تفسير (الرحمن الرحيم) وسبب ذكرهما أول القرآن دون غيرهما

2020/06/26

#التفسير (١٥)
#التفسير_١٥

(الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ)

الرحمن:
مأخوذ من الرحمة، ومعناها معروف، وهي ضد القسوة والشدة، وهي أوسع صفات الله وأعمها، وهي من الصفات الفعلية، وليست رقة القلب مأخوذة في مفهومها، بل هي من لوازمها في البشر، وأسماء الله تؤخذ باعتبار الغايات التي هي الأفعال لا باعتبار المبادئ التي هي الانفعالات، قال أمير المؤمنين في نهج البلاغة: (رحيم لا يوصف بالرّقة)، فالرحمة من صفات الله الفعلية كالخلق والرزق، يوجدها حيث يشاء، قال عز وجل: (ربكم أعلم بكم إن يشأ يرحمكم أو إن يشأ يعذبكم)، وقد ورد في الآيات طلب الرحمة من الله سبحانه: (وقل رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين)، عن الإمام الصادق (ع): (وإنّ رحمة الله ثوابه لخلقه).

وقال غير واحد من المفسرين وبعض اللغويين: إن صيغة الرحمن مبالغة في الرحمة تدل على الكثرة، وقيل بأنّ المبالغة من جهة الرحمة عل الخلق، لا من جهة اتّصافه تعالى بها، لأن صفاته غير محدودة فلا مبالغة فيها، وكلمة (الرحمن) في جميع موارد استعمالها محذوفة المتعلق، فيستفاد منها العموم وأن رحمته وسعت كل شئ.

وكلمة (الرحمن) بمنزلة اللقب من الله سبحانه، فلا تطلق على غيره تعالى، ومن أجل ذلك استعملت في كثير من الآيات الكريمة من دون لحاظ مادتها قال سبحانه: (إن يُردنِ الرحمن بضُرِّ لا تغنِ عني شفاعتهم شيئاً ولا يُنقذون).

عن رسول الله (ص) قال: (إنّ لله عز وجل مائة رحمة، وإنه أنزل منها واحدة إلى الأرض، فقسمها بين خلقه، بها يتعاطفون ويتراحمون، وأخّر تسعاً وتسعين لنفسه يرحم بها عباده يوم القيامة).

وقد اعترف الأنبياء والأئمة (ع) وجميع الفلاسفة المتألهين بالقصور عن الإحاطة بمراتب رحمته تعالى الواسعة.

عربية (الرحمن):
قيل: إنها كلمة عبرانية، وأصلها (الرخمان) بالخاء، لكن المقطوع به حسب اللغة والاستعمال أن هذه الكلمة كانت معهودة في الاستعمالات العربية، وهذا لا ينافي كون (الرخمان) عبرانياً، فإنه كثيراً ما يتفق اشتراك الملل المختلفة في اللغة الواحدة من غير أخذ واحد منهم عن الآخر.

وقد يستدل لعدم معهودية هذه الكلمة في عصر القرآن بين الأعراب في تلك الأمصار بقوله تعالى: (وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن...)، فإن السؤال يشهد على أن المخاطبين في مكة المكرمة كانوا لا يعرفون هذه الكلمة،
لكن كلمة (الرحمن) كانت في الجاهلية معهودة بين الشعراء، فلا يمكن أن يكون الاستفهام في الآية على معناه الحقيقي، والظاهر أنه في مقام أن الناس في هذا الموقف من الرذالة، فإذا قيل لهم: اسجدوا للرحمن، قالوا: وما الرحمن؟
ولو قيل: عبرانيتها لا تنافي هذه الاستدلالات، لأن هذه الكلمة من أصلها عبرانية، وانتقلت إلى العربية قبل الإسلام، قلنا: نعم، إلا أن ثبوت أخذ العرب عنها، يحتاج إلى الدليل، ولا دليل على دخول الكلمات العبرانية في العربية.

الرحيم:
صفة مشبهة، ومن خصائص هذه الصيغة أنها تستعمل غالباً في اللوازم غير المنفكة عن الذات وتدل على لزوم الرحمة للذات وعدم انفكاكها عنها، وتدل على الاسقرار والثبوت والدوام.

ثم إنه قد ورد في بعض الروايات: أن (الرحمن) اسم خاص ومعناه عام وأما لفظ (الرحيم) فهو اسم عام، ومعناه خاص ومختص بالآخرة أو بالمؤمنين، لكنه قد استعمل في القرآن الكريم لفظ الرحيم من غير اختصاص بالمؤمنين أو بالآخرة ففي الكتاب العزيز: (فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم) و (نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم) و (إن الله بالناس لرؤف رحيم) وغيرها، وفي بعض الأدعية والروايات: رحمن الدنيا الآخرة ورحيمهما، فضلاً عن أن الله سبحانه محيط بجميع العوالم والأزمنة، نعم يمكن إطلاق ذلك بلحاظ النسبة الى المخلوق.

ويمكن أن يوجه هذا الاختصاص بأن الرحمة الإلهية إذا لم تنته إلى الرحمة في الآخرة، فكأنها لم تكن رحمة، وما جدوى رحمة تكون عاقبتها العذاب والخسران؟ فإن الرحمة الزائلة تندك أمام العذاب الدائم لا محالة، وبلحاظ ذلك صح أن يقال: الرحمة مختصة بالمؤمنين أو بالآخرة.

نعم إن إفاضة الوجود على الموجودات هي من مظاهر الرحمة الرحمانية التي خرج بها ما سواه من العدم الى الوجود، ثم إنّ كل نوع وصنف من الموجودات له خصوصية لا توجد في غيره، كخصوصية المؤمن من الإنسان، وهذه الخصوصية مورد رحمته الرحيمية.

حول ذكر (الرحمن) و(الرحيم) معاً:
من اللطائف الكلامية التوكيد، وهو على أنحاء:
فقد يكون بتكرار اللفظ الواحد، وأخرى بتكرار اللفظين المترادفين، وثالثة بالحروف، فالرحيم توكيد النعت السابق، وهذا ما يناسبه تعالى فإنه بالرحمة أعرف وأشهر من الغضب وأمثاله، حتى ورد: (قد سبقت رحمته غضبه).

في تقديم (الرحمن) على (الرحيم):
قيل لأن (الرحمن) من اللوازم الذاتية وإن لم تكن عين الذات إلا في جنابه تعالى ولذلك قدّم على (الرحيم)، لكونه صفة فعل، أو لأن (الرحمن) مستخدمٌ علماً ووصفاً، فناسب التوسيط بين الإسمَين، أو لأن (الرحمن) لما دلّ على أصول النعم، ذكر (الرحيم) ليشمل ما يخرج منها، أو لتقدّم نعم الدنيا.

 

لِمَ لَمْ ترد بقية صفات الله في البسملة؟
في البسملة ذكرت صفتان لله فقط هما: الرحمانية والرحيمية، فما هو السبب؟
الجواب يتضح لو عرفنا أن كل عمل ينبغي أن يبدأ بالاستمداد من صفة تعم آثارها جميع الكون وتشمل كل الموجودات، وتنقذ المستغيثين في اللحظات الحساسة، ومن جانب آخر نرى الأنبياء وأتباعهم يتوسلون برحمة الله في المواقف الشديدة الحاسمة، من الطبيعي أننا - حين نتضرع إلى الله - نناديه بصفات تتناسب مع تلك الحاجة، فعيسى (ع) حين يطلب من الله مائدة من السماء، يصف الله: (...وأنت خير الرازقين)، ونوح (ع) حين يدعو الله في حط رحاله يقول: (وأنت خير المنزلين)، وزكريا نادى ربه لدى طلب الولد الوارث قال: (وأنت خير الوارثين).

وأنّ وجود الإنسان وبقاءه يتوقف على رحمة الله فكل فكرة تختلج في ذهنك وكل نفس تتنفسه وكل نبضة قلب تتوقف على إمداد مباشر من الله سبحانه ولو انقطع الفيض الإلهي لحظة لتوقف وانتهى كل شيء.

