#العقيدة_١٥
الوظيفة الفطرية تجاه الدين في حال استقرار الباحث على الشك في حقّانيته بعد البحث الجاد:
وفي هذه الحالة يكون الباحث قد قام بواجبه المعرفي وهو البحث، ثم انتهى الى الشك، وجلّ من لا يثق بحقانية الدين إنما هو على الشك دون الجزم، وهو معروف بالإتجاه اللاأدري، إذ من الصعب جداً الجزم بعدم حقانية الدين كما ذكرنا في بحث #العقيدة_١٣، فقد يظن البعض أن الباحث غير ملزم وهو معذور لأنه أدى وظيفته في البحث ولم يصل لنتيجة، لكن الصحيح أنه في حال احتمال الباحث لحقانية الدين أن يراعي التعاليم الدينية لخطورة المحتمَل البالغة، وقد بينّا ذلك في بحث #العقيدة_٨.
واشتهر هذا الموقف عن الرياضي الفرنسي باسكال (١٦٢٣-١٦٦٧م) فقد احتجّ باستخدام حساب الاحتمالات، وقد احتجّ بنفس الإحتجاج الإمام الصادق والإمام الرضا (ع) قبل باسكال بعدّون، حيث ورد في الكافي عن الإمام الصادق (ع) وهو يحاور زنديقاً: (إن يكن الأمر كما تقول -وليس كما تقول- نجونا ونجوت، وإن يكن الأمر كما نقول -وهو كما نقول- نجونا وهلكت)، أي إن لم يكن الله موجوداً فلن يضرنا شيء ولا أنت، ولكن إن كان موجوداً فعلاً -وهو الحق- فزنا بالآخرة وهلكت بالعذاب.
وقد يشير القرآن الكريم الى ضرورة مراعاة الاحتمال الخطير في حقانية الدين في عدة آيات منها قوله تعالى: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) فالتعبير بالرجاء يستعمل للاحتمال دون اليقين للإشارة الى أنه كافٍ في تحفيز الإنسان في حال احتماله.
ومنها قوله تعالى: (لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ) وفيها دلالة على أن عدم الاهتمام بالدين واليأس منه في حال الجزم لا في حال الاحتمال الرجاء.
ومنها (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) وقد يستفاد من الآية -فيما لو كان الظن فيها في مقابل اليقين- الى أن الظن في هذه الحقائق كافٍ في ترتيب الأثر اللائق والإعتناء بها.
ومنها (قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي...) ففي الأسلوب إشارة الى أنه ينبغي الاكتراث بالاحتمال في حقانية الدين.
وهذا اللزوم هو على أساس الحكمة فإنّ درجة المحتمل خطيرة بل قد لا يمكن للإنسان فرض محتمل يكون أخطر من هذا المحتمل، إذ إن من يعمل سوءاً يجزى به في الآخرة، والمثقال في عالم الدنيا ينتج أضعافاً في الآخرة، ومدة عالم الآخرة غير محدودة، وهذا وحده كافٍ في أن يجعل أي محتمل مهماً،
وعلى أساس الفضيلة فإن عظمة حق الخالق والمنعم المحتمل حسب الفرض يقتضي الاهتمام به وتجنب ما يكون عقوقاً وكفراناً بالنسبة إليه.
وبعد ذلك فإن في عدم الاهتمام باحتمال قانية الدين كما لو أنكر واستبعد هذا الاحتمال، أو لم يعي خطورة المحتمل، وهذا من المحاذير الفكرية التي يبتلي بها الإنسان.
عن الإمام علي بن أبي طالب (ع): (لو تعلمون ما أعلم مما طوي عنكم غيبُه، إذاً لخرجتم إلى الصُعُدات تبكون على أعمالكم، وتلتدمون على أنفسكم ولتركتم أموالكم لا حارس لها ولا خالف عليها، ولهمّت كل امرئٍ نفسه لا يلتفت إلى غيرها،
ولكنكم نسيتم ما ذُكّرتم، وأمنتم ما حُذّرتم، فتاه عنكم رأيكم، وتشتت عليكم أمركم)، فهذا هو الاهتمام اللائق بهذه الحقائق، لكنه نشير الى أن الجازم والمعتقد بحقانية الدين لا يستطيع الاهتمام اللائق به لأنه يجب أن يوفّر ضرورات ومستلزمات حياته، فهو لا يستطيع الاهتمام به أكثر مما لو اهتمّ به المحتمل للدين، وعلى ذلك يتساوى الجازم والمحتمِل فيما يليق بهما من الاهتمام، فعلى الشّاك أن يهتم به كما لو كان جازماً عالماً.
شبهات ونقدها:
١- قد يُدّعى أن الاحتمال بحقانية الدين ضعيف جداً فلا يجب الاهتمام به، لكن ذلك خاطئ بوضوح لما عرفت من أنه كلما زادت خطورة المحتمل كفى في ترتيب الأثر عليها الاحتمال القليل، وقد عرفت أن حقائق الدين هي أخطر ما يواجه الإنسان لخلوده في الآخرة، ثم إن احتمال حقانية الدين ليس ضعيفاً بالنظر الى مجموع المؤشرات على صدقه.
٢- قد يُدّعى عدم إمكان ترتيب الأثر على احتمال حقانية الدين وذلك لأن المطلوب هو الإيمان القلبي وهو غير موجود فيكون التكليف بغير المقدور، لكن ذلك خاطئ، فإن عدم إمكان الإيمان بأصول الدين (وجود الله، ورسالته الى الإنسان، وبقاء الإنسان بعد موته) لا يعني عدم وجود وظيفة تجاهها بل قد يكون مكلّفاً بالتالي:
٤- قد يُدّعى ثقل مؤونة الدين من قبيل أنه يحدد الحرية يهدد التعايش السلمي وغير ذلك فلا يكون الاحتمال فاعلاً في حقه، لكن هذا غير صحيح إذ إنه أولاً: قوة المحتمل وهي الخلود بعد الموت أقوى من المؤونة المفروضة، ثانياً: أنه إذا كانت الرؤية الدينية صائبة فهي تنطلق من فطرة الإنسان في أحكامها، أما ما يُتراءى فساده فهو ليس ذاتياً، فقد يوجه الاقتضاء الفطري الى منحى فاسد أو الإفراط أو التفريط فيه، ثالثاً: إن للدين معونة كبيرة للإنسان في هذه الحياة.
فالدين يحفز العقلانية العامة وينميها ويقدّم نظريات علمية واردة من قبيل تفسيره أصل وجود الكون والمخلوقات، وهو يُرضي تطلّع الإنسان في البقاء بعد هذه الحياة، ويثير روح الحكمة في الإنسان، ويروّج روح الفضيلة والأخلاق الحسنة في الوسط الإنساني، ويحث على مقومات السعادة المادية والمعنوية من دون إفراط وإسراف، ويبني في تقنينه على تحري المصالح العامة، وكل ذلك سيتم بحثه بالتفصيل في البحوث القادمة بعون الله تعالى.
وبذلك نكون قد انتهينا من البحث في هذا الموضوع، ووضحنا وظيفة المرء تجاه الدين، من بعد إثبات ضرورة البحث عن الدين وأنه لا يُعذر المرء أبداً في عدم بحثه.
المصادر/
١- منهج التثبت في الدين ج٣، ضرورة المعرفة الدينية، السيد محمد باقر السيستاني.
الباحث المحقق t.me/Albaaheth