التفسير (٥)
بيّنا سابقاً شاهدين على أوليّة نزول سورة العلق، ونوضّح الشاهد
الثالث المطروح على ذلك:
الشاهد الثالث: ما ورد في بعض الآثار المروية عن
النبي (ص) وأهل البيت (ع) من طرق الإمامية وأهل السنة في حكاية بداية
نزول الوحي،
وما ورد من ذلك في بعض التراث الإمامي إنما جاء من طرق ومصادر لم تصح
وفق المنهج النقدي الإمامي الرائج، وهي قسمان:
القسم الأول: ما تضمن أن هذه السورة أول السور
نزولاً، وهي روایتان، في إسنادهما رجال ضعفاء.
ويعارضهما رواية أخرى تضمنت کون سورة الأعلى هي الأولى نزولاً ما جاء
عن سعد بن عبد الله (فيما يسمى بمختصر الحسن بن سليمان الحلي لبصائر
الدرجات)، بسند (فيه رجل ضعيف)، قال: قلت لأبي جعفر (ع): ما تقول فيمن
أخذ عنكم علماً فنسيه؟ قال: (لا حجة عليه... الى أن قال: إن أول سورة
نزلت على رسول الله (ص): (سبح اسم ربك الأعلى)، فنسيها، فلم تلزمه حجة
في نسيانها... الى آخر الرواية)، ولكن يلاحظ على هذه الرواية المعارضة
عدم الثقة بها، لوجوه ثلاثة:
۱- ضعف مصدرها، من جهة عدم الثقة بالكتاب المذكور، وضعف إسنادها بسعد
بن ظريف الخفاف.
۲- ما اشتملت عليه من نسيان النبي (ص) لسورة الأعلى، فإن ذلك منكر على
ما هو المشهور بين الإمامية من عدم نسيانه (ص) لما يوحى إليه.
٣- بُعد كون سورة الأعلى هي الأولى نزولاً مقارنة بالعلق، من حيث
العناصر الثلاثة التي ذكرناها سابقاً، إذ سورة العلق أكثر ملاءمة
ففيها: الإبتداء بالأمر بالقراءة، ولين لسانها على العموم، ففي نبأ
اليوم الآخر جاء فيها: (إنَّ إلىٰ رَبِّكَ الرُّجعَىٰ)، وجاء في سورة
الأعلى: (وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشقَى الّذِي يَصلَى النَّارَ
الْكُبرَىٰ)، ولين لسانها بالدعوة: (أرَأيتَ إِن كَانَ عَلَى الهُدَىٰ
أَو أَمَرَ بِالتَّقوَىٰ)، بينما جاء في سورة الأعلى: (فَذَكِّر إن
نَفَعَتِ الذِّكرَىٰ سَيَذَّكَّرُ مَن يَخشَى)، نعم جاء في سورة العلق
التعبير بالطغيان (كَلَّا إنَّ الإِنسَانَ لَيَطغَىٰ)، لكنه كان في
شأن التوحيد في الربوبية وليس الرسالة.
القسم الثاني: ما دلّ على أن هذه السورة كانت ابتداء
نزول الوحي على النبي (ص)، وهي روايات ثلاث ضعيفة جدا من حيث مصادرها
وإسنادها، ولا يمكن الوثوق بها.
أما ما رواه أهل السنة فهو لا يتجاوز خبر الواحد ولكنهم صححوه وفق
المنهج النقدي السائد عندهم، وذلك أن العمدة فيه ما رووه من طريق
عائشة في ذكر أول نزول الوحي،
وقد أخرجه أحمد بن حنبل والبخاري ومسلم في صحيحهما عن عائشة أنها
قالت: (أول ما بُدئ به رسول الله (ص) من الوحي الرؤيا الصالحة في
النوم فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح... وكان يخلو بغار
حراء فيتحنث فيه (يتعبد) الليالي ذوات العدد... ثم يرجع إلى خديجة
فيتزود لمثلها حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال:
اقرأ، قال: قلت: ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد،
ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطني الثانية
حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ فأخذني
فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: (اقرأ باسم ربك
الذي خلق... الى آخر السورة)، فرجع بها رسول الله (ص) يرجف فؤاده،
فدخل على خديجة بنت خويلد فقال: زملوني زملوني فزملوه حتى ذهب عنه
الروع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر: لقد خشيت على نفسي، فقالت خديجة:
كلا، ما يخزيك الله أبدا إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم،
وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، فانطلقت به خديجة حتى أتت ورقة بن
نوفل... ابن عم خديجة، وكان امرئ قد تنصّر في الجاهلية، وكان يكتب
الكتاب العبراني فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب،
وكان شيخاً كبيراً قد عَمي، فقالت له خديجة: يا ابن عم اسمع من ابن
أخيك، فقال له ورقة: يا ابن أخي ماذا تری؟ فأخبره رسول الله (ص) خبر
ما رأى، فقال له ورقة: هذا الناموس الذي أنزل الله على موسی يا ليتني
أكون فيها جذعاً، يا ليتني أكون فيها حياً إذ يخرجك قومك، فقال رسول
الله (ص): أوَ مخرجيّ هم؟ قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا
عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرً مؤزراً ثم لم ينشب ورقة أن توفي
وفتر الوحي)، وللرواية تتمة حول حال الرسول عند فتور الوحي عنه
نتركها.
إذن، هذه رواية صريحة صححوها واردة من طريق عائشة، وهناك رواية أخرى
عنها لم تثبت، وهناك روايات أخرى عن غيرها هي ضعيفة برجالها أو
إرسالها أو نكارة مضامينها لم يخرجها أصحاب الصحاح وما يليها في
الاعتبار، ولكن أخرجها جمع آخر من المحدثين، كالطبري وهي مشابهة في
مضمونها لرواية عائشة.
ولكن قد يناقش في الوثوق برواية عائشة بالنظر إلى
معارضتها وإسنادها ونكارة أجزاء من مضمونها، وسيأتي النقاش فيها في
البحث القادم.
المصادر/
١- محاضرات السيد محمد باقر السيستاني في تفسير القرآن.
الباحث المحقق