الصدق العلمي والمنهج العقلي في حياة الامام الصادق (عليه السلام
)
قال الشيخ المفيد (قدس ) في الإرشاد: كان الامام الصادق (عليه
السلام)
يقول:
عِلمُنا غابر ومزبور ونكتٌ في القلوب ونقر في الأسماع، وأن عندنا
الجفر الأحمر، والجفر الأبيض، ومصحف فاطمة، عليها السلام. وأن عندنا
الجامعة فيها جميع ما يحتاج الناس إليه. فسئل عن تفسير هذا الكلام
فقال: أما الغابر فالعلم بما يكون، وأما المزبور فالعلم بما كان، وأما
النكت في القلوب فهو الالهام، وأما النقر في الأسماع فهو حديث
الملائكة، عليهم السلام، نسمع كلامهم ولا نرى أشخاصهم، وأما الجفر
الأحمر فوعاء فيه سلاح رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ولن يخرج حتى
يقوم قائمنا، أهل البيت، وأما الجفر الأبيض فوعاء فيه توراة موسى
وإنجيل عيسى وزبور داود وكتبِ الله الأولى، وأما مصحف فاطمة عليها
السلام ففيه ما يكون من حادث، وأسماء كل من يملك إلى أن تقوم الساعة،
وأما الجامعة فهو كتاب طوله سبعون ذراعا أملاه رسول الله، (ص)، من فلق
فيه وخطه علي بن أبي طالب، صلوات الله عليه، بيده، فيه والله جميع ما
يحتاج الناس إليه إلى يوم القيامة حتى أن فيه أرش الخدش والجلدة ونصف
الجلدة.
١-الإمام جعفر الصادق نتاج قرن كامل من العظماء. يحني لهم الوجود
البشري هاماته. ويدين بحضاراته.
وعلى رأس هولاء العظماء نبي الإسلام العظيم( ص) وفيها بطولات الإمام
علي (ع)إلى جوار النبي الكريم ، والسيدة الزهراء (ع) والحسن والحسين
وