#السيرة (١٤)
دين وعقيدة العرب في شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام:
عندما رفع النبي إبراهيم لواء التوحيد في البيئة الحجازية، واعاد بناء
الكعبة المعظمة ورفع قواعدها بمعونة ابنه اسماعيل، تبعه في ذلك طائفة
من الناس ممن أنار الله به قلوبهم، لكنه غير معلوم إلى أي مدى استطاع
(ع) أن يعمم دین التوحيد، غير أن من المعلوم انه أصبحت تلك المنطقه
مسرحاً للوثنية، فقد كانت الطبقة المثقفة من العرب تعبد الكواكب
والقمر، حيث ذكر أحد المؤرخين أن (بنو مليح) من خزاعة يعبدون الجن
وكانت (حمير) تعبد الشمس، و(كنانة) تعبد القمر، و(تميم) الدبران،
و(لخم) و(جذام) المشتري، و(طي) سُهيلاً، و(قيس) الشِعری، و(أسد)
عطارداً، وقد ذكر القرآن الكريم عن عبادة قوم سبأ للشمس.
أما عامة الناس فقد كانوا يعبدون -مضافاً إلى الصنم الخاص بالقبيلة أو
العائلة- ثلاثمائة وستين صنم، وكانوا ينسبون أحداث كل يوم من أيام
السنة إلى واحد منها.
وقد دخلت عبادة الأصنام والأوثان في مكة بعد على يد عمرو بن لحي كبير
خزاعة، عندما كان يتولى أمر البيت، وكان قوله فيهم كالشرع المتبع، حيث
سافر الى الشام وأحضر معه الصنم المسمى هبل، وكان أول صنم وضع على
الكعبة، قال الشاعر: يا عمرو إنك قد أحدثت آلهة * شتى بمكة حول البيت
أنصاباً، وكان للبيت ربّاً واحداً أبداً * فقد جعلت له في الناس
أرباباً.
وقال بعض المحققين أن سر عبادتهم للأصنام بسبب الصراعات والحروب بينهم
مما أدى لتفرقهم وأخذت كل طائفة منهم حجراً من الحرم تعظيماً له وحيث
ما نزلوا طافوا به، حتى أدى بهم الأمر الى عبادتهم ونسيان دين النبي
إبراهيم وإسماعيل، أما عمرو بن لحي فهو أول من وضع الأصنام على
الكعبة، ويشهد لذلك أن مجيئه بالصنم من الشام لا بد له من قبول عند
الناس.
وكانوا يعتبرون الأصنام في بداية الأمر شفعاء إلى الله ووسطاء بينه
وبينهم، ولكنهم تجاوزوا هذا الحد في مابعد حتى صاروا يعتقدون شيئاً
فشيئاً بأنها اصحاب قدرة ذاتية مستقلة، وأنها بالتالي آلهة
وأرباب.
وكانت الاصنام المنصوبة حول الكعبة تحظى باحترام جميع الطوائف
العربية، ولكن الأصنام الخاصة بالقبائل كانت موضع احترام جماعة خاصة
فقط، ولأجل أن تبق حرمة هذه الأصنام والأوثان الخاصة محفوظة لايمسها
أحد بسوء كانوا ينشؤون لها أماكن وبيوت خاصة، وكانت سدانة هذه البيوت
والمعابد تنتقل من جيل إلى آخر بالوراثة.
أما الأصنام العائلية فقد كانت العوائل تقتنيها للعبادة كل يوم وليلة،
فاذا أراد احدهم السفر كان يتمسح به قبل أن يخرج، وكان الرجل إذا سافر
فنزل منزلاً أخذ أربعة أحجار فنظر إلى أحسنها، واتخذه ربا وجعل ثلاثة
أثافي لقدره، وإذا ارتحل ترکه.
وكان من شغف أهل مكة وحبهم للكعبة والحرم أنه كان لا يسافر منهم أحد
إلا حمل معه حجراً من حجارة الحرم تعظيماً للحرم، فحيثما حلّوا نصبوه
وطافوا به كطوافهم بالكعبة، ويمكن أن تكون هذه هي الأنصاب التي فُسرت
بالاحجار العادية غير المنحوتة وتقابلها الأوثان، وهي الاحجار
المنحوتة على هيئة خاصة، وأما الأصنام فهي المعمولة من خشب أو ذهب أو
فضة على صورة انسان.
لقد بلغ خضوع العرب أمام الأصنام والأوثان حداً عجيباً جداً، فقد
كانوا يعتقدون بأنهم يستطيعون کسب رضاها بتقديم القرابين اليها،
وكانوا بعد نحر الهدايا يلطخون وجوه الأصنام ورؤوسها بدماء تلك
الهدايا، وكانوا يستشيرونها في مهام امورهم، وجلائل شؤونهم، فإذا
أرادوا الوقوف على مستقبل الأمر الذي تصدوا له ومعرفة عاقبته استقسموا
بالأزلام، وهي سهام يخرجونها مكتوب عليها إفعل أو لا تفعل.
وخلاصة القول، أن الوثنية كانت العقيدة الرائجة في الجزيرة العربية،
وكانت الكعبة المعظمة محطّ أصنامهم وآلهتهم المنحوتة، فقد كان لكل
قبيلة في هذا البيت صنم، وبلغ عدد الأصنام الموضوعة في ذلك المكان
المقدس أكثر من (٣٠٠) صنم في مختلف الاشكال والهيئات والصور، بل كان
النصارى أيضاً قد نقشوا على جدران البيت وأعمدته صوراً لمريم والمسيح
والملائكة، (وذكرنا تفصيل ذلك في البحث التاسع).
وكان من جملة تلك الأصنام (اللات) وتعتبر أم الآلهة، وكان موضعها
بالقرب من الطائف، وكانت من الحجر الأبيض، وهي ترمز للشمس، وقيل إنه
رجل صالح صنعوا له تمثالاً حين موته و(وَدّ) ويرمز للقمر، وهو إلههم
الأكبر، و(مناة) وهي عندهم إلاهة الموت والأجل وموضعها بين مكة
والمدينة، و(العُزّى) هي شجرة شرق مكة باتجاه الطائف، وكانت قريش
تعتبر هذه الأصنام بنات الله ويختص عبادتها بقريش، ولقد اصطحب ابو
سفيان معه يوم أُحُد اللات والعزى.
و يروى أنه مرض ذات يوم (أبو أُحيحة) وهو رجل من بني أمية، مرضه الذي
مات فيه، فدخل عليه ابو لهب يعوده، فوجده يبكي، فسأله عن السبب أمن
الموت؟ قال: لا ولكني اخاف أن لا تُعبد العُزّى بعدي!
وكانت لقريش أصنام في جوف الكعبة وحولها وكان اعظمها عندهم (هبل)
بصورة إنسان مصنوع من العقيق الأحمر ويده من ذهب، وكانت كل عائلة تعبد
صنماً خاصاً بها مضافاً إلى صنم القبيلة وكانت المعبودات تتراوح بين
الكواكب والشمس والقمر والحجر والخشب،والتراب والتمر والتماثيل
المنحوتة المختلفة في الشكل والهيكل والاسم المنصوبة في الكعبة أو في
سائر المعابد.
لقد كانت الأصنام جميعها أو أغلبها معظمة عند العرب، وجرت عادة بعض
القبائل آنذاك أن تختار من بين أفرادها كل سنة شخصاً في مراسيم خاصة
ثم تذبحه عند أقدام أصنامها وتقبر جسده على مقربة من المذبح.
قال زيد بن عمر:
أربّاً واحداً أم ألف رب * أدين أذا تقسّمت الأمور
عزلتُ اللات والعُزى جميعاً * كذلك يفعل الجَلِدُ الصبور
فلا عُزى أدين ولا ابنتيها * ولا صنميْ بني عمرو أزورُ
ولا غنماً أزور وكان ربّاً * لنا في الدهر إذ حلمي يسيرُ
ولكن أعبد الرحمن ربي * ليغفر ذنبيَ الرب الغفور
وقد حدثت بسبب الاختلاف والتعددية في عبادة الأصنام والأوثان،
تناقضات وصراعات وحروب وخسائر مادية ومعنوية.
