وجوب دفع الضرر المحتمل وقاعدة اتباع الحكمة

2020/03/09

العقيدة (٨)

الدافع التاسع للبحث في الإلهيات والدين: نظرية دفع الضرر المحتمل:
وأُشير إليها بقاعدة اتّباع الحكمة، والحكمة هي موازنة النفع والضرر في الأشياء واختيار الأثقل وزناً، ومرجع الحكمة هو رعاية السعادة والشقاء على وجه جامع، فلا يقدّم الإنسان لذة يسير عاجلة على معانة طويلة آجلة، بل لا ينساق خلف لذّة عاجلة دون البحث والفحص عما يمكن أن تخلّفه من المعاناة، أي بإمكان الإنسان أن يكتشف بعقله العواقب المستقبلية لأفعاله، وهذا المعنى من البديهيات المعروفة لدى كل إنسان بأن مقتضى العقل تقديم الأهم على المهم، بل ويعيه الطفل أيضاً وإنما يقع النصح به تذكيراً لا تعليماً، لأن بعض الرغبات تؤدي الى عدم تقدير العواقب وبعض الشهوات تضعف الإرادة، وتتلخص الحكمة في كلمة: (الإعتبار بالغائب والمستقبل حتى كأنه حاضر وقائم).

مقياس تشخيص الحكمة:
إن الاهتمام بالأشياء حسب قاعدة الحكمة تتحدد وفق معادلة ثلاثية هي درجة الإدراك ومستوى والمُدرَك ومقدار مؤونة تحصيل المدرك، والمراد بدرجة الإدراك: درجة إنكشاف الشيء وأحرازه كأن يكون علماً أو اطمئناناً أو ظنّاً أو احتمالاً، وكلما كان الشيء اكثر وضوحاً اقتضى زيادة الاعتناء به، والمراد بمستوى المدرَك: مستوى أهمية الشيء ومصلحته، وكلما كان الشيء أكثر مصلحة أو أكبر ضرراً اقتضى زيادة الاعتناء به، والمراد بمؤونة الإدراك: الجهد الذي يبذله الإنسان أو الضرر الذي يتحمله لأجل تحصيل المدرَك.

وإجراء المعادلة الثلاثية يكون بملاحظة عناصر المعادلة جميعاً، فإذا كان الإدراك علماً يقينياً كفى في ترتيب الأثر أن يكون المدرك قليل الأهمية، وكلما كان أكبر أهمية تزداد أهمية ترتيب الأثر، واذا كان الإدراك ظناً يحتاج لترتيب الأثر أن يكون المدرك أمراً مهماً.

وهذه المعادلة فطريّة، بديهية عند كل إنسان تجري مجرى الدم في عروقه، ويمارسها الإنسان في كل تصرفاته الواعية والحكيمة وإن لم يلتفت إليها تفصيلاً، ومثال ذلك التاجر فإنه يلاحظ مدى احتمال الربح أو الخسارة ثم حجم الربح أو الخسارة ثم الى الجهد الذي تقتضيه منه تلك التجارة وبذلك يقيس ما اذا كانت تلك التجارة أمراً عقلائياً أم لا.

ملاحظات:
١- قد تختلف المساحات التي تجري فيها المعادلة فقد تكون بعض تطبيقاتها واضحة كأن تكون الاحتمال معتداً به والمحتمل خطيراً والمؤونة خفيفة، وأخرى غير واضحة تحتاج الى التأمل والتدقيق، لعدم وجود ضابطة رياضية دقيقة للمعادلة.

٢-انجبار ضعف الاحتمال (الإدراك) بزيادة درجة المحتمل (المدرك)، أي أنه كلما زادت خطورة المحتمل يبقى ترتيب الأثر فاعلاً حتى في حال ضعف احتمال وقوعه، ولذلك نرى شدة الاحتياطات العقلائية في المحطات النووية، فهي ذو درجة محتمل عالي لشدة الدمار الناتج منها في حال الخطأ، رغم ضعف احتمال وقوعه، وكذلك هذا الانجبار يقع في مؤونة التحصيل فلو كان الأمر مهماً جداً يكون فاعلاً ولو كانت مؤونته ثقيلة، ولذلك نجد آلاف الاشخاص يعملون في مشاريع لسنين عديدة، لأن نفعها أكبر من المؤونة المبذولة لإنجازها.

٣- قيمة الاحتمال قبل البحث والفحص غير مستقرة ويمكن أن تزداد، وعلى هذا فهي تماثل قيمة ما يحتمل ان يبلغه البحث وينبغي ترتيب الأثر عليها ما دام الشخص لم ينتهي من البحث.

ضرورة الاهتمام المعرفي بالأشياء:
إذ إن المعرفة تساعد على تحقق السلوك الحكيم في الحياة، وذلك لأنها تحصل القدرة على السلوك، وتوفر الدواعي المحفزة للحكمة، بمعرفة مقتضيات السلوك الحكيم، وتقوية مستوى إدراك الشيء، والجزم من كون السلوك نافعاً أو ضارّاً وبالتالي تخليص الداعي الإنساني من داعٍ معارض، وعدم بذل عناء غير ضروري فيبحث عن الأمر ليتحرر من رعايته إذا تبين عدم وجوده، كمن يحتمل إصابته بمرض السكري فيلزمه التحوط عن الكثير من الأطعمة لكنه بالفحص والتحقق من الأمر (المعرفة) بواسطة التحاليل المختبرية يتأكد من ذلك حتى إذا تبين عدم وجوده يتحرر من اجتناب الكثير من الطعام، وكذلك تقليل عناء العمل بتحديد المطلوب بعينه ودفع موارد الإشتباه.

وبعد تبيين القاعدة نوضّح دخالة الدين في سعادة وشقاء الإنسان بإختصار:
١- إن مقتضى الرؤية الدينية أن للإنسان حياة خالدة ولأفعاله وتصرفاته أبعاداً عميقة تترك بصمة على تلك الحياة الخالدة، فيسعد أو يشقى فيها وينال مرتبته بحسبها.
٢- نيل الإنسان رعاية الله تعالى وولايته في الدنيا فيسوقه الى ما تسمح به مقادير الحياة من السعادة والطمأنينة والسكينة.
٣- العمل بتشريعات الدين الحكيمة المنسجمة مع الفطرة الإنسانية (كما سنبيّن) وهذا يؤثر في السعادة تأثيراً مهماً.

وعليه فليس هناك سعادة أحق بالتحصيل من هذه السعادة ولا شقاء أحق بالاجتناب من شقاء الأذى والحرمان في حياة خالدة.

وللبحث مزيد تفصيل وتتمة في مصدر احتمال الضرر ونوع الوجوب تفصيلاً وبعض الإشكالات وغيرها.

المصادر/
١- منهج التثبت في الدين ج٣، ضرورة المعرفة الدينية، السيد محمد باقر السيستاني.

الباحث المحقق
أخترنا لك
عدم ملاءمة كون سورة الحمد أو المدّثّر السورة الأولى

(ملف)عاشوراء : انتصار الدم على السيف