(من كتاب له عليه السلام إلى المنذر بن الجارود العبدي) (وقد خان في بعض ما ولاه من أعماله)

2020/01/11

عائد الغانمي
أما بعد.... فإن صلاح أبيك غرني منك، وظننت أنك تتبع هديه وتسلك سبيله ، فإذا أنت فيما رقي إلي عنك لا تدع لهواك انقيادا، ولا تبقي لآخرتك عتادا ، تعمر دنياك بخراب آخرتك، وتصل عشيرتك بقطيعة دينك. ولئن كان ما بلغني عنك حقا لجمل أهلك وشسع نعلك خير منك . ومن كان بصفتك فليس بأهل أن يسد به ثغر، أو ينفذ به أمر، أو يعلى له قدر أو يشرك في أمانة،
أو يؤمن على خيانة فأقبل إلي حين يصل إليك كتابي هذا إن شاء الله (والمنذر هذا هو الذي قال فيه أمير المؤمنين عليه السلام:
" إنه لنظار في عطفيه مختال في برديه

اولا :- حرص السيد الشريف الرضي قدس سره على ان يقوم بجمع نهج البلاغة كخطب ورسائل وكتب وكلمات قصار وكان جل همه ان يوصل ولو شيئا بسيطا من تراث امير المؤمنين (عليه السلام) الغزير في المعاني والبلاغة والفصاحة وجزالة اللفظ .

ثانيا :- بعد ان جاءت السلطة الزمنية لامير المؤمنين (عليه السلام )، بعد ان كان مشهد الامة الاسلامية قد مرة بفترة انقلاب كبيرة ادت الى بث الخراب في كل ارجاء الحياة الاجتماعية انذاك على المستوى الديني ،والسياسي والاجتماعي، والاقتصادي، بل وحتى على مستوى التشويه للبيانات الألهية القرانية، واحاديث النبي الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم ) ،ومحاولة طمسها ، و بعد كل ما جرى اخيرا اظطر المسلمون ان يتجمعوا ويطالبوا الامام علي (عليه السلام ) ليستلم زمام امورهم بحيث ان الامام عبر عما جرى ان الناس اجتمعوا عليه ليبايعوه حتى كاد ان يوطأ الحسنان (عليهما السلام ) ،وحصل ما حصل وتولى امير المؤمنين عليه السلام زمام الامور ولكنه اعلنها بقولهما فحواه :- ( ان امرتكم هذه لا تساوي عندي عفطة عنز الا ان اقيم حقا او ادفع باطلا) .

ثالثاً :- بعد هذه المقدمة ادخل في تحليل وشرح هذا الكتاب الذي ارسله الامام الى واليه على اصطخر التي هي بلدة في بلاد فارس كما ذكر الشراح ذلك ، وكان قد خان ذاك الوالي وهو المنذر بن الجارود العبدي ، ويعتبر هذا الكتاب شديد اللهجة وفيه اجراء عملي للقضاء على من يخون الامانة ويفسد في الدولة ، والكتاب من عنونة السيد الشريف (رحمه الله) يظهر منه ان خيانة في البين قد حصلت من ذاك الوالي .

