منشأ احتمال حصول الضرر المحتمل ودلالة النظرية على وجوب البحث عن الله ونوع الوجوب

2020/03/15

العقيدة (٩)

بيّنا في البحث السابق قاعدة اتباع الحكمة، التي تؤدي الى ضرورة دفع الخطر المحتمل.

منشأ ومصدر حصول احتمال الضرر:
١- المصدر الباطني، بأن يخطر له خاطر يخوّفه ونبّهه من إهمال البحث والنظر، وهذا لا يكون إلا بانتفاء باقي المصادر، وفي حال الضرورة والإلزام.
٢- المصدر البشري، وهو أنّ العاقل إذا نشأ بين الناس سمع اختلافهم في الديانات، وقولهم بوجود خالق يجب أن يُعرف، وفي إهمال المعرفة يستحق العقاب.
٣- المصدر الإلهي، وهو إخبار الأنبياء ومن ينقل عنهم بوجود تكليف من الخالق واستحقاق العقاب على المتخلّف عنه، إذ لا يختلف اثنان على وجود صلحاء عرفتهم البشرية منذ بدايات خلقها بصفتهم مرسلين من الله، أنبأوا بوجود عالم أبديّ بعد هذا العالم الزائل، ولم يكن هؤلاء متهمين بالكذب والإختلاق.
ومن آيات إنباء الله بالعذاب قوله سبحانه: (إنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَن خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَومٌ مَجمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ، وَمَا نُؤَخِّرُهُ إلَّا لِأجَلٍ مَعْدُودٍ، يَوْمَ يَأتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ، فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ، خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ، وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ)

ويُستفاد بعض ذلك من كلام الإمام (ع) مع ابن أبي العوجاء: (إن يكن الأمر كما تقول -وليس كما تقول- نجونا ونجوت، وإن يكن الأمر كما نقول -وهو كما نقول- نجونا وهلكت..).
وفي رواية عن الإمام الصادق (ع) في قول الله سبحانه (فللّه الحجّة البالغة) قال:(إذا كان يوم القيامة قال الله تعالى للعبد: أكنت عالماً؟... وإن قال: كنتُ جاهلاً، قال له: أفلا تعلّمت؟ فيخصمه..).
وعنه (ع): (اتقوا الله وانظروا لأنفسكم فإن أحق من نظر لها أنتم، لو كان لأحدكم نفسان فقدّم إحداهما وجرّب بها استقبل التوبة بالأخرى كان، ولكنها نفس واحدة إذا ذهبت فقد ذهبت والله التوبة..).

دلالة النظرية على ضرورة البحث عن الرؤية الإلهية:
حسب المناشئ التي قدّمناها، وعلى أساس قاعدة حساب الاحتمالات، فإنّ عدم البحث يوجب احتمال الوقوع في الضرر الأخروي جسدياً، أو في عالمنا هذا روحياً (ولو بفقدان الثواب العظيم المحتمل)، ودفعه واجب، فيجب البحث لذلك، وكما بينّا في قاعدة اتباع الحكمة فإنه كلما كان الضرر أعظم وأخطر، كان التحفّظ منه آكد، وهناك تقريب آخر وهو أنّ أحد مناشئ احتمال الضرر الاختلاف في الرؤى بين الناس كما بينّا، فالإنسان إمّا أن يلتزم بجميعهم أو لا، والأول محال لوجود التناقض بينهم، وعلى الثاني فهو إما أن يكون بالطريق اليقيني أو الظني كالتقليد بالعقيدة، وعلى الظني لا يرتفع احتمال الضرر، فيتعين البحث الى حدّ اليقين.

قال الله سبحانه: (وَإن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعضُ الّذِي يَعِدُكُمْ)

تحديد نوع الوجوب:
قلنا أنه (وجوب) أو (لزوم) أو (ضرورة) دفع الضرر المحتمل، فما نوع هذا الوجوب؟ إختار بعضهم الوجوب الفطري، كما بيّنا سابقاً أن قاعدة الحكمة تجري في الإنسان مجرى الدم في عروقه، واختار بعضهم الوجوب العقلي، واختار آخرون الوجوب العقلائي أي اتفاق العقلاء على هذا الأمر، ولا يقال أن بعض العقلاء قد يفعلون الضرر، لأن الضرر محكوم بالنوع والكم حيبما بينّاه في البحث السابق، ونفى البعض الوجوب الشرعي بأقسامه الأربعة، إلا أنه اختار البعض الوجوب الإرشادي، وناقش العلماء فيهم جميعاً ولم نعرف نقاشاً في الوجوب الفطري، وأرجع البعض هذا الوجوب الى غريزة حب الكمال التي ترجع الى الفطرة (وضّحناها في بحوث سابقة)، وأطلق عليها بالميول السامية بدل الغريزة لدخول التفكير فيها.

إشكال:
من أهم الإيرادات التي واجهت نظرية لزوم دفع الضرر المحتمل هو قاعدة قبح العقاب بلا بيان التي تتمتع باليقينية لدى أنصارها، وتنصّ على أنه يستحيل العقاب والمؤاخذة الأخروية على ما لم يقم عليه العلم والبيان، وأُجيب على هذا الإيراد بأنّه لا تناقض بين القاعدتين، ولكل وأنهما تختلفان في موردهما، فمورد قاعدة قبح العقاب بلا بيان هو الشبهة بعد الفحص والبحث واليأس عن العثور على البيان، ومورد قاعدة لزوم دفع الضرر المحتمل هو الشبهة قبل الفحص والبحث عن البيان، وعليه تكون القاعدة الثانية محركةً للبحث على البيان بلا تعارض، ثمّ إنه يكفي في البيان الرافع بالعذر بالوجه المتعارف، ولا أقلّ احتمال ذلك لتظافر الأدلة على وجوب البحث والنظر، ولا ينفع الشكّ عذراً عقلاً.

بقي أن نبيّن أن هذا الدليل لا يوجب المعرفة مباشرةً بل يوجب النظر والبحث، لأنه قد لا يتوصل الى حجة وبيان، وبذلك يندفع الخوف من الضرر بعذره.

مصادر بحث العقيدة (٩)/
١- الرؤية الكونية الإلهية، دراسة في الدوافع والمناهج، الشيخ علي العبود.
٢- الشبهات المعاصرة في الإلحاد وسبل التصدي لها، السيد منير الخباز.
٣- أجوبة الشبهات الكلامية ج١ التوحيد، محمد حسن قدردان قراملكي.
٤- أصول الدين، السيد كاظم الحائري.
٥- أصول العقيدة، السيد محمد سعيد الحكيم.
٦- الإلهيات على هدى الكتاب والسنة والعقل ج١، الشيخ جعفر السبحاني.
٧- الكشكول العقائدي، الشيخ ناصر مكارم الشيرازي.
٨- صراط الحق في المعارف الاسلامية والاصول الاعتقادية ج١، محمد آصف المحسني.

الباحث المحقق
أخترنا لك
المعنى العام لآية البسملة ومعنى كلمة البسملة

(ملف)عاشوراء : انتصار الدم على السيف