التفسير (٣)
ذكرنا أن الشاهد الأول على أوّليّة العلق هو النقل الإجمالي.
والشاهد الثاني: أن مضمون سورة العلق يمثل حالة
فريدة في الملاءمة مع كونها أول سورة نزلت من القرآن الكريم من عدة
جهات:
أولاً: أن هذه السورة هي السورة الوحيدة التي ورد
فيها الأمر بـ (اقرأ)، وهذا يلائم أن يكون أول أمر للنبي بالقراءة؛
لأن المفهوم منها أن المنظور بالقراءة ليس القراءة لنفسه، بل
إعلاناً للمشركين ضمناً بأنه مأمور بقراءة ذلك، كما أن الأمر بـ
(قُل) في مثل القلاقل الأربعة وغيرها أُريد به أن يكون إعلاناً
للمشركين بأنه مأمور بهذا القول من قبل الله سبحانه وتعالى، ولم يرد
به محض أن يقول (ص) ذلك في سرّه لنفسه، فالأمر بالقراءة يناسب أن
يكون في بداية نزول القرآن الكريم، فهو علامة راجحة على ذلك.
ثانياً: أن في هذه السورة ما يدل على نهي النبي
(ص) عن الصلاة والسجود من قبل أحد المشركين بقوله تعالى:
(أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَىٰ عَبْدًا إِذَا صَلَّىٰ)، وهذه حالة
فريدة حُکيت في القرآن الكريم، وما يُحكى غالباً في القرآن الكريم
منذ أوائل السور المكية عن المشركين هو تكذيب الرسول (ص) دون التعرض
لعمله الشخصي، كما جاء حكاية ذلك في سورة القلم والمدّثّر
والمزّمّل،
كما تضمنت السورة حماية أكيدة للنبي (ص) فيما یمارسه من الصلاة -
ولو بطریق خارق - في حال عدم انتهاء الناهي عن غيّه، بقوله تعالى:
(كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ) وهذا
أيضا يلائم أن يكون في أوائل جهره (ص) بعبادة الله تعالى وحده، ولم
يرد مثل ذلك في سورة أخرى، وتلك علامة أخرى راجحة على كونها السورة
الأولى.
وثالثا: أن هذه السورة هي سورة مناسبة في إيجازها
ومضمونها وأسلوبها لتكون أول السور نزولا.
أما من حيث الإيجاز: فلأنّ السورة الأولى يتوقع أن
تكون موجزة وغير طويلة، لأن ذلك هو الأكثر ملاءمة لبداية الإبلاغ
بهذا الأمر الخطير، وهذه السورة موجزة، وهي أقصر جدا من سورة القلم
والمزمل والمدثر التي عُدّت على الترتيب المشهور السور الثانية
والثالثة والرابعة في ترتيب النزول، نعم يشاركها في هذه الميزة سائر
السور القصار؛ لكنها تخلو عن سائر مميزات هذه السور.
وأما من حيث مضمونها، فبالنظر الى أمرين:
الأمر الأول: أنها تتضمن الأصول الثلاثة للدين،
وهي:
أ- وجود الله الواحد - من خلال ما جاء فيها من إثبات كون الخالق
تعالی هو الرب للنبي (ص) - وهو يشير إلى كونه رباً للإنسان مطلقا
-.
ب - إثبات اليوم الآخر، وذلك من خلال ما جاء فيها من أن: (إِنَّ
إِلَىٰ رَبِّكَ الرُّجْعَىٰ) ، ولم يتعرض فيها لتفاصيل اليوم الآخر
من الجنة والنار وأوصافهما، کما جاء في سور أخرى.
ج- إثبات الرسالة، وذلك،
١- من خلال أمر النبي (ص) بقراءة الوحي الذي ينزل عليه؛ إذ المراد
بها قراءته کرسالة من الله سبحانه.
٢- أن في ذكر التعليم بالقلم إشارة إلى تعليمه تعالى الخلق بالكتب
الإلهية.
٣- أنه مما يدل في السورة على كونه (ص) في مقام الدعوة بقوله:
(كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَىٰ أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَىٰ)،
حيث إن المراد أنه لا يؤمن ولا يتعلم ما يبلغه من العلم الإلهي
طغياناً، وقوله: (أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَىٰ أَوْ
أَمَرَ بِالتَّقْوَىٰ)، وفي الأمر بالتقوى دلالة على الدعوة.
الأمر الثاني: أنها تخلو عن أي تفصيل آخر للدين في
أصوله أو فروعه، حتى إنه لا يشتمل على ذكر الزكاة وما بمعناها من
الإطعام والإنفاق.
وعليه: فإن مضمون هذه السورة مضمون جامع ومناسب، وهي بذلك أنسب من
كثير من السور القصار، فإن كثيراً منها خصصت بإثبات يوم القيامة،
ومنها ما تعرضت لموضوع خاص مثل الاستعاذة، أو لخصوص التوحيد،
كالتوحيد الكافرون، ولم يشتملا على ذكر يوم القيامة، وهو أمر ضروري
يذكر في أول الوحي عادة، كما جاء في أول وحي الى النبي موسى (طه
١٥)، وقد جاء مكرراً في القرآن الكريم في ذكر رسالات رسل آخرين
الإنباء عن اليوم الآخر ولو بعنوان الإنذار بعذاب يوم عظيم.
۱ - أما أصل التوحيد: فقد جاء فيه إثبات ربوبية الله تعالى - والتي هي إشارة واضحة إلى إبطال ربوبية الشركاء الذين كانوا يعتقد بهم المشركون - بلسان لين، وهو أنه رب النبي (ص)، فلم يوجه الخطاب لهم مباشرة، نعم، جاء فيه لغة شديدة في: (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَىٰ أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَىٰ)، ولكنه ليس موجّهاً إليهم مباشرة بل توصیف عام.
٢- وأما أصل القيامة: فلم يستخدم لسان التهديد الصريح، بل اقتصر على ذكر: (إِنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الرُّجْعَىٰ).
٣- وأما أصل الرسالة: فلأنه عندما نهى أحدهم النبي (ص) عن الصلاة كتعبير عن رفض الرسالة وتعاليمها جاءت المعالجة أيضا لينة، فقال تعالى:
(أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَىٰ أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَىٰ)، ومفاده: ألا يحتمل هذا الناهي أن يكون فعل النبي (ص) راشداً مطابقاً مع الهدى موافقاً مع التقوى.
٤- وأما في بيان السلوك السليم في الدين من الصلاة والتقوى: فالملاحظ أنها لم تأمرهم بالصلاة، بل اقتصرت على ذكر الصلاة بعنوان الدفاع عن صلاة النبي (ص)، واقتصرت على ذكر الأمر بالتقوى لأنها أمر فطري، ومع ذلك لم يكن عرض ذلك بلسان البتّ والقطع بل في سياق (أرأيت).
فالسورة بمنطوقها تبين الاعتقاد الذي على النبي (ص) أن يعتقد به، ولم تخاطب الكفار مباشرة، فهي تلائم أن تكون من أوائل ما نزل.
المصدر/
١- محاضرات السيد محمد باقر السيستاني في تفسير القرآن
الباحث المحقق