العقل مفهومه وحجيته في الفكر الاسلامي.

2020/01/22


الحمد لله رب العالمين، الصلاة والسلام على اشرف المرسلين، أبي القاسم محمد وآله الطاهرين.
أولاً: تحديد مفهوم العقل.
1-    لغة: قال الخليل بن أحمد الفراهيدي:
(العَقْل: نقيض الجَهْل. عَقَل يَعْقِل عَقْلا فهو عاقل، وعَقَلَ المَعْتُوهُ ونحوه والصَّبيُّ: إذا ادرك وزَكا، وعَقَلْتُ البعير عقلاً شَدَدْت يده بالعِقالَ أي الرِّباط، والعَقْلُ في الرّجل اصطِكاك الرُّكبَتَيْن، وقيل: التِواء في الرِّجْل.
والعَقْل: الحِصْنُ و جمعهُ العُقُول. وهو المَعْقِل أيضاً، وجمعه مَعاقِلُ، قالَ النابغة:
وقد اْعدَدْتُ للحدثانِ حِصْنأ ... لو أنّ المرء تَنْفَعُه العُقولُ
والعاقِلُ من كل شيء: ما تَحَصَّنَ في المَعاقِلِ المُتَمَنِّعَة، وفُلانٌ مَعْقِل قومِه: أي يلجأون إليه إذا حَزَبَهُمْ أمْر، قالَ الفرزدق:
كان المُهَلَّبُ للعِراقِ سَكينةً ... وحيا الرَّبيعِ ومَعْقِلَ الفُرّار).
2-    اصطلاحا:
يعدّ مفهوم العقل من المَفاهيم التي طالَ الجدلُ حوله، فلهذا أختلفت فيه النّظريات وتعدّدت حوله التّعريفات وتنوّعت به الآراء، وتلوّنت منه المواقف نتيجة أختلاف كل صاحب موقف عن غيره في أختياراته المذهبية وإنتماءاته الفكرية، فمنهم من رفعه شأنه وألف فيه ما ألف مبيّن فضله مستنداً في أحاديث عن النَّبِيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) مثل: العقل وفضله لا بي الدنيا البغدادي، واحياء العلوم للغزالي، ومنهم من نقض وطعن في كل ما يروى في ذلك، ومهما أختلفت وتضاربت أو تداخلت الآراء حوله، فإنّها تلتقي جميعاً أمام نقطة مشتركة هي أعتبار العقل النّقطة الأساسية التي ينطلق منها ويتدبر فيها ليستنبط حقائق الأشياء، وهذا ما ذكره القرآن الكريم في آيات عديدة كقوله تَعالى: {لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}، وقوله: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ}، وقوله: {لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}، وقوله: { أَفَلَا يَعْقِلُونَ}، فهذه الآيات وغيرها كلها مدعاة لإمعان التفكر والنّظر والتّحفيز على التّعقل؛ كما أنها تذر كل معاني الجمود الفكر وتعطيل القوة التّفكيرية المودعة في الإنسان، أستعرض بعض منها وفقاً للمدراس الكلامية والفلسفية.
- عرّفه القاضي عبد الجبار: العقل عبارة عن جملة من العلوم مخصوصة، متى حصلتْ في المكلفِ صح منه النّظر والإستدلال والقيام بأداء ما كلّف به.
- وقد عرفه الغزالي: الوصف الذّي يفارق الإنسان به سائر البهائم، وهو الذّي أستعد به لقبول العلوم النظرية، وتدبير الصناعات الخفية الفكرية.
- وقد عرفه المازندراني بأنّه: قوة نفسانية وحالة نورانية بها يدرك الإنسان حقائق الأشياء ويميز بين الخير والشر وبين الحق والباطل، ويعرف أحوال المبدأ والمعاد.
وعليه يمكن إستنتاج مما تقدم من المعنيين اللغوي والإصطلاحي أمور هي:
أ‌-     العقل هو الكائن المانع من الوقوعِ بالشّر.
ب‌-    العقل هو كائن مجرد عن الماديات وذات حقيقة قائم بنفس الامر.
ت‌-    العقل هو القدرة التي انفرد فيها الإنسان مما تؤهله على استنباط القضايا الكلية وتجعله يمعن النظر والاستدلال فيها.
ثانيا: حجية العقل:
ذُكرتْ مادة العقل في نحو تسعة وأربعين موضعاً في الكتابِ العزيز، وما ذلكَ إلاّ تأكيداً على أهميته وبياناً لعظمته وأنه هو من تقوم به الحجة على الإنسان وبدونه لا معنى للتكليف مناط التكليف، ومن تلكَ الآيات الكريمات قوله تَعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}، فبَعد ما ذكر الله سبحانه وتَعالى عظيمَ نعمه ووفيرَ قدرته على الخلقِ أعقب نعمه بالتّعقل أي لا يدرك تلكَ الآيات إلاّ قوم فكّروا فيها وعقلوها، وقالَ تَعالى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الذّين لَا يَعْقِلُونَ}، اناطَ اللهُ الشرَ بأولئكَ، ونعتهم بالصمِ البكمِ كونهم لم يعقلوا ما جاءهم الله، وغيرها من الآيات التي تبين ماهية تلكَ الخطورة والمكانة التي رتقاها هذا الكائن في الإنسان.
وقد عرفه الشيخ المظفر بأنه: كل حكم للعقل يوجب القطع بالحكم الشّرعي، أو كل قضية عقلية يتوصل بها إلى العلم القطعي بالحكم الشّرعي، فالعقلُ هو حجةٌ على صاحبه بعد فقدان الأدلة الثلاثة (القرآن الكريم والسّنة والنّبوية والإجماع) التي مرت ذكرها فلا حكم للعقل مع وجودها (فإذا فقدت الثّلاثة فالمعتمد عند المحققين التّمسك بدليل العقل فيها) ، فالعقلُ هو: (الأصل الرابع ... دل العقل على براءة الذّمة عن الواجبات وسقوط الحرج عن الخلق في الحركات والسّكنات قبل بعثة الرّسل عليهم السّلام وتأييدهم بالمعجزات .
وانتفاء الأحكام معلوم بدليل العقل قبل ورود السمع ، ونحن على أستصحاب ذلك إلى أن يرد السمع).
وقد يقال بأن الدّليل العقلي أن كان ظنيًا فهو بحاجة إلى دليل على حجيته، ولا دليل على حجية الظّنون العقلية، وأما إذا كان قطعيًا فهو حجة من أجل حجية القطع ولقد أثبت الأصوليون أنَّ الدّليل العقلي يوجب القطع في الأحكام الشّرعية، وبما أنَّ القطع حجة بذاته ولا يُعقل سلخ الحجية عنه، فالدّليل العقلي حجة ولا يُنكر ذلك إلاّ من يبغي السفسطة.
ووجه السّفسطة هو: كيف لنا ان يثبت الشّريعة دون العقل؟، وكيف نثبت التوحيد دون العقل؟، وكيف نصدق بالنَّبِيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) دون العقل؟، فإذا سلخنا أنفسنا عن حكم العقل، فكيف نصدق بالرّسالة؟ وكيف نؤمن بالشّريعة، بل كيف نؤمن بأنفسنا واعتقاداتها؟، وهل العقل إلا ما عبد الله به؟، وهل يعبد الدّيان الا به؟ بل لا معرّفة سواه، فهو من العلوم الضرورية (إذ شرط إبتداء النظر تقدم العقل).
ثالثا: اقسام الدّليل العقلي:
يقسم علماء الأصول البحث في الدّليل العقلي إلى حقلين، حقل المستقلات العقلية، حيث يستقل العقل وحده بالكشف عن الحكم الشّرعي، وحقل غير المستقلات العقلية، حيث تنضم المدركات العقلية إلى الحكم الشّرعي لتكشف عن حكم شرعي اخر، ويمكن بيان كل من القسمين:
أ‌-    الدّليل المستقل العقلي: المقصود بالاستقلال هو أن تكونَ القضية في صغراها وفي كبراها قضية عقلية، فعند الأستنباط الحكم يتشكل قياس يتألف من صغرى وكبرى، فان كانت الصغرى عقلية والكبرى عقلية أيضاً، هنا يستقل العقل عن الشّرع في أستنباط الحكم الشّرعي.
مثاله: كلُ ما حكمَ العقلُ بحسنهِ حكمَ الشّارع بوجوبهِ، فمثلاً: الصّدق يحكم العقل بحسنه، إذا الصّدق يحكم الشّارع بوجوبه أو تقول: كلُ ما حكمَ العقلُ بقبحه حكمَ الشّارع بحرمته، والكذب يحكم الشّارع العقل بقبحه، فتكون النتيجة ان الكذب يحكم الشّارع بحرمته.
حكم العقل بقبح الكذب صغرى، كلما حكم العقل بقبحه حكم الشّارع بحرمته؛ كبرى، حكم الشّارع بحرمة الكذب نتيجة. فهذه القضية عقلية مستقلة بنفسها.
ب‌-    الدّليل العقلي غير المستقل: المقصود بغير الأستقلال الذّي تكون فيه إحدى المقدمين عقلية، بينما تكون الأخرى شرعية فتكون النتيجة الحاصلة من قياس الأستنباط قد أشترك في توليدها العقل والشرع.
مثاله: لو ألفنا قياس أستنباط من أن وجوبَ شيء يستلزم وجوب مقدمته، ونطبق هذه القاعدة على واجب ما كـ(الصّلاة الواجبة)، فتكون النتيجة (إنّ مقدمة الصّلاة واجبة) أي أن الوضوء الذّي هو مقدمة للصّلاة واجب.
فيكون قياس الأستنباط بهذه الصورة: وجوب الصّلاة صغرى، (وهي حكم شرعي)، ووجوب الشّيء يستلزم وجوب مقدمته الكبرى، (وهي حكم عقلي)، ولهذا سم بالدّليل العقلي غير المستقل.

 د . احمد حسن السعيدي
أخترنا لك
مرجعية القرآن الكريم في استنباط الأحكام الشرعية.

(ملف)عاشوراء : انتصار الدم على السيف