التفسير (٨)
بعد أن بيّنّا في البحوث السابقة أن سورة العلق حسب التحقيق هي أول
السور نزولاً، نستدرك هنا ما فاتنا من رأي لبعض العلماء في محاولتهم
للجمع بين الروايات المتعارضة في الموضوع، وهو: أنّ سورة الحمد أول
سورة أنزلها الله وسورة العلق أول سورة أظهرها النبي (ص)¹، ونترك
التفصيل فيه لتفسير سورة الفاتحة.
نشرع بعون الله في تفسير آية البسملة باعتبارها أول سورة العلق.
(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ)
تفسيرها الإجمالي ومعناها العام:
▪︎الناس ربما يعملون عملاً ويقرنونه باسم عزيز من أعزتهم أو كبير من
كبرائهم، ليكون عملهم ذاك مباركاً بذلك متشرفاً، أو ليكون ذكرى يذكرهم
به، كمن يسمى ولده باسم والده ليحيى بذلك ذكره فلا يُنسى، وقد جرى
كلامه تعالى هذا المجرى، فابتدأ الكلام باسمه عز اسمه، ليكون ما
يتضمنه من المعنى معلماً باسمه مرتبطاً به، وليكون أدباً يؤدب به
العباد في الأعمال والافعال والأقوال، فيبتدئوا باسمه ويعملوا به،
فيكون ما يعملونه معلماً باسمه منعوتاً بنعته تعالى مقصوداً لأجله
سبحانه فلا يكون العمل هالكاً باطلاً مبتراً، إذ لا بقاء لشئ إلا وجهه
الكريم فما عمل لوجهه الكريم وصنع باسمه هو الذي يبقى ولا يفنى، وكل
أمر من الأمور إنما نصيبه من البقاء بقدر ما لله فيه نصيب²، ولهذا كان
من المناسب أن يبدأ العمل في أطروحة أريد لها البقاء والخلود (القرآن
الكريم) باسم وجود خالد قائم لا يعتريه الفناء³.
▪︎وأن القرآن الكريم يريد تربية الإنسان المسلم على خلق الاستعانة
بالله تبارك وتعالى في كل عمل من أعماله، وأن يشعر العبد في كل أعماله
بالعلاقة والارتباط مع الله تبارك وتعالى، ويكون احساسه بهذه العلاقة
هو إحساس الضعيف في مقابل القوي، والمحتاج في مقابل الغني، فهذا
الإنسان وباعتبار شعوره بالضعف والحاجة يستعين بالله تبارك وتعالى
الذي يتصف بالرحمة والتي تعني إفاضته المنفعة والفائدة على ذلك
الموجود الناقص المحتاج لأجل سد حاجته وعوزه⁴.
▪︎ولما كانت سور القرآن قد أنزلت لسوق البشر إلى كماله الممكن،
وإخراجه من ظلمات الشرك والجهالة إلى نور المعرفة والتوحيد، ناسب أن
يبدأ في كل سورة باسمه الكريم، فإنه الكاشف عن ذاته المقدسة، والقرآن
إنما أُنزل ليعرف به الله سبحانه، وتنفرد سورة براءة بعدم بدئها
بالبسملة، لأنها تبدأ بإعلان الحرب على مشركي مكة وناكثي الايمان،
وإعلان الحرب لا ينسجم مع وصف الله بالرحمن الرحيم⁵.
▪︎وهذه الآية هي شعار القرآن وكذلك شعار المسلم، وفي عدم ذكرها في
سورة براءة وتكررها في سورة النمل، يكون عددها في القرآن ١١٤ آية
يطابق عدد سور القرآن الكريم، ولعل هذا التطابق يشير الى أن النظام
التشريعي الذي احتواه القرآن الكريم يبدأ من الله وتلفه الرحمة من
أوله الى آخره⁶.
▪︎وجاء في تفسيرها على المسلك الروائي هكذا: أُسمِّ على نفسي بسمة من
سمات الله عز وجل الموصوف بالرحمن الرحيم، أو بسم الله الذي هو إله كل
شئ، والرحمن بجميع خلقه، والرحيم بالمؤمنين خاصة⁷.
▪︎وجاء في تفسيرها على المسلك الأدبي هكذا:
أبتدئ أو أستعين أو ابتدائي واستعانتي أو أتبرك وأتيمن بـ (بسم الله)
الذي هو (الرحمن الرحيم)⁷.
وفي تفسيرها مسالك أخرى، ونحن نقتصر على ما ذكرنا.
حول كلمة (البسملة):
قد تعارف استعمال كلمة البسملة بين المفسرين وغيرهم، وهي لا توجد في
رواياتنا ولا روايات العامة حسب ما قيل، وهي إما تخفيف أو مصدر جعلي
نظير قوله تعالى: (الْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ) وفي الرواية: (جنود
مجندة)، وهي نظير الحوقلة والحمدلة وغيرها⁷.
هذا الكلام الإجمالي في تفسير الآية، وسنفصّل القول في جزئيتها وتفسير
كلماتها ومعانيها وذكر أحكامها وفضلها والروايات فيها في قادم
البحوث.
المصادر/
١- ما يقوله القرآن في سورة الحمد (٤)، محاضرات، الشيخ فاضل
الصفار.
٢- الميزان في تفسير القرآن ج١، السيد محمد حسين الطباطبائي.
٣- الأمثل في تفسير كتاب الله المنزّل ج١، الشيخ ناصر مكارم
الشيرازي.
٤- تفسير سورة الحمد، السيد محمد باقر الحكيم.
٥- البيان في تفسير القرآن، أستاذ الفقهاء السيد أبو القاسم
الخوئي.
٦- التدبر في القرآن ج١، السيد محمد رضا الشيرازي.
٧- تفسير القرآن الكريم ج١، السيد مصطفى الخميني.
الباحث المحقق