الصوم وآثاره المادية والمعنوية في النفس الانسانية
قال تعالى في كتابه الكريم: -
بسم الله الرحمن الرحيم
((يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيۡكُمُ ٱلصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ ١٨٣ أَيَّامٗا مَّعۡدُودَٰتٖۚ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٖ فَعِدَّةٞ مِّنۡ أَيَّامٍ أُخَرَۚ وَعَلَى ٱلَّذِينَ يُطِيقُونَهُۥ فِدۡيَةٞ طَعَامُ مِسۡكِينٖۖ فَمَن تَطَوَّعَ خَيۡرٗا فَهُوَ خَيۡرٞ لَّهُۥۚ وَأَن تَصُومُواْ خَيۡرٞ لَّكُمۡ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ ١٨٤ شَهۡرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ فِيهِ ٱلۡقُرۡءَانُ هُدٗى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَٰتٖ مِّنَ ٱلۡهُدَىٰ وَٱلۡفُرۡقَانِۚ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ ٱلشَّهۡرَ فَلۡيَصُمۡهُۖ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٖ فَعِدَّةٞ مِّنۡ أَيَّامٍ أُخَرَۗ يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلۡيُسۡرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ ٱلۡعُسۡرَ وَلِتُكۡمِلُواْ ٱلۡعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَىٰكُمۡ وَلَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ ١٨٥ ))
سورة البقرة
مقدمة
إنّ طرح اي موضوع سواء كان موضوعا يتعلق بالعقيدة ،او يتعلق
بالاحكام والجانب التشريعي ، او يتعلق بالموضوع الاجتماعي، وهكذا في
غيرها من الجوانب الاخرى
يختلف طرحة باختلاف الاساليب ومن خلال الاسلوب يمكن ان يتقبل
الموضوع ويحصل تفاعل معه، اولا
حتى في اجواء الاسرة يجري هذا الامر ، فمرة يطرح الموضوع هكذا
بدون اسلوب يُبين فيه المغزى والهدف واخرى يطرح الموضوع ويُبين فيه
الهدف والمغزى من طرحة ، فمن الطبيعي ان الاسلوب الاكثر تاثير في
النفوس هو الطرح الثاني .
وفي هذا الخطاب القرآني العالي المضامين والغايات والاهداف ممكن ان نُجمل فيه ما ياتي :-
١- هذه الآيات الشريفات تناولت أحكام واحدة من أهم العبادات،
وهي عبادة الصوم، وباسلوب غاية في الدقة والمتانة، وبلهجة
مفعمة بالتأكيد قالت الآية:
(يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من
قبلكم)
"ثم تذكر الآية مباشرة فلسفة هذه العبادة التربوية، في عبارة
قليلة الألفاظ، عميقة المحتوى، وتقول: لعلكم تتقون ، باشارة الى
الهدف المرجو من الصوم
وهو انه يصنع بالارواح بان يجعلها مستعدة لكل زرع خير فيها ،
مثل الارض التي تهيئ للزرع .
فالصوم عامل فعال لتربية روح التقوى في جميع المجالات
والأبعاد.
لما كانت هذه العبادة مقرونة بمعاناة وصبر على ترك اللذائذ
المادية، وخاصة في فصل الصيف
يعبرالإمام الصادق (عليه السلام ) عن كلام الله في هذه الايات يقول: لذة ما في النداء - أي يا أيها الذين آمنوا - أزال تعب العبادة والعناء " (١)
٢- ثم ان الله سبحانه طرح موضوع الصوم في هذه الايات بأساليب
متنوعة ليهئ روح الإنسان لقبول هذا الحكم.
خصوصا وان هذه الفريضة ليست مخصوصة بالإسلام
والمسلمين
بل حتى الامم الاخرى قال تعال:- ( يا ايها الذين امنوا كتب
عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون )
اذ يظهر من النصوص الموجودة في التوراة والإنجيل، أن الصوم
كان موجودا بين اليهود والنصارى، وكانت الأمم الأخرى تصوم في
أحزانها ومآسيها، فقد ورد
في " قاموس الكتاب المقدس ": " الصوم بشكل عام وفي جميع
الأوقات كان متداولا في أوقات الأحزان والنوائب بين جميع الطوائف
والملل والمذاهب " .
ويظهر من التوراة أن موسى (عليه السلام) صام أربعين يوما، فقد
جاء فيها: " أقمت في الجبل أربعين نهارا وأربعين ليلة لا آكل خبزا
ولا أشرب ماء " (٢).
وكان اليهود يصومون لدى التوبة والتضرع إلى الله: " اليهود
كانوا يصومون غالبا حينما تتاح لهم الفرصة للإعراب عن عجزهم
وتواضعهم أمام الله، ليعترفوا بذنوبهم عن طريق الصوم والتوبة،
وليحصلوا على رضا حضرة القدس الإلهي "
٣- امتياز شهر رمضان
هذا الشهر - إنما اختير شهرا للصوم - لأنه يمتاز عن بقية
الشهور. والقرآن الكريم بين مزية هذا الشهر في الآية الكريمة بأنه
الذي أنزل فيه القرآن أي القرآن الذي يفصل الصالح عن الطالح ويضمن
سعادة البشرية. وفي الروايات الإسلامية أن كل الكتب السماوية: "
التوراة " و " الإنجيل " و " الزبور " و " الصحف " و " القرآن "
نزلت في هذا الشهر . فهو إذن شهر تربية وتعليم، لأن التربية غير
ممكنة دون تعليم صحيح، ومنهج الصوم التربوي يجب أن يكون مرافقا لوعي
عميق منطلق من تعاليم السماء لتطهير الإنسان من كل أثم.