رابعا :- الامام ع افتتح كتابه بعد قوله اما بعد انه (ع) قد غره بالمنذر صلاح ابيه ظنا منه ان التربية في بيت ذلك الاب الصالح قد اخذت مأخذها منه ، لكنه للاسف خيب ظن المولى امير المؤمنين (عليه السلام) فيه.
ثم تحول امير المؤمنين (ع) الى ان يبين للمنذر كيف انه خان الامانة ، ولكنه (ع) كان دقيقا فهو كتب له انه ( فاذا انت فيما فيما رقي الي عنك ) اي فيما رفع وتنهى الي عنك ، ويظهر ان الامام (ع) كان قد جعل عيونا امناء على ولاته ، وهذا درس لكل من تسنم منصبا ما عليه متابعة معيته ومن كانوا تحت امرته ان يراقب سلوكهم كي يقوموا بما انيطت بهم على خير وجه ؛ لان من امن العقوبة اساء الادب ، ثم بين مكامن الخطأ في سلوكه في الرعية بكلمات تحمل في طياتها معاني تحمل حال الحكيم المصلح الذي يحلل نفسية الناس ويخبر ما هم علية من ظواهر وبواطن .
فكتب له الامام (ع) انك يا منذر (لاتدع لهواك انقيادا ) اي انك كان هواك سائقك وقائدك ولم يكن يتحكم فيك عقلك وما تمليه عليك المسؤلية .
وانك( لاتبقي لآخرتك عتادا ) اي كنت قد استنفذت كل ما لديك من عتاد وذخيرة تدخرها لآخرتك وكنت جاهدا في سعيك ولهثك وراء دنياءً زائلة ،ولم تبقي ذخيرة لماهو باقٍ ، وهنا استخدم المولى ابي الحسن (عليه السلام) اسلوباً بلاغيا رائعاً وهو اسلوب الاستعارة ، اذ انه (ع) استعار العتاد الذي هو الذخيرة التي يرمى بها على الهدف للاعمال الحسنة التي لابد ان يبقيها الانسان لآخرته ، ولم ُيقدم على استنفاذها وتبديلها بقباح الاعمال ورذائلها .
وانك ( تعمر دنياك بخراب آخرتك ) واقدمت على اعمار دنياك ودفعت لذلك ثمنا كبيرا لا يمكن ان ُيقدر بثمن اطلاقا .
ثم انتقل الامام قائلاً (و تصل عشريتك بقطيعة دينك ) وما اروع هذه الاستعارة التي انتقل اليها (ع) ، اي انك قد اقدمت على وصل عشريتك واقربيك ومقوي نفوذك وحزبك واهل مصالحك ، ونسيت وغرك ذلك ، وكان على حساب قطيعة دينك ومقدساتك ومبادئك وقيمك ، وما فيه نفعك دنياً وآخرة .
ثم ختم الامام (ع ) كلامه بتوبيخ وتحقير يليق بذاك الوالي ومن كان على شاكلته ممن انيطت لهم مسؤؤلية فخانوا وطغوا وظلموا انفسهم ، ومن ولوا عليه ، قائلاً :- ( ولئن كان ما بلغني عنك حقا لجمل أهلك وشسع نعلك خير منك . ومن كان بصفتك فليس بأهل أن يسد به ثغر، أو ينفذ به أمر، أو يعلى له قدر أو يشرك في أمانة)
وهنا يبين المولى ابي الحسن (ع) فداحة خيانة المسؤولية الى الحد الذي يقول له ولكل من خان وافسد وقدم مصالحه الضيقة وانقاد لهواه ، ان الجمل الذي يستخدمه اهلك وشسع نعلك وسيره خير منك فأن فيها النفع ولا نفع فيك ، وانت ومن كان بصفتك ليس باهل ان يقف ويدافع عن بلده من الاعداء في الثغور والسواتر التي يحاول الاعداء الغزو والنفوذ الى البلد من خلالها ، وليس باهل ان ينفذ بك ومن على صفتك امر او يعلى له قدر او يشركه قائده في امانة يستأمنه عليها .
وهنا الامام (ع ) يبين ان الخونة والمفسدون وسراق مال المسلمين لايؤمن جانبهم وهم ليسوا باهل ان ينفذ بهم امر اويشركوا بامانة لانهم خانوا والخائن لا يمكن ان ُيركن الى جانبه ، وما اعظم ابي الحسن علي (عليه السلام ) وهو يظمن كتبه هذه المواعظ التي لو اعتبر بها المعتبرون لكانت اعظم الدروس التي تسموا بها النفوس ، وتعلوا بها البلدان ، ويعمُ بها العدل وتطمئن بها الناس ، فسلام عليك يا ابا الحسن يوم ولدت ، ويوم توليت امور المسلمين فقلت لو خرجت من الدنيا بغير قطيفتي هذه فأنا خائن ، ويوم استشهدت ففزت فوزا عظيما .
أخترنا لك
العنف والطغيان وانعكاساته على سلوك النبي الخاتم محمد( صلى الله عليه وسلم)

(ملف)عاشوراء : انتصار الدم على السيف