علوم القرآن (٢)
أصناف المشككين بالوحي:
لكون الوحي من الظواهر غير المألوفة للإنسان تعرّض إلى مجموعة من
الشبهات والتساؤلات، وفي عصر النهضة المادية في اوروبا واجه
الباحثون الغربيون قضية الوحي بنظرة الريب بل الإنكار، ومن خلاله
طعنوا في الرسول (ص) ورسالة الإسلام، وهذا الموقف منهم يرتبط
بنظرتهم العامة لما وراء الطبيعة إذ حصروا الوجود بعالم المادة، فمن
الطبيعي أن يتنكروا لما وراءه، وهم على ثلاثة أصناف:
الصنف الأول: المتطرفون الذين يتهمون النبي (ص)
بالافتراء بهدف تحقيق مکاسب و مصالح دنيوية، مثل السلطة
والشهرة.
الصنف الثاني: المعتدلون الذين يرون النبي (ص)
عبقرياً ذا شخصية نزيهة وطموحة، رام إنقاذ قومه من حالة الانحطاط
والتخلف بأفكاره السامية التي كان يحملها، ونتيجة لإدراکه تخلف قومه
وعدم تفاعلهم مع أفكاره الإصلاحية قرر الإيحاء لهم أنه مرتبط بالله
تعالى وأنه مرسل من قبله حتى يكونوا أكثر استعداداً لتقبل هذه
الأفكار والدفاع عنها، والبعض من هؤلاء الغربيين يتعاملون مع كل
الأنبياء على أساس هذه الفكرة، ولا يخصّون نبي الإسلام بذلك.
والحقيقة ان هذه الشبهات طُرحت منذ بداية البعثة، فنجد القرآن
الكريم يرد عليها من زوايا مختلفة وبصيغ متنوعة، فتارة يتحدى الإنس
والجن من أن يأتوا بمثل هذا القرآن، وأخرى يؤكد على ارتباط الرسول
بالوحي وانه لا يملك الخيارات، وأخرى يحاججهم بانتظام القرآن وعدم
الاختلاف فيه، وغير ذلك.
ومناقشة الصنفان الأول والثاني تكون بإثبات نبوة نبينا الأعظم (ص)،
(الذي سنبحثه في بحوث العقيدة بالتفصيل) ومن الأدلة التي تعنينا في
بحثنا هذا إثبات عالم الروح وأن العالم غير منحصر بالماديات
وبالتالي إثبات وجود الوحي، وسنبحث هذا الأمر في البحث المقبل،
وسنقتصر في هذا البحث بالرد على الصنف الثالث.
الصنف الثالث: الباحثون المعترفون بعالم الروح
لكنهم فسّروا الوحي بأنه عبارة عن إلهامات روحية تنبعث من داخل
الوجود، التي قد تظهر متجسدة خارجاً فيحسبونها ملائكة الله، هبطت
عليهم من السماء، وما هي إلا تجلي شخصيتهم الباطنية، فتعلمهم ما لم
يكونوا يعلمونه من قبل.
ويبدو أن الباعث إلى هذا التفسير للوحي، هو ما وجدوه من مناقضة بعض
محتويات الكتب المقدسة للأديان الأخرى، وبالذات التوراة والإنجيل
لحكم العقل والعلم الحديث، فبرروا هذا التناقض بأنه ناشیء من اختلاط
هذه الإيحاءات النفسية على الرسول، بسبب ضعف في شخصيته الروحية،
وعدم بلوغه المستوى الرفيع من السمو والشفافية لإدراك كل الواقعيات
على ما هي عليه.
والجواب على هذا الإدعاء:
أولاً: انه كيف ينسجم السمو الروحي والعبقرية المفروضة للأنبياء
-التي يعترفون بها- مع هذا الاختلاط الغريب عليهم بحيث لا يميزون
بين الإيحاءات النفسية وتلقي الوحي الإلهي خاصة ما يكون توسط الملك
الذي يشاهدونه؟! مع أن الإنسان العادي منزه عن هذا الاضطراب، خصوصاً
مع ملاحظة أن الوحي يلازم الأنبياء والرسل منذ بعثتهم إلى وفاتهم،
وليس حالة آنية طارئة، فكيف يتصور هذا الاختلاط عليهم طيلة هذه
الفترة؟!
ثانياً: انا نلاحظ نمطاً من الآيات لا يعقل استنادها إلى سمو
الشخصية الباطنية للأنبياء، مثل آیات العتاب للأنبياء، وكذا بعض
آيات الأحكام التعبدية الصرفة التي لا ترتبط بالجانب الروحي،
والآيات التي تشير إلى جوانب من الحياة الأخروية، خاصة المرتبطة
بجهنم وعذاب الفاسقين، وغيرها من الآيات التي لا ترتبط مضامينها
بالسمو الروحي والشخصية الباطنية للإنسان.
ثالثاً: ان هذا التفسير للوحي نشأ من ملاحظة اضطراب کتب العهدين
ونحوها ومناقضتها العقل والعلم، وهذا لا ينطبق على القرآن الكريم،
البعيد عن هذا التناقض والاضطراب (كما سيأتي بحثه).
رابعاً: ان سلوك الرسول (ص) يختلف تماماً عن سلوك الذين يفقدون
التوازن الفكري بسبب اختلاط الإيحاءات النفسية وعدم استيعابهم
لمفردات العلوم الغريبة التي يهتمون بها، فقد كان معروفاً بشخصيته
المتميزة و مواقفه الصلبة وقراراته الصائبة في الظروف الحرجة التي
واجهته خلال مسيرته الرسالية، وتنزهه عن الاضطراب السلوكي.
وتشير الى ذلك بعض النصوص الواردة عن أهل البيت (ع)، منها ما ورد عن
زرارة بن أعين أنه قال للإمام جعفر بن محمد الصادق (ع): كيف لم يخف
رسول الله (ص) فيما يأتيه من قبل الله أن يكون ما ينزغ به الشيطان؟
فقال: (إنّ الله إذا اتخذ عبداً رسولاً أنزل عليه السكينة والوقار
فكان الذي يأتيه من قبل الله مثل الذي يراه بنفسه).
وسُئل الإمام الصادق (ع): كيف علمت الرسل أنها رسل؟ قال: (كُشف عنها
الغطاء).
المصادر/
١- علوم القرآن دروس منهجية، السيد رياض الحكيم.
الباحث المحقق