السيرة (٦)
قبل الدخول في السيرة النبوية، نبيّن وبشكل مختصر جداً التحريف الذي
حصل في سيرة النبي من قبل السلطات الحاكمة ودوافعه.
إنّ تعرض تاریخ خاتم الأنبياء وسنّته من بعده للتحريف حقيقة لا يشك
فيها أحد ذلك لأننا لو رجعنا إلى المصادر المعتبرة لدى المسلمين حول
تاريخ النبي وسنّته لوجدنا الروايات مختلفة ومتناقضة في وصف كثير من
الوقائع التاريخية أو السلوكية للرسول وهذا التناقض والاختلاف واسع
وكبير إلى درجة أننا نستطيع أن نكوّن من مجموع هذه الأخبار صورتين
متناقضتين للنبي (ص)، وهاتان الصورتان كالآتي:
الصورة الأولى:
تُظهر النبي (ص) مثلاً أعلى في كل ميادين الحياة في الخُلق والحياء
وحسن التعليم والمعاملة وعدم الإنتقام لنفسه وغير ذلك من السلوكات
العالية، معصوماً عن الخطأ والزلل وأكمل الخلق وأفضلهم، فرض الله على
الناس الاقتداء به.
الصورة الثانية:
تظهره (ص) شخصاً أقل من مستوى الإنسان الإعتيادي في مختلف مجالات
الحياة فهو يلعن الآخرين من غير إستحقاق، ولا يصبر عن النساء، الأمر
الذي يفرض عليه أن يصطحب معه في كل غزوة واحدة من نسائه، ويترك جيشه
ليتسابق مع زوجته، ويبول واقفاً! وأنه متردد في تلقي الوحي، يشك في
نفسه من أن الشياطين قد عبثت به، وزوجته ذات رأي أرجح منه في هذه
القضية الخطيرة، فهي التي تطمئنه وتثبته على النبوة وتأخذه إلى ورقة
بن نوفل النصراني ليزيد من قناعته بذلك، ويهوى زوجة ابنه بالتبني،
وينزل الوحي مخالفاً لرأيه ومصوّباً لرأي غيره فيبكي، ويشرب النبيذ!
وينسى موعد ليلة القدر، ولا يحفظ سورة الروم جيداً.
هذه هي الصورة التي يستطيع أن يستخلصها من يراجع هذا الركام الهائل من
المجعولات، إذا كان خالي الذهن من الضوابط والمعايير الحقيقية،
والمنطلقات الأساسية.
الخطة الخبيثة:
اما لماذا كل هذا الافتراء على الرسول الأكرم (ص) فنعتقد أن الأمر لم
يكن عفوياً، بل هو خطة مرسومة تهدف إلى طمس معالم الشخصية النبوية،
والتعتيم على خصائصها الرسالية الفذة، ليكون ذلك مقدمة لهدم الإسلام
من الأساس، خصوصا من قبل الحكم الأموي البغيض وأعوانه، والدليل على
ذلك أنهم لم ينكروا على من سبّ النبي أمامهم، واعترضوا على الكميت
لمدحه النبي، وأنّ معاوية كان يقول بصراحة أنه يريد دفن ذكر النبي،
ويعتقد أنه هو من وضع اسمه في الأذان لا بأمر الله، ومنعوا من التسمي
باسم النبي، ويعيرون الصحابة بصحبتهم للنبي.
أما قيمة سنّة النبي عندهم فلا شيء، فإنه أنكروا على معاوية أكله
الربا وشربه بآنية الذهب لأن النبي قد حرّم ذلك، فقال أني لا أرى به
بأساً! وكان عثمان يصلي في مِنى دون قصر، حتى أن مالكاً (إمام المذهب
المالكي) كان يجري أحكام التعارض بين روايات الصحابة وروايات الرسول!
وكانوا يعتقدون بأن الخليفة أفضل من الرسول! بل وأكرم منه عند الله!
بل أن الوحي ينزل على الخليفة! حتى صرّح أحدهم باستعداده لنقض الكعبة
حجراً حجراً لو أمره الخليفة بذلك! ثم إن الحجاج لم يكتفي برمي الكعبة
بالحجارة حتى رماها بالعذرة! وسمحوا لمجوسي أن يبني على الكعبة مشربة
خمر! حتى أن عبد الملك بن مروان منع الناس من الحج وبنى قبّة على بيت
المقدس ليطوفوا حولها! حتى أنهم حوّلوا القبلة من الكعبة الى بيت
المقدس! وأن يزيد عندما قرأ آية عذاب ووعيد رمى المصحف وأنشد شعراً
مطلعه: تهددني بجبار...، بل ووصل الحال الى أن يصلي الصحابة
سرّاً!
إن ما تقدّم ليس سرداً لقصص بل هو نصوص منقولة منهم، ومن أراد مصادرها
والمزيد فليراجع الجزء الأول من كتاب الصحيح من سيرة النبي الأعظم
ليطّلع على ذلك عجباً، وأن ما نقلناه غيض من فيض يدلّ على سياسة حكام
الأمويين تجاه الإسلام والرسول (ص).
الدوافع والأهداف:
ولو سألت عن سبب نيلهم من المقدسات الأسلامية وشخصية الرسول (ص)، فإن
ذلك يعود للأسباب التالية:
١- الكيد السياسي الأموي ضد خصومهم الهاشميين.
٢- تبرير انحرافات الحكّام.
٣- إرادة هدم الدين لأنه يقف أمام مصالحهم وشهواتهم.
٤- إرضاء غرورهم وإظهار جبروتهم.
٥- حسدهم لرسول الله وما آتاه الله من فضله.
٦- عدم وجود قناعة لدى الكثير منهم بأن النبي (ص) مرسلٌ من الله.
سياسات تستهدف الجذور:
ولأجل أهدافهم هذه وتطبيقاً لخطتهم الخبيثة، وعوداً على بدءٍ، فإنهم
قد استخدموا سياسات لتحريف سيرة النبي (ص) وسنّته، فمنعوا حديث رسول
الله (ص)، وكانت أولى بوادره قولهم حسبنا كتاب الله، حتى وصل الحال في
عهد عمر بن الخطاب الى تهديد وضرب ونفي من يصرّ على رواية الحديث، وفي
خطوة تصعيدية طلب عمر من الصحابة أن يجمعوا له ما كُتب من الحديث
لجمعه فجمعها شهراً ثم أحرقها جميعاً! ووصل الأمر الى أنه لم يكن أحد
يستطيع في عهده قول: قال رسول الله (ص)! وسياسته تجاه الحديث هذه
تعتبر من البديهيات التاريخية والشواهد عليها أكثر من أن تُذكر.
ووصل الحال الى أن أصبحت رواية الحديث عيباً! حتى قال أحدهم أنه صحب
عبدالله بن مسعود سنتين فلم يسمعه يروي إلا حديثاً واحداً!
ما هو البديل؟
وبعدما تقدّم من المنع من رواية الحديث، فلابدّ للناس من الرجوع الى
من يفتيهم في دينهم، ولأجل أن لا تتزعزع ثقة الناس بالسلطة ولا يفتي
كل شخص على مزاجه، فقد حصروا الفتوى في نوعين من الناس: الأمراء في
الأمور الحساسة وأشخاص بأعينهم، أما الأمراء فقد أرجع بعض من سُئل الى
الخليفة حتى سُمّيت الفتوى بصوافي الأمراء، أما الأشخاص المعيّنين من
قبلهم فقد وجدوا فيهم المؤهلات للحفاظ على نهجهم وفكرهم، منهم عائشة
وزيد بن ثابت وعبدالرحمن بن عوف وأبو موسى الأشعري، حتى أن الأخير كان
يفتي الناس بسنّة النبي (ص) فأتاه رجل فأسرّه أن لا تعجل بفتياك فإن
الخليفة قد أحدث في المناسك شيئاً! وهو بدوره طلب من الناس أن يأتموا
بعمر وأن يتركوا ما حدثهم به! ولا عجب من ذلك لو علمنا أنهم يروون عن
النبي أنه قال: لو لم أبعث فيكم لبُعث عمر! ومنهم أبو هريرة بعد ما
كان ممنوعاً.