وانحرف البعض عن الأصنام، منهم الشاعر امرؤ القيس، حيث استسقم عند
الصنم (ذو الخَلَصة) وكانوا يعظموه، وكان طالباً لثأر أبيه فخرج ثلاث
مرات أن لا يدخل في حرب، فكسر السهام وسبّ الصنم وسخر منه وقال: (لو
أبوك قُتل ما عفتني)، ومنهم غاوي بن عبد العُزى، حيث رأى الصنم (سواع)
يبول عليه ثعلبان فوق رأسه، فقال: أربٌّ يبول الثُّعلبان برأسه * لقد
ذلّ من بالت عليه الثّعالب، ومنهم زيد بن عمر المذكور أعلاه، ومنهم
خزاعى بن عبد وكان سادناً لصنم من الأصنام، فارتدّ عنها وأسلم، ومنهم
عبد الرحمن بن أبي سبرة لما سمع بالنبي (ص) حطم صنماً وأقبل على النبي
وأسلم، وعلى رأسهم الأسرة الهاشمية، آباء النبي وأجداده، وهذا ما
سنثبته في بحوث قادمة.
وبالإضافة للوثنية، فقد تفشت الزرادشتية (المجوسية) في بعض القبائل
العربية من تميم والبحرين وعمان واليمن، لقرب دولة الفرس منهم،
والزرادشتية تؤمن بإلهين للخير والشر، (يراجع البحث الثامن في دين
دولة الفرس).
ودخلت المسيحية لجنوب الجزيرة من الحبشة، وانتشرت اليهودية في اليمن
كذلك، وأما شمالها فقد انجذبت القبائل للزرادشتية والمسيحية.
نعم كانت العرب تقدّس الكعبة وتحترمها كثيراً (للتفصيل في ذلك راجع
البحث التاسع).
عقيدة العرب حول المعاد:
كانت رؤية العرب حول مصير الإنسان بعد الموت هي أنه عندما يموت
الإنسان تخرج روحه من جسده على هيئة طائر شبيه بالبوم يسمى عندهم
(الهامة والصدى) ثم يبقى هذا الطائر قريباً من جسد الميت ينوح نوحاً
موحشاً، وعندما یواری الميت يبقى هذا الطائر مقيماً عند قبره إلى
الابد!
قال شاعرهم في ذلك: سُلّط الموت والمنون عليهم * فلهم في صدى المقابر
هام،
ولو قُتل المرء فإن ذلك الطائر ينادي باستمرار: (اسقوني...
اسقوني) أي اسقوني بسفك دم القاتل واراقته، ولا يسكن عن هذا النواح
والنداء الا بعد الانتقام والثأر من قاتله.
قال احدهم في ذلك: فيارب إن أهلك ولم تُروَ هامتي * بلَيلي أمتْ لا
قبر أعطش من قبري،
هذا ما كان عليه العرب قبل الإسلام من الدين والمعتقدات، ومن ذلك تعلم
المعجزة الإجتماعية التي فعلها النبي (ص) من التغيير في المجتمع.
المصادر/
١- سيد المرسلين ج١، محاضرات الشيخ جعفر السبحاني بقلم جعفر
الهادي.
٢- موسوعة التاريخ الإسلامي ج١، الشيخ محمد هادي اليوسفي الغروي.
٣- الصحيح من سيرة النبي الأعظم ج٢، المحقق السيد جعفر مرتضى
العاملي.
٤- موسوعة سيرة أهل البيت ج١، الشيخ باقر شريف القرشي.
٥- تاريخ الإسلام التحليلي، د. جعفر شهيدي.
الباحث المحقق t.me/Albaaheth