الإيرادات على نظرية شكر المنعم

2020/03/07

العقيدة (٧)

الإيرادات على نظرية شكر المنعم

قررنا سابقاً تقريرين على هذه النظرية، الأول منهما هو العمدة، ومختصره التالي: أن العقل يستقل بلزوم شكر المنعم لاستحقاقه لذلك، وشكر المنعم لا يكون إلا بمعرفته، لأنّ الشكر على حسب قدر المشكور.

نتناول في هذا البحث الملاحظات والإيرادات على نظرية شكر المنعم:

١- إنّ وجوب المعرفة بهذا الدليل وجوب عقلي لا شرعي، خلافاً لما قاله الأشاعرة، وذلك لوضوح أن ما ذكرناه من دليلٍ عليه هو دليلٌ عقلي لا شرعي، سنفصل الكلام لاحقاً في الدليل الشرعي.

٢- وهو أيضاً (وجوب المعرفة) وجوبٌ غيري لا نفسي، أي وجوب معرفة المنعم ليُعلم كيفية شُكره، إلا أنه قيل أن شكر المنعم هو نفسه معرفته، فيكون الوجوب نفسي، لكن رُدّ عليه أن المعرفة ليست مصداقاً للشكر إذ الشكر هو معرفة المنعم بما هو منعم لا معرفته بذاته فقط، فمعرفة الذات مقدِّمة لمعرفة المنعمية، (أقول: إنّنا نعرف أنه المنعم علينا وينقصنا معرفة ذاته لنعرف قدر شكره، فمعرفة أنه منعم إجمالاً مقدَّمة على معرفة ذاته رغم الجهل بها مسبقاً، أما أنّ شكره بمعرفته فغير تامّ، فإننا بينّا أن شكر المنعم بما يليق به، ولو كان شكره معرفته لتساوى جميع المنعِمين في قدرهم، إضافة لذلك فإن قدر الله المطلق لا يُعرف وبالتالي فكيفية شكره غير معروفة إلا أن يبينها هو لنا، والله العالم).

٣- وقيل إنّ شكر المنعم إنما يكون إذا كان المنعم قابلاً للشكر أي مدركاً شاعراً، وإلا فلا معنى له، ولذلك لابدّ من تشخيص ماهية المنعم اولاً، فيكون مفاد الدليل هو لزوم النظر والفحص لا لزوم معرفته سبحانه، فإذا تبيّن أن المنعم قابلاً للشكر عندئذٍ تكون معرفته لازمة، وعلى ذلك فالنظرية في حق الله سبحانه تؤدي الى لزوم معرفته.

٤- وقيل أن شكر المنعم لا يستلزم وجوب معرفته لكفاية التخضّع للمنعم قلباً وإن كان مجهولاً بأوصافه، (أقول: هذا يعتمد على تعريف الشكر، وهو يعارض ما عرفه علماء الكلام من أنه الاعتراف بالنعمة مع ضرب من التعظيم، وهذا التعظيم يكون على قدر المنعم كما ذكرنا، وقدر المنعم لا يُعرف إلا بمعرفته، ولو تنزّلنا واشترطنا فيه الاعتراف بالنعمة فقط، يبقى وجوب النظر ثابتاً لمعرفة المنعم إن كان مدركاً أم لا، والله العالم).

٥- وقيل إنّ ترك شكر المنعم ليس إلا ترك ما حسُن بذاته، ولا يُعدّ ظلماً للمحسن، نعم الإساءة إليه من الظلم، لكنّ ترك شكره ليس ظلماً، وذلك لأنّ الظلم هو سلب ذي الحقّ حقّه، فيجب ثبوت الحقّ أولاً، وعلى ذلك فإن ترك الشكر ليس كصدق عنوان الظلم من حيث سلب الحق، (أقول: يبقى الثابت أن ترك ما حسُن بذاته يُعدّ قبحاً، وبما أن محلّ النظرية العقل، فلو أدرك عقله أن ما يفعله من تركٍ قبيح، ألا يُعد استهانة في النعمة؟ والله العالم).

