عدم ملاءمة كون سورة الحمد أو المدّثّر السورة الأولى

2020/03/02

التفسير (٤)

ذكرنا سابقاً أن سورة العلق هي سورة مناسبة في إيجازها ومضمونها وأسلوبها لتكون أول السور نزولا، وهي موجزة، حوت بمضمونها أصول الدين، ولم تحوي أي تفصيل آخر في فروع الشريعة، وأسلوبها ليّن في عرض أصول الدين والسلوك السليم في الحياة.

وهذه الخصائص الثلاثة في الحمد والمدّثّر ليست كما هي في سورة العلق، وبيان الأمر كالآتي:

عدم ملاءمة سورة الحمد لتكون السورة الأولى:

١- أما من حيث الإيجاز: فلأنها لا تخلو عن إطناب بهذا المنظور لو فرضت في مقام السورة الأولى من جهة الإطناب في بيان الربوبية بقوله: (إيّاكَ نَعبُدُ وإيّاكَ نَستَعينُ) ومن جهة طلب الهداية في آيتين أو ثلاث من آياتها السبع.

۲- وأما من حيث المضمون (وهي الجامعية لما ينبغي أن تتضمنه السورة الأولى): فلأن سورة الحمد تخلو عن أية إشارة إلى الدعوة كالتي جاءت في سورة العلق، كما إنها لم تشتمل على ذكر السلوك الصحيح، وهو عبادة الله سبحانه (بالصلاة، والتقوى)، الأمر الذي اشتملت عليه سورة العلق كما ذكرنا سابقاً، فراجع.

وأما من حيث الأسلوب: وهو أمر حساس للغاية، فهي لا تلائم التدرج في تبليغ الدين في بداياته، وذلك بالنظر إلى مضمونها من عدة جهات:

١- أنها بادرت إلى التصريح بأن الله تعالى (ربّ العالمين) جميعاً، وهذا يعتبر مرحلة متقدمة بالقياس إلى لسان سورة العلق، وهي أنه تعالى رب النبي (ص) من غير تعرض صريح للتعميم.

٢- أنها جاءت بلغة الجماعة: (إيّاكَ نَعبُدُ وإيّاكَ نَستَعينُ) وهي تلائم مرحلة متقدمة من الرسالة بالقياس الى ما جاء في سورة العلق من النظر إلى شخص النبي (ص): (اقرأ، ربّك، لا تطعه، اسجد).

٣- أنها ذكرت المؤمنين بالله تعالى من قبل: (صِرَاطَ الّذينَ أنعَمتَ عَلَيهِم...)، وهذا أيضاً قد يلائم مرحلة متقدمة من الدعوة، لأن فيه إشارة إلى الأنبياء الموحدين وأتباعهم.

عدم ملاءمة سورة المدثر لتكون السورة الأولى:

بيان ذلك: أن أولية هذه السورة وإن كانت تناسب بعض الشيء ما جاء فيها من أمر النبي (ص) بالقيام والإنذار وهجر الرجز (وهو فيما قيل الأصنام)، إلا أن جملة فيها مما لا يناسب ذلك:

منها: طول السورة والإطناب في مقاصدها، حيث تتألف من (٥٦) آية، وفيها آية طويلة تعادل ۱۳ آية من آياتها الأخرى، مما لا يلائم بداية الإعلان عن بعثته (ص) إلى قومه، بالقياس مع سورة العلق التي لا تزيد على (۱۹) آية قصيرة.

ومنها: أنه قد وُصف فيها حال أحد الكفار وصفاً مشبهاً بقوله: ( ذَرني وَمَنْ خَلَقتُ وَحِيدًا)، وجاء فيه أنه عرض علیه آيات القرآن فعاند وقال: (فَقَالَ إن هذا إلا سِحرٌ يُؤثَر إن هذا إلا قَولُ البَشَر) وقد جاء في أخبار السيرة أن الرجل هو الوليد بن المغيرة من کبار کفار قریش، فيُعلم منه سبق
نزول القرآن وعرضه.

ومنها: أنها مليئة بالدلالة على سبق إنذار الكفار وثباتهم على الكفر، کما في الأمر بالصبر في قوله تعالى: (وَلِرَبّكَ فَاصبِر)، وكما في قوله سبحانه:(فَذلِكَ يَومَئِذٍ يَومٌ عَسِيرٌ عَلَى الكَافِرِينَ غَيرُ يَسِير)، وعدة آيات في حق المتقين، وغيرها في الآيات (٤٠-٤٦) و(٥٠-٥٢).

ومنها: أن فيها تعرض لإقناع أهل الكتاب لمطابقة عدد زبانية النار مع ما جاء في كتابهم، وهو ما يزيد المؤمنين إيماناً لعدم سبق علم النبي (ص) بالكتاب، كما قال تعالى: (عَلَيهَا تِسعَةَ عَشَرَ وَمَا جَعَلنَا أصحَابَ النّارِ إلا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلنَا عِدّتَهُم إلا فِتنَةً لِلّذِينَ كَفَرُوا لِيَستَيقِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ وَيَزدَادَ الّذينَ آمَنُوا إيمَانًا....)، ولم يكن في مخاطبي النبي (ص) في العهد المكي من هو من أهل الكتاب.

وقد يقال: إنّ هذا المعنى يقتضي كون السورة مدنية، لأن النبي (ص) إنما التقى أهل الكتاب وحاجهم فيها.

والجواب: أن الأمر يبدو كذلك، لكن يُحتمل النظر إلى إقناع أهل الكتاب في العهد المكي لاحقاً من جهة وجود من آمن به من أهلها منذ بيعة العقبة واطلاعهم على ما ينزل في حجهم إلى البيت، وقد بعث (ص) بعض أصحابه كمصعب بن عمير لتعليمهم القرآن، فلعل المؤمنين به في المدينة كانوا يحاجون أهل الكتاب.

وأما ما جاء في أول السورة من الأمر بالقيام فلا يتعين أن يكون في بداية البعثة، بل يجوز أن يكون من جهة طروّ فتور في الإنذار بحسب طبيعة الظروف المحيطة بالنبي (ص)، وهو يلائم ما جاء عن جابر من نزول هذه السورة بعد فترة من انقطاع الوحي.

ومنها: أن لغة السورة عموماً تمثل مرحلة متقدمة من الدعوة بالمقارنة مع سورة العلق، ففي سورة العلق مثلا وقع الاهتمام بإثبات الربوبية على أساس أن الرب هو الخالق، وجاء التذكير بلسان ليّن، لم يتعرّض صراحةً للأصنام؟ وأما المدّثّر فأخذت ربوبية الله سبحانه مفروغاً عنها، وقد أمر بتكبيره، وجاء التذكير شديداً بعنوان (أنذر)، وجاء ذكر الأصنام بعنوان شديد وهو الزجر وقد فُسّر بالرجس، ولذلك كله يستبعد كونها السورة الأولى.

المصادر/
١- محاضرات السيد محمد باقر السيستاني في تفسير القرآن.

الباحث المحقق @Albaaheth
أخترنا لك
أبعاد الروح الإنسانية ومعنى الفطرة

(ملف)عاشوراء : انتصار الدم على السيف