أخلاقية الرضا والتسليم وعلاقتهما بأهل البيت (عليهم السلام) رؤية قرآنية.

2020/01/21

 

 

 من الابحاث التي اولها الاخلاقيون والعرفاء تماماً بالغاً الرضا والتسليم، فسالك إلى الله تعالى لا يمكن أنْ ينهل من غدق المعرفة والايمان اذ لم يتصف بهاتين الصفتين يكن راضٍ ومسلّماً في قرارة أمره ونفسه بأن الامر كله لله وحده لا شريك له، لذلك كانت الصفة البارزة في حال الانبياء ففي البلاء العظيم من قصة ابراهيم واسماعيل (عليهما السلام) قد قص حالهما بأنهما كان كذلك قال تعالى: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات : 103]، وهذا ما كانوا يرجونه من الله تعالى في دعائهم فقد جاء على لسان زكريا (عليه السلام) قال تعالى: {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} [مريم : 6]. وعليه عرّف الرضا بأنه: ترك الاعتراض والسخط باطناً وظاهراً، قولاً وفعلاً. ولم يختلف التسليم كثيراً عن معنى الرضا، فقد عرّف بأنه: عبارة عن ترك الاعتراض في الأمور الواردة عليه، وحوالتها بأسرها لله. فكلا المعنيين يراد منهما ترك الاعتراض ويكون في حال التفويض والتسليم المطلق لله تعالى كونه الالطف والاعلم والابصر به. والرضا والتسليم متفرعان من المحبة التي يكنّها السالك بقلبه لربه وثقة العالية بالله بانه لا يفعل الا الخير به، والعكس صحيح. وقد بيّن الله تعالى هذه الثنائية المتعاكسة في مسالة الرضا، وما تتمخض من نتائج عليها قال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إلى اللَّهِ رَاغِبُونَ} [التوبة : 58-59]، ذكر الله تعالى النتيجة المتفرعة من الرضا الأول وهو السخط على النبي الاكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو بطبيعته سخط على الله تعالى، بينما نتيجة الرضا الثاني هو الرغبة له حباً وشوقاً، ويمكن أنْ اصطلح على معنى الرضا الأول السلبي، والثاني الايجابي.
    والكلام هنا يتعلق بالمعنى الثاني الايجابي لمعنى الرضا والتسليم قد جاء في القرآن الكريم في ثلاثة مقامات هي:
المقام الأول: هو المعنى المتبادر للذهن الذي ينطبق عليه التعريف بأنْ يسلّم العبد ويرضى عن الله سبحانه بغير اعتراض باطناً أو ظاهراً قولا ًأو فعلاً، وقد ذكر سبحانه وتعالى هذا معنى، قال عز من قائل: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء : 65]. ذكر الله تعالى التسليم لهم والرضا بحكم رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو مدعاة للإيمان به، إلاّ إنّ في حقيقة الأمر قد ذكر الرضا أو التسليم من قبلهم فقط، ولم يرد من الله تعالى، بمعنى إنّ وظيفتهم التسليم بمعنى الانقياد التام للحكم ولا يفهم منه بأنّ الله قد رضا عنهم برضاهم عنه.
المقام الثاني: هو في حقيقة ذاته أعلى مقاماً وارفع شأناً من المعنى الأول، وهو ما يعلم منه رضا الله تعالى عن العبد، وبتعبير أخر يكون رضا متبادل بين الله تعالى وبين عبد وليس أحادي الطرف كما مرّ، وقد ذكر الله تعالى هذا المعنى صريحاً، قال عز من قائل: {وَالسَّابِقُونَ الأولونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة : 100]، وقال تعالى ايضاً: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إلى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر : 27-30] فالمعنى راضية بالثواب مرضية عنك في الأعمال التي عملتها في الدنيا، بهذا يتحقق الرضا المتبادل، مما لا شك فيه إنّ المقام الحالي أعلى وأسمى من المعنى السّالف.
المقام الثالث: أما هذا المقام؛ فيختلف اختلافاً تماماً عن سابقيه، لم يكن الأمر يتعلق برضا عبدٍ اتجاه سيده او رضا الرب عن عبده لا. الامرُ أعظم وأهم من ذلك بكثير؛ هو أنّ الله تعالى حصر رضاه برضا العبد، وجعل ملاك الرضا هو رضا العبد نفسه لا رضا الرب، فرضا رب العزة معلق على رضا العبد، وهذا الامر لا مصداق له في العبيد كلهم سوى النبي الاكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته الاطهار (عليهم السلام)، قال تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى : 5]، أيّ يا رسول الله سيعطيك الله ويعطيك حتى ترضى، فرضا الرسول الاكرم ملاكا في تحقيق رضا الله، بعبارة اخرى بأنّ رضا الله تعالى متعلق على رضا النبي الاكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، وربما يقدح في الذهن سؤالٌ مفاده: ما هو العطاء الذي أعطاه الله لنبيه حتى رضيّ بإياه؟.
والجواب موجودٌ في القرآن الكريم، فقد أجاب عليه قال تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر : 1]، والكوثر العطاء الذي رضي به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مهما اختلفت اراء المفسرين فلا نعتقد الا باعتقاد واحد هو الذرية الطاهرة من نسل السيدة الزهراء (عليها السلام)، فيقول العلامة الطباطبائي في تفسيره الميزان (وقد استفاضت الروايات أن السورة إنما نزلت فيمن عابه (صلى الله عليه وآله وسلم) بالبتر بعد ما مات ابناه القاسم و عبد الله، و بذلك يندفع ما قيل: إنّ مراد الشانئ بقوله: (أبتر) المنقطع عن قومه أو المنقطع عن الخير فرد الله عليه بأنّه هو المنقطع من كلّ خيرٍ. و لما في قوله: (إنّا أعطيناك) من الامتنان عليه (صلى الله عليه وآله وسلم)...والجملة لا تخلو من دلالة على أنّ ولد فاطمة (عليها السلام) ذريته (صلى الله عليه وآله وسلم).
وما يدلل ايضا على أن رضا الله قد حصره برضا أهل البيت عليهم السلام قول النبي الاكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) (إن الله ليغضب لغضب فاطمة، ويرضى لرضاها)، وهذه الحديث ورد بحد الاستفاضة من كلا الفريقين، وقد ذكر الامام الحسين (عليه السلام) هذا المعنى عندما عزم الخروج إلى العراق، قال: (...خطّ الموت على ولد آدم مخطّ القلادة على جيد الفتاة، ... رضا اللّه رضانا أهل البيت نصبر على بلائه و يوفينا أجور الصّابرين..).
وختاماً: عدّ أهل الأخلاق رضا العبد وتسليمه لله من طرق الموصلة لمعرفة الله، فهو لا يأتي جزافا يحتاج إلى رياضة روحية تؤدي بصاحبها إلى الرضا والتسليم ويكون وهذا بطبيعته يحمل على المقام الأول الذي أوضحه آنفاً، فما حال صاحب المقام الثالث، فأيّ جهاد جاهد نفسه حتى وصلت إلى تلك الكمالات التي أصبح صاحبها رضاه قيداً في رضا الخالق، وكما اسلفت بأنّ هذا المقام لم يتصف به مخلوق سوى محمد وال محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).

د . احمد حسن السعيدي

images (1)

أخترنا لك
الامام المهدي وعد الله

(ملف)عاشوراء : انتصار الدم على السيف