٦- وقيل إن الاستناد في وجوب البحث والمعرفة الى نظرية لزوم شكر المنعم إنما يجدي بعد الفراغ من انتهاء النعمة الى مبدأ موجود وثبوت وجود المنعم ليتحقق موضوع شكر المنعم، أُجيب عنه بأن الاحتمال يكفي في الفحص لأن حكم العقل بقبح تضييع حق المنعم ثابت في حال الاحتمال ايضاً، أورد البعض على الجواب أن تضييع حق المنعم مرجعه إما الى الظلم أو الاستهجان العقلائي المؤدي الى الذم، وكلاهما غير ثابتان في حال الاحتمال، لكنه أجاب بأن حكم العقل بلزوم شكر المنعم لا يحتاج الى إثبات الله في رتبة سابقة، بل يكفي فيه ثبوت أصل المنعمية والمنعم.

٧- وقيل أنه قد يكون في الشكر ضررٌ محتمل لأسباب: منها أن تصرف المملوك في الشكر من دون إذن مالكه قبيح (أقول: أن التصرف في ما أنعم علينا لا يمكن الاحتراز عنه، وأن حكم العقل والفطرة -التي زرعها المنعم فينا- بلزوم شكره يكفي في احتمال رضاه، وأن قبح إهمال المنعم أكبر من قبح التصرف بعمته لغاية حسنة)، ومنها الظن بأن لا يأتي بالشكر اللائق به (أقول: والنظرية تقدّم لزوم معرفته أولاً قبل شكره لما قلناه من أن الشكر إنما يكون على قدر المنعم).

٨- ونشير الى أن الإنسان لا يقدر على أن يكافئ نِعم الله سبحانه بشكر أو يوفي حقّها، لأن الشيء إنما يكون كفؤاً لغيره إذا سدّ مسدّه وناب منابه، وقد علمنا أنه ليس شيء من أفعال الخلق تسدّ مسدّ نعمه، وأن ثوابه في الآخرة هو تفضّلٌ وإحسان منه، وخالفت المعتزلة في ذلك.

٩- وقد يقال على ذلك أن الشكر ممتنع عندئذٍ لأنه سبحانه هو الذي أقدرنا عليه وألهمنا اليه، لكنّه لا يُكلّف بشكرِ كل نعمة تفصيلاً بل إجمالاً، جاء في الحديث القدسي: (يا داود أشكرني على قدر نعمتي، قال: يا رب كيف أشكرك والشكر نعمة منك يجب شكرها؟ فقال: إذا عرفت أن النعمة منّي فقد رضيت منك ذلك شكراً).

وفي النهاية، نشير الى ما قيل من أنّ المنعمية في هذا الدليل تتوقف على قضيتين طوليتين وقعت كل منهما مثاراً للجدل الكلامي من حيث الرفض والقبول وهما:
١- قاعدة التحسين والتقبيح العقليين
٢- تعليل الفعل الإلهي بالأغراض
وواحدة من هاتين القضيتين على الأقل يكون ثبوتها في طول تحصيل الرؤية الإلهية، وأوردوا: أنه ولذلك من الضروري إعادة النظر حول دعوى اعتبار النظرية من البديهيات العقلية.

ولأجل هذا أخرج البعض النظرية من حكم العقل العملي لأنه ملاك التحسين والتقبيح العقليين.

هذا نهاية الكلام في نظرية شكر المنعم، ويأتينا الدافع التاسع للبحث في الإلهيات والدين وهو لزوم دفع الضرر المحتمل.

المصادر/
١- الرؤية الكونية الإلهية دراسة في الدوافع والمناهج، الشيخ علي العبود.
٢- صراط الحق في المعارف الاسلامية والأصول الاعتقادية، محمد آصف محسني.
٣- عصرة المنجود في علم الكلام، زين الدين علي بن محمد بن يونس العاملي النباطي البياضي.

الباحث المحقق
أخترنا لك
تدوين التاريخ والسيرة

(ملف)عاشوراء : انتصار الدم على السيف