وكذلك بعث الرسل والأنبياء وإنزال القرآن الكريم هو من رحمته تعالى إذ لا حاجة لله سبحانه بذلك فهو الغني المطلق بل كل ذلك من رحمته سبحانه، فكان الحري أن تبدأ كل سورة في هذا الكتاب بصفة الرحمة.

ولأن الحكام غالباً على مر العصور يتّسمون بالقسوة والظلم والجبروت، ليس فقط في دائرة المجتمع الكبير كالدولة بل حتى في المجتمع الصغير كالأسرة، والتركيز على صفة الرحمة إلفات الى أن الله سبحانه رغم كون كل شيء بيده ليس كسائر الملوك والحكام بل هو منبع اللطف والرحمة ومعدن الكرم والجود.

إذن للبدء بأي عمل ينبغي أن نتوسل برحمة الله الواسعة، وهل هناك أنسب من هذه الصفة لتحقق النجاح في الأعمال، وللتغلب على المشاكل والصعاب؟!

والقوة التي تستطيع أن تجذب القلوب نحو الله وتربطها به هي صفة الرحمة، إذ لها طابعها العام مثل قانون الجاذبية، ينبغي الاستفادة من صفة الرحمة هذه لتوثيق العرى بين المخلوقين والخالق.

المؤمنون الحقيقيون يطهرون قلوبهم بذكر البسملة في بداية كل عمل من كل علقة وارتباط، ويرتبطون بالله وحده ويستمدون منه العون، ويتوسلون إليه برحمته التي وسعت كل شئ، والبسملة أيضا تعلمنا أن أفعال الله تقوم أساساً على الرحمة، والعقاب له طابع استثنائي لا ينزل إلا في ظروف خاصة، كما نقرأ في الأدعية المروية عن آل بيت رسول الله: (يا من سبقت رحمته غضبه)، المجموعة البشرية السائرة على طريق الله ينبغي أن تقيم نظام حياتها على هذا الأساس أيضاً، وأن تقرن مواقفها بالرحمة والمحبة، وأن تترك العنف إلى المواضع الضرورية.

نختم بهذه الرواية:
عن أمير المؤمنين (ع): (رحيم بعباده المؤمنين، ومن رحمته أنه خلق مائة رحمة، وجعل منها رحمة واحدة في الخلق كلهم، فبها تتراحم الناس، وترحم الوالدة ولدها، وتحن الأمهات من الحيوان على أولادها، فإذا كان يوم القيامة، أضاف هذه الرحمة الواحدة إلى تسع وتسعين رحمة، فيرحم بها أمّة محمد (ص) ثم يشفعهم فيمن يحبون له الشفاعة من أهل الملة،
حتى أن الواحد ليجيء إلى مؤمن من الشيعة، فيقول له: اشفع لي! فيقول له: أي حق لك عليّ؟ يقول: سقيتك يوماً ماءً، فيذكر ذلك، فيشفع له، فيشفع فيه،
ويجيء آخر فيقول: أنا لي عليك حق فاشفع لي! فيقول: وما حقك؟ فيقول: استظللتَ بظل جداري ساعة في يوم حار، فيشفع له فيشفع فيه، فلا يزال يشفع حتى يشفع في جيرانه وخلطائه ومعارفه،
وإن المؤمن أكرم على الله تعالى مما يظنون.

المصادر/
١- البيان في تفسير القرآن، السيد أبو القاسم الخوئي.
٢- مواهب الرحمن في تفسير القرآن ج١، السيد عبد الأعلى السبزواري.
٣- التدبر في القرآن، السيد محمد رضا الشيرازي.
٤- الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل ج١، الشيخ ناصر مكارم الشيرازي.
٥- تفسير القرآن الكريم ج١، السيد مصطفى الخميني.
٦- الجوهر الثمين في تفسير الكتاب المبين ج١، السيد عبدالله شبر.
٧- تفسير كنز الدقائق وبحر الغرائب ج١، الشيخ محمد بن محمد رضا القمي المشهدي.
٨- تفسير البيان في الموافقة بين الحديث والقرآن ج١، السيد محمد حسين الطباطبائي.

الباحث المحقق t.me/Albaaheth
أخترنا لك
نظرية شكر المنعم

(ملف)عاشوراء : انتصار الدم على السيف