعة جلاسجو. ظل متعصبا للتنصير حتى آخر يوم في حياته.

3- التبشير والاستعمار في البلاد العربية ، الدكتور عمر فروخ ، الطبعة الرابعة سنة 1970 بيروت .

أخترنا لك
عيد الفصح هل امر يسوع به ؟

(ملف)عاشوراء : انتصار الدم على السيف