مناقبُ مسلم بن عقيل (عليه السلام) في مصادر أهل السِّنة.

2020/01/22

كثر لغط المؤرخين من أهل السنة حول شخصية مسلم بن عقيل (عليه السلام)، فلم يكونوا منصفين في تدوين ما كتبوا حوله، فنجدهم غالبًا ما يطعنون به وينتقصونه، وهذا ديدنهم في توثيق الحقائق، فهم في كُلَّ مرةٍ يجانبون الصّواب ويحرّفون الحقيقة لأسبابٍ يعرفُها اللبيبُ، ونجدها أكثر وضوحا مع أهلِ البيت (عليهم السلام) ابتداءً من أمير المؤمنين والسيدة الزهراء إلى بقية الله في أرضه الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف)، وقبلهم الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، فرغم طريقهم المضل في توثيق الحقائق وتحريف الكلم عن مواضعه ، ترتقع مكانتهم (عليهم السلام) ويعلو شأنهم لما لهم من الفضائل التي لا يحصى عددها ولا ينتهي أمدها  فضلا عن دورهم الاجتماعي في رسم التاريخ الإنساني والإسلامي ، وهذا يدل على عظيم أمرهم ؛ لأنهم خاصة الله في أرضه وحججه على عباده ، ومن جوِّ تعتيم أو تغيب الحقائق أسلطُ الضوءَ على بعض ما ذكره أهل العامّة من مناقب سيدنا الشهيد مسلم بن عقيل، علما بأنها مناقبٌ لا تزيده مكانةً وكرامةً ؛ لأنه بلغ الكمال في السمو والتضحية والعطاء، ويكفيه قول الإمام الحسين عليه السلام فيه بأنه (ثقتي وخاصتي) وهذه غاية الفخر في الدنيا والآخرة، ومن مناقبه عند أهل السنة ما يأتي :
- ذكر محمد بن عمر الواقدي المتوفى (207ه) في الفتوح الشام في فتح البهنسا، قال: (اشتد الزحام، وعظم المرام، وجرت الدماء، واسودت السماء وحمي الوطيس، وقل الأنيس، وهمهمت الأبطال، وقوي القتال، وعظم النزال، ودارت رحى الحرب، واشتد الطعن والضرب، وجالت الرجال، واشتد القتال، وضربت الأعناق، وسالت الأحداق، وعظمت الأمور، وغابت البدور، وكان المسلمون لا يظهرون فيهم لكثرتهم، ولا يعرف بعضهم بعضاً إلا بالتهليل والتكبير والصلاة على البشير النذير... ولله در مسلم بن عقيل وأخويه لقد قاتلوا حتى صارت الدماء على دروعهم كقطع أكباد الإبل). استعرض الواقدي وصف الحرب الشديدة ثم ذكر مسلم بن عقيل لأنه قائدها وشجاعها ، كأنه أراد القول وصفتُ حربا لشجاع قادها وهو يخوض المعركة حتى صارت الدماء على درعه كقطع أكباد الأبل .
- ذكر محمد بن إبراهيم البخاري المتوفي (256 ه) في كتابه (التاريخ الكبير) عن أبي هريرة أنه قال: (ما رأيت من ولد عبد المطلب أشبه بالنبي -صلى الله عليه واله وسلم- من مسلم بن عقيل). شبّه البخاري مسلم بن عقيل (عليه السلام) بالرسول الأكرم (عليه الصلاة والسّلام) شبهًا مطلقًا ، ولم يُحدده أهو في الخَلق أم في الخُلق؟، أم في كليهما؟ ومما لا شك فيه أن الشبه في أحدهما أو كليهما منقبة لا يعادلها شيئًا .
- قال أحمد بن يحيى البلاذري المتوفى (279ه) في كتابه (أنساب الأشراف): (وكان مسلم بن عقيل أرجل ولد عقيل وأشجعها، فقدّمه الحسين بن علي عليهما السلام إلى الكوفة، حين كاتبه أهلها ودعوه إليها وراسلوه في القدوم، ووعدوه نصرهم ومناصحتهم). أرجل صيغة أفعل اسم تفضيل ودلالتها المبالغة في الشيء أي منتهى غاية الرجولة والشجاعة.
- قال ابو حنيفة بن داوود الدينوري المتوفى (282ه) في الاخبار الطوال: (ومرض شريك بن الأعور في منزل هانئ بن عروة مرضا شديدا، وبلغ ذلك عبيد الله بن زياد، فأرسل إليه يعلمه أنه يأتيه عائدا. فقال شريك لمسلم بن عقيل: (إنما غايتك وغاية شيعتك هلاك هذا الطاغية، وقد أمكنك الله منه، هو صائر إلى ليعودني، فقم، فادخل الخزانة حتى إذا اطمأن عندي، فاخرج إليه، فقاتله، ثم صر إلى قصر الإمارة، فاجلس فيه، فإنه لا ينازعك فيه أحد من الناس، وإن رزقني الله العافية صرت إلى البصرة، فكفيتك أمرها، وبايع لك أهلها). فقال هانئ بن عروة: (ما أحب أن يقتل في داري ابن زياد). فقال له شريك: (ولم ؟ فو الله إن قتله لقربان إلى الله). ثم قال شريك لمسلم: (لا تقصر في ذلك). فبينما هم على ذلك إذ قيل لهم: (الأمير بالباب). فدخل مسلم بن عقيل الخزانة، ودخل عبيد الله بن زياد على شريك، فسلم عليه، وقال: (ما الذي تجد وتشكو ؟). فلما طال سؤاله إياه استبطأ شريك خروج مسلم، وجعل يقول، ويسمع مسلما: ما تنظرون بسلمى عند فرصتها فقد وفى ودها، واستوسق الصرم وجعل يردد ذلك. فقال ابن زياد لهانئ: (أيهجر ؟) - يعني يهذي -. قال هانئ: (نعم، أصلح الله الأمير، لم يزل هكذا منذ أصبح). ثم قام عبيد الله وخرج، فخرج مسلم بن عقيل من الخزانة، فقال شريك: (ما الذي منعك منه إلا الجبن والفشل ؟). فقال شريك: (أما والله لو قتلته لاستقام لك أمرك، واستوسق لك سلطانك). قال مسلم: (منعني منه خلتان: إحداهما كراهية هانئ لقتله في منزله، والأخرى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الإيمان قيد الفتك، لا يفتك مؤمن).   تراجع مسلم بن عقيل عن قتل رئيس الدولة الأموية ابن زياد رغم توافر الفرصة التي لو تحققت لتغيّر من الواقع الاجتماعي والسّياسيّ الشيء الكثير ؛ لأنه وجد كراهة القتل في البيت الذي يستدعي الغدر بعدوه ، ولله دره ما كانت هذه سجيته حتى لو توافرت من الفرص ألفها ، وأزعم أن سيدنا مسلم لم يفكر بقتله لحظة ، فدخوله الخزانة كان بسبب المجيء المفاجئ لابن زياد كما ذكره الدينوري ، والخفاء لمسلم أوجب من الظهور في ذاك الوقت الحرج ..
- قال ابو الفرج الاصفهاني المتوفى (356ه) في مقاتل الطالبيين: (ثم أدخل على عبيد الله بن زياد - لعنه الله - فلم يسلم عليه، فقال له الحرس: ألا تسلم على الأمير؟ فقال: إن كان الأمير يريد قتلي فما سلامي عليه؟ وإن كان لا يريد قتلي فليكثرن سلامي عليه). ومن هنا تبين صلابته في الموقف رغم الظروف الحالكة التي يمر فيها، فلم يتغير موقفه وعقيدته، وهذا يعطي انطباعا حول اختيار الإمام الحسين له واناطته بهذه المهمة
- قال محمد بن أبي بكر التِّلمساني المعروف بالبريّ، المتوفى: بعد 645هـ في كتابه الجوهرة في نسب النبي وأصحابه العشرة: (وكان له من الولد اثنا عشر ذكرا، وخرج منهم تسعة مع الحسين رضي الله عنه، فقُتلوا معه. منهم: مُسلم بن عقيل وكان أشجعهم، وهو الذي قدَّمه الحسين عليه السلام إلى الكوفة، فقتله الدَّعيُّ ابن زياد صبرا. وفيهم قيل:
عينِ جودي بعَبرةٍ وعويل ... واندُبي إن نَدبتِ آل الرسولِ
سبعةُ كلُّهم لصلب عليٍّ ... قد أُصيبوا وتسعةٌ لعقيلِ)
- أحمد بن حليم الحراني المعروف بابن تيمية المتوفى (728ه) في كتابه (راس الحسين): (وهو رسول الحسين إلى عبيد الله بن زياد وقتله ابن زياد وكان أول رسول مبعوث يقتل في الإسلام). رغم غلّ ابن تيمية على أهل البيت (عليهم السلام) وحقده الدفين لهم إلا أنه صرّح بظلامته التي لم تجرِ على أحد ، فكان قتله (عليه السّلام) الشرارة الأوّلى لبدء ثورة الإمام الحُسين (عليه السّلام) لأنه سفيره الأعظم ، فنال الشهادة بأعلى مراتبها وثباتها ليضمها إلى مناقبه ويختمها بولائه لله وأهل بيته .
- قال ابو الفداء اسماعيل بن عمر المعروف بابن كثير المتوفى (774ه) في كتابه البداية والنهاية: 
فإن كنتِ لا تدرين ما الموت فانظري   إلى هانيء في السُّوقِ وابن عقيل
أصابهما أمر الإمام فأصبحا أحاديث من يسعى بكل سبيل
إلى بطل قد هَشَّم السيف وجهه  وآخر يَهوِي من طمار قتيل
ترى جسداً قد غيَّر الموت لونه  ونضح دمٍ قد سال كلَّ مَسيلٍ
فإن أنتم لم تثأَروا بأخيكم   فكونوا بغيا أُرضيت بقليل
- قال محمد علي الصلابي، في كتابه: عمر بن عبد العزيز، معالم التجديد والإصلاح الراشدي على منهاج النبوة: ( استمد عبيد الله جبروته وبطشه بالمعارضين من موافقة الخليفة يزيد بن معاوية، فعندما أقدم على قتل مسلم بن عقيل النائب الأول عن الحسين بالكوفة). وصفه بالنائب الاول عن الامام الحسين عليه السلام، وهذا يعطي بعدًا عقديًا كبيرًا، فالإمام الحسين هو المعصوم والقائد الفذ والإنسان الكامل، فالنائب الأوَّل يكتسب خصائص وصفات قائده .
- قال الصلابي ايضا: (ووصول مسلم بن عقيل إلى الكوفة يأخذ البيعة للحسين، قام فخطب في الناس وحذرهم الخروج على الإمام وأرهبهم من السعي في الفتنة، وذكرهم بما يجره على العامة والخاصة من الخراب والدمار ومع ذلك كان ليناً مع الناس، وأخبرهم أنه لن يأخذ أحداً بظنه، ولن يقاتل أحداً لم يقاتله)، هذا الوصف يكشف عن الشخصية الإسلامية الأصلية التي تربت وترعرعت في كنف النبوة والإمامة، فكسبته معالي الإسلام النّبيلة. وكان نعم الرسول المبتعث والأمين الذي أدى أمانته على أتمّ وجه فسلامٌ عليه يوم ولد ويوم استشهد غريبًا وحيدًا ويوم بعث لربّه.    

د . احمد حسن السعيدي

أخترنا لك
أخلاقية الرضا والتسليم وعلاقتهما بأهل البيت (عليهم السلام) رؤية قرآنية.

(ملف)عاشوراء : انتصار الدم على السيف