التفسير (٦)
مناقشة رواية عائشة في نزول الوحي:
نقلنا في البحث السابق رواية نزول الوحي المروية عن عائشة في مصادر
أهل السنة، في حديثنا عن أحد الشواهد على أوّلية نزول سورة العلق،
وقلنا أنه لا يمكن الوثوق بهذه الرواية لعدّة مناقشات:
المناقشة الأولى: أن هناك روايتان تعارضها، الأولى
صححها البخاري وغيره تتضمن أن أول سورة نزلت هي المدثر، والثانية
وثّقها بعض التابعين تتضمن أن أول سورة نزلت هي الفاتحة، وستأتي في
بحوث قادمة نناقشها، ونقلنا لذلك تنبيهاً على صعوبة القبول بكثيرة من
الروايات في نفسها ما لم تكن مدعومة بقرائن أخرى لوجود التعارض ومن
أمثلته ما ذكرناه أعلاه.
المناقشة الثانية: في إسنادها من وجهين،
١- احتمال أن الرواية مرسلة إحتمالاً لا دفع له، وذلك لأن عائشة لم
تدرك هذا الحدث بوضوح بالنظر الى عمرها، وهي لم تحكي القصة عن النبي
(ص) في بدايتها، والنصوص المنقولة في الرواية عن النبي ليست بالضرورة
نقلها عنه بل هي حكاية لقوله، بالأضافة لذلك فإن في الرواية تتمة لم
ننقلها في البحث السابق، مطلع هذه التتمة: (حتى حزن النبي (ص) فيما
بلغنا حزناً شديداً...الخ) فإنّ قولها (بلغنا) لا يلائم سماعها
الرواية من النبي (ص) مباشرة، ويُحتمل أن هذه التتمة من الزهري لكن
السياق أقرب لأن تكون عن عائشة.
فلذلك يُحتمل احتمالاً قوياً أن الرواية مرسلة، ويساعد على ذلك من أن
الصحابة والتابعين كانوا لا يتقيدون في نقلهم بالإسناد وذلك شائع
بينهم كما لا يخفى على المطّلع، فإذا احتُمل إرسالها ضعفت حجيتها.
٢- أن هذه الرواية من المنفردات في ثلاث طبقات، فلم يرويها عن النبي
إلا عائشة، ولم يرويها عن عائشة إلا عروة بن الزبير، ولم يرويها عن
عروة إلا الزهري، ولذلك فمن الصعب الوثوق بها لوحدها دون قرائن، لا
سيما أن بعض الروايات التي وردت بهذا الإسناد مريبة.
المناقشة الثالثة: عدم الوثوق لما جاء في الرواية من
قصة نزول الوحي، لعدة موارد:
الأول: ما جاء من امتناع النبي (ص) عن القراءة مع أن
جبرئيل لم يأمره بقراءة شيء مكتوب بل أراد متابعته بالقراءة، نعم نُقل
أنه أتاه بمكتوب ليقرأه ولكن إسناده غير صحيح ولا يمكن الوثوق به، ولا
يُشك من أن الوحي لم يكن ينزل على النبي (ص) في كتاب وإلا لحكي بوضوح
في سيرته، ونبّه على ذلك قوله تعالى: (سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَىٰ)
و(فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ).
الثاني: أن ما جاء في خطاب جبرئيل مع النبي (ص) لأول
مرة غير مناسب، وكان ينبغي أن يعرّف نفسه أولاً ويقيم الحجّة على أنه
مرسل من الله سبحانه ويذكر له أمر بعثته من قبل الله الى قومه، كما
جاء في بداية الوحي على النبي موسى (ع) في قوله تعالى في التعريف
بنفسه: (فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَىٰ إِنِّي أَنَا
رَبُّكَ..) وإقامة الحجة عليه: ( قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَىٰ
فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَىٰ... لِنُرِيَكَ مِنْ
آيَاتِنَا الْكُبْرَى) وإخباره ببعثته: (اذْهَبْ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ
إِنَّهُ طَغَىٰ).
الثالث: ابتداء جبرئيل بقول (اقْرَأْ) من غير بيان
أن ما سوف يقرأه رسالة الله سبحانه إليه، والذي يُفهم من ذلك أن الأمر
بالقراءة من جبرئيل وليس جزءاً من الرسالة، وهذا أمر غريب وغير
ملائم.
الرابع: مقتضى هذه الرواية أن البسملة ليست جزءاً من
السورة، وهذه الملاحظة مبنيةٌ على ثبوت كون البسملة جزءاً من السور،
وسيأتي بحثها لاحقاً.
الخامس: شكّ النبي (ص) من كون أن ما شاهده وحياً
إلهياً وتردده وظنه حتى قالت الرواية: (وخشيت على نفسي)، والأشكل من
ذلك هو سكون النبي واطمئنانه الى رجل نصراني مترهب، وقد قال سبحانه:
(قُلْ إِنِّي عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي..) و(أَدْعُو إِلَى
اللَّهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي..)، وأي حجة
بينة أو بصيرة في قول ورقة بن نوفل؟
فبمجموع ما ذكرنا، يكون من الصعوبة الوثوق برواية عائشة.
البحث القادم: تفنيد القول بأوليّة نزول سورة الفاتحة والمدّثّر.
المصادر/
١- محاضرات السيد محمد باقر السيستاني في تفسير القرآن.
٢- الميزان في تفسير القرآن، السيد محمد حسين الطباطبائي.
الباحث المحقق