في آخر جمعة من شهر شعبان، ألقى رسول الله (صلى الله عليه
وآله وسلم) خطبة أعد فيها المسلمين لاستقبال شهر رمضان المبارك قال
فيها:
" أيها الناس إنه قد أقبل إليكم شهر الله بالبركة والرحمة
والمغفرة، شهر هو عند الله أفضل الشهور، وأيامه أفضل الأيام،
ولياليه أفضل الليالي، وساعاته أفضل الساعات، هو شهر دعيتم فيه إلى
ضيافة الله، وجعلتم فيه من أهل كرامة الله. أنفاسكم فيه تسبيح،
ونومكم فيه عبادة، وعملكم فيه مقبول، ودعاؤكم فيه مستجاب فاسألوا
الله ربكم بنيات صادقة، وقلوب طاهرة أن يوفقكم لصيامه وتلاوة كتابه،
فإن الشقي من حرم غفران الله في هذا الشهر العظيم، واذكروا بجوعكم
وعطشكم فيه جوع يوم القيامة وعطشه، وتصدقوا على فقرائكم ومساكينكم،
ووقروا كباركم، وارحموا صغاركم، وصلوا أرحامكم، واحفظوا ألسنتكم،
وغضوا عما لا يحل النظر إليه أبصاركم، وعما لا يحل الاستماع إليه
أسماعكم، وتحننوا على أيتام الناس يتحنن على أيتامكم... " .
٤- الآثار التربوية والاجتماعية والصحية للصوم للصوم أبعاد
متعددة وآثار غزيرة مادية ومعنوية في وجود الإنسان، وأهمها البعد
الأخلاقي، التربوي.
من فوائد الصوم الهامة " تلطيف " روح الإنسان، و " تقوية "
إرادته، و " تعديل " غرائزه.
على الصائم أن يكف عن الطعام والشراب على الرغم من جوعه
وعطشه، وهكذا عليه أن يكف عن ممارسة الاعمال الاخرى التي فيها شهوات
ولذائذ، ليثبت عمليا أنه ليس بالحيوان الأسير بين المعلف والمضجع،
وأنه يستطيع أن يسيطر على نفسه الجامحة وعلى أهوائه
وشهواته.
اذ ان الأثر الروحي والمعنوي للصوم يشكل أعظم جانب من فلسفة
هذه العبادة.
مثل الإنسان الذي يعيش إلى جوار أنواع الأطعمة والأشربة، لا
يكاد يحس بجوع أو عطش حتى يمد يده إلى ما لذ وطاب كمثل شجرة تعيش
إلى جوار نهر وفير المياه، ما إن ينقطع عنها الماء يوما حتى تذبل
وتصفر.
أما الأشجار التي تنبت بين الصخور وفي الصحاري المقفرة،
وتتعرض منذ أوائل إنباتها إلى الرياح العاتية، وحرارة الشمس المحرقة
حينا، وبرودة الجو القارصة حينا آخر، وتواجه دائما أنواع التحديات،
فإنها أشجار قوية صلبة مقاومة.
والصوم له مثل هذا الأثر في نفس الإنسان، فبهذه القيود
المؤقتة يمنحه القدرة وقوة الإرادة وعزيمة الكفاح، كما يبعث في نفسه
النور والصفاء بعد أن يسيطر على غرائزه
٥- وبعبارة موجزة: الصوم يرفع الإنسان من عالم البهيمية إلى
عالم الملائكة وعبارة لعلكم تتقون تشير إلى هذه الحقائق.
وهكذا الحديث المعروف: " الصوم جنة من النار " (٣) يشير إلى
هذه الحقائق.
وعن علي (عليه السلام) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) أنه سئل عن طريق مجابهة الشيطان، قال:
" الصوم يسود وجهه، والصدقة تكسر ظهره، والحب في الله
والمواظبة على العمل الصالح يقطع دابره، والاستغفار يقطع وتينه "
.
وفي نهج البلاغة عرض لفلسفة العبادات، وفيه يقول أمير
المؤمنين علي (عليه السلام):
" والصيام ابتلاء لإخلاص الخلق "
فلئن كانت الصلاة أبرز ألوان العبادة ، وتتصدر النهج الذي
يتعامل به العبد مع ربه تعالى في حياته اليومية ، فان الصيام ايضا
لايقل أهمية عن الصلاة ، ولا اقل درجة في اعطاء اسمى المعاني وافضل
النتائج للحياة .
وروي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " إن للجنة
بابا يدعى الريان، لا يدخل فيها إلا الصائمون ".
يقول المرحوم الصدوق في " معاني الأخبار " معلقا على هذا
الحديث: إنما سمي هذا الباب بالريان لأن مشقة الصائم إنما تكون في
الأغلب من العطش، وعند ما يدخل الصائمون من هذا الباب يرتوون حتى لا
يظمأوا بعده أبدا .
كتابة واعداد الشيخ عائد الغانمي
.........................
(١) الامثل في تفسير القرآن ج١ ٥١٨
(٢) التوراة سفر التثنية الفصل ٩ : الرقم ٩
(٣) من لايحضره الفقيه ج٢ : ٧٤