الحمدُ للهِ ربّ العالمين والصلاةُ والسّلامُ على أشرفِ
الأنبياء والمرسلين أبي القاسم مُحمَّد وعلى آله والطيبينَ
الطاهرينَ.
من المشاكل الصعاب التي يواجهها
الباحثُ الغوصَ في التراث الاسلامي لما يشوبه من تحريفات كبيرة
وتقليب للحقائق وتزوير للاحداث، وخصوصا بما يتعلق باهل البيت الرحمة
(عليهم السلام)، فتيار الحكم الذي سادّ الدولة الاسلامية بمختلف
مراحله كان مناوئا لهم ويقف منهم موقف الضدّ، وهذا لا يخفى على
الجميع.
وهذه الصعوبة تزاددُ عندما نرى علماء
المسلمين انفسهم يتهمون نبيهم وينسبون له الافعال التي لا تمت
للحقيقة بصلة، فاقل ما يقال عنهم اذ اصفحنا عن كيل الاتهامات
والاسباب التي دعتهم لافتراء، فنقول اولئك المفسرين بانهم جهلوا
الشخصية المحمدية التي اصطفها الله تعالى وعناها بعنايه، واقوالهم
جانبت الحقيقة التي يمكن يتصف بها النبي الاكرم (صلى الله عليه وآله
وسلم)، ولاجل ان نبين ما قلته ساسلط الضوء على سورة (عبس) وبين حجم
الافتراء الذي نسب للنبي الاكرم من خلال دفعه بالادلة التي
يتفق عليها المسلمون.
قال تعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى (1)
أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى
(3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ
اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا
يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى
(9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10)} [عبس : 1 - 10]، وحاصل سبب نزول
هذه الايات من سورة عبس –كما ذكره ابن كثير- هو ان النبي الاكرم
(صلى الله عليه وآله وسلم) كان يوما يخاطبُ بعض عظماء قريش، وقد
طَمع في إسلامه، فبينما هو يخاطبه ويناجيه إذ أقبل ابنُ أم
مكتوم-وكان ممن أسلم قديما- فجعل يسأل رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم عن شيء ويلح عليه، وودَّ النبي أن لو كف ساعته تلك ليتمكن من
مخاطبة ذلك الرجل؛ طمعا ورغبة في هدايته. وعَبَس في وجه ابن أم
مكتوم وأعرض عنه، وأقبل على الآخر، فأنزل الله عز وجل: (عَبَسَ
وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ
يَزَّكَّى) ؟ أي: يحصل له زكاة وطهارة في نفسه. (أَوْ يَذَّكَّرُ
فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى ) أي: يحصل له اتعاظ وانزجار عن المحارم ،
(أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى ) أي: أما الغني
فأنت تتعرض له لعله يهتدي، (وَمَا عَلَيْكَ أَلا يَزَّكَّى ) ؟ أي:
ما أنت بمطالب به إذا لم يحصل له زكاة. (وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ
يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى ) أي: يقصدك ويؤمك ليهتدى بما تقول له،
(فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى ) أي: تتشاغل. ومن هاهنا أمر الله عز وجل
رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ألا يخص بالإنذار أحدًا، بل يساوى
فيه بين الشريف والضعيف، والفقير والغني، والسادة والعبيد، والرجال
والنساء، والصغار والكبار. ثم الله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم،
وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة!.
وذكر الشنقيطي في تفسيره اضواء البيان
ان سبب نزول هذه السورة هو السبب ذاته باتفاق المسلمين، فاذا كان
محلا الاتفاق فلا داعي لذكر المزيد من الاقوال، وهذا الاتفاق الذي
اورده المفسرون هو مرفوض ولا ينسجم مع نعتقد به في شخصية النبي
الاكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) ورفضه يكون وفقا للموازين الشرعية
التي يعتقد بها المسلمون التي توكن بدورها معيارا لقبول الاراء
ورفضها وهي الادلة الاربعة التي تتفق عليها الامة الاسلامية (القران
الكريم، والسنة النبوية، والاجماع، والعقل).
اولا: القرآن الكريم: كلام الله الذي
لا ياتيه الباطل من بين يديه المعصوم من الزلل، قد نزه النبي الاكرم
عن كل فعل لا يليق بحضرته حيث قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ
عَظِيمٍ} [القلم : 4]، والخلق العظيم بدوره ينفي كل ما اورده
المفسرون في سورة عبس، لان في حقيقة عبس الوجوه ليست من اخلاق
المؤمنين فضلا عن الانبياء ولذلك وصفه الله تعالى به اهل النار قال
تعالى: {ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ
(23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا
إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) } [المدثر :
22-26]، فكيف يعقل بان الله تعالى يصف نبيه بوصف اهل النار، بل وصفه
باعلى درجات الكمال واللين مع المؤمنين قال تعالى: {لَقَدْ
جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا
عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}
[التوبة : 128].
الثاني: السّنة النّبوية: وهي كل ما ورد عن النبي الاكرم (صلى الله
عليه وآله وسلم) من قول او فعل او تقرير، ويعتقد المسلمون اجمع
بانها الدليل الثاني بعد القران الكريم وحجة على كل من امن بهذا
الدين. واذا تصفحنا سيرة النبي من الاقوال والافعال نجدها تتنزه عن
هذا الفعل الذي وصفه المفسرون في سورة عبس، فقد اوصانا النبي
باحاديثه الشريفة عن نعرض عن هذا الخلق فكيف يصف به هو فقال (صلى
الله عليه واله وسلم): (لا تحقرنَّ من المعروف شيئًا، ولو أن تلقى
أخاك بوجه طَلْق)، وقال ايضا: (كلُّ معروف صدقة، وإنَّ من المعروف
أن تلقى أخاك بوجهٍ طَلْق)، وقال ايضا: (تبسُّمك في وجه أخيك لك
صدقة)، وبطبيعة الحال ان الفعل عبس ينافي طبيعة ما ذكره النبي في
احاديثه فكيف يتصور بان النبي يامر بشيء ولا يلتزم به، علاوة على
ذلك افعال النبي لم تناقض هذه الاقوال، فمثلا ان النبي كان طالما ما
عانى من قريش وقد اذوه اذى بالغا حتى انه (صلى الله عليه واله وسلم)
قال: (ما أوذي نبي بمثل ما أوذيت)، فقد رموه بكل ما هو مشين وفي
نهاية الامر دعا لهم ولم يدعو عليهم فقال: (اللهم اهدِ قومي فإنهم
لا يعلمون)، بعكس ما دعا النبي كما نصه القران بقوله تعالى:
{وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ
الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح : 26].
الثالث: الاجماع: وهو اتفاق أمة محمد
صلّى الله عليه وآله وسلم) خاصة على أمر من الأمور الدّينية. ولا
اظن بان مسلم اعتقد بنبوة نبي يرضى لنبيه ان يتذمر من شخص ضرير اراد
الهداية فاعرض عنه بوجهه مكفهر. فالجاهلية قبل الاسلام هي من شهدت
بخلق النبي الاكرم وطيب شمائله وحسن تعامله ولين اريكته. فالاجماع
لا يؤيد ما ذكره المفسرون.
الرابع: العقل: هو القدرة التي انفرد
فيها الإنسان مما تؤهله على استنباط القضايا الكلية وتجعله يمعن
النظر والاستدلال فيها. فهذه القدرة التفكيرية الموجودة في داخل
الانسان المسلم تأبى اتصاف النبي الاكرم بما ذكره المفسرون في سورة
عبس لاننا لو افترضنا وفق العقل بان هناك رجلا عالما جليلا يوعظ
الناس بالاخلاق ويرشدهم وفي يوم اتاه رجلا اعمى يطلب منه موعظة
فنهره وطرده امام الملا، فمن المؤكد بان الصورة التي جمعتها عن ذلك
العالم ستزحزح وتحل مكانها صورة مشوبة بالشك من ذلك الرجل الذي كانت
يدعو ويحث دون تطبيق، فكيف يقبل عقل المسلم الذي يعد حجة على صاحبه
تصرف النبي الاكرم مع ابن ام مكتوم الفهري.
خلاصة القول: بان هذه السورة لم تنزل
بحق النبي الاكرم والنبي منزه عن هذا الفعل، فقد نزلت بشخص اخر حاول
جمعا من المفسرين تحريف الحقائق لسبب او للاخر بغية تزيين صورته
ولكن للاسف وقعوا في المحذور وهو التجاوز على الشخصية النبي الاكرم
(صلى الله عليه وآله وسلم) الذي افضل ما خلق الله في الورى من
الاولين والاخرين .
د . احمد حسن السعيدي