وفي المقابل منع معاوية ابن عمر وابن عمرو بن العاص من الرواية، لأنهم
كانوا يروون أحاديثاً صدّه كقول رسول الله عن معاوية: لا أشبع الله
بطنه، وكحديث قتل الفئة الباغية لعمار، حتى أن عثمان منع أبا ذر فلم
يمتنع فنفاه.
وبالإضافة لحصر الرواية، فقد خالفوا رسول الله في تشجيعهم على الأخذ
من أهل الكتاب، واستندوا بذلك لحديث رووه عن النبي: (حدثوا عن بني
إسرائيل ولا حرج) فكان كالمرسوم العام! والظاهر أنه تحريف لقوله (ص):
(حدثوا عني ولا حرج)، وبعد هذا المرسوم سمح الخليفة الثاني لكعب
الأحبار بقراءة التوراة ليلاً ونهاراً، ثم جاء الحكم بحرمة مس التوراة
والانجيل للجنب، وقد سمحوا لأهل الكتاب أن يقصّوا القصص في المساجد
ومنها مسجد رسول الله (ص)، وجعلوا لعملهم هذا أجراً، وكان منصب القاصّ
منصباً رسمياً يعيَّن من الخليفة، بل وأعطوا لبعضهم الوقت والمدة
والمكان للقصص، حتى أن معاوية استخدمهم في حربه مع الإمام علي والإمام
الحسن (ع).
كل هذه السياسات قد أوصلت الحال الى وضع مأساوي، ويكفي في وصفه قول
أمير المؤمنين (ع): (لم يبقَ من الإسلام إلا اسمه ومن الدين إلا
رسمه)، حتى قال بعضهم: (والله لا أعرف فيهم من أمر محمد (ص) شيئاً إلا
أنهم يصلّون جميعاً) بل حتى الصلاة قد ضُيّعت حتى قال احدهم حينما صلى
خلف أمير المؤمنين (ع): (لقد ذكرني صلاة محمد)، وقد يرى القارئ أن هذا
مبالغة في الأمر، ولكننا نأسف أن نقول أن هذه هي الحقيقة، وهناك عدة
شواهد على ذلك منها: أن ابن عباس طلب من الناس على المنبر أن يخرجوا
زكاة الفطرة فلم يفهم الناس مُراده، وأن عمر لا يعرف أحكام الربا
بتصريحه هو، وكذلك ابن مسعود، حتى شكا أهل الكوفة من سعد بن ابي وقاص
أنه لا يحسن يصلي، وأن ابن عمر لا يحسن طلاق امرأته.
أما عن وضع واختلاق الأحاديث فهي بمئات الآلاف، وأوصلها العلامة
الأميني في الغدير الى (٤٠٨٦٨٤) حديثاً موضوعاً.
معايير لحفظ الإنحراف:
ونلخص ما مضى من سياسات في هذه المعايير التي رسموها لحفظ
انحرافاتهم:
الصحابة كلهم عدول، من ينتقد الصحابة زنديق، حتمية توبة الصحابي،
فتاوى الصحابة ورأيهم سنّة، سنّة الخلفاء والأمراء إلا علي، النبي
يجتهد ويُخطئ، إجماع الأمة وعصمتها عن الخطأ، العمل بالقياس
والاستحسان، غلق باب الإجتهاد، تصحيح جميع ما جاء في الصحاح، تكذيب
الشيعة، تصديق الخوارج، منع رواية الحديث، حصر الرواية في أشخاص
معيّنين، لا يُعرض الحديث على القرآن، موافقة أهل الكتاب، منع السؤال
عن معاني القرآن.
إن كل جملة ممّا ذُكر أعلاه هي عنوان بحدّ ذاتها، والكلام يطول في
ذلك، وللمزيد يُراجع المصادر المذكورة.
وسنترك الكلام في منهج البحث والتحقيق في التاريخ لمعرفة المحرف من
السليم، فهو أمرٌ تخصصيّ، وسنشرع في البحث القادم بعون الله تعالى في
سيرة نبينا الأعظم (ص) بتسلسل منهجي شمولي.
المصادر/
١- الصحيح من سيرة النبي الأعظم ج١، المحقق السيد جعفر مرتضى
العاملي.
٢- المدخل الى دراسة مصادر السيرة النبوية والتاريخ والإسلامي، المحقق
السيد سامي البدري.
الباحث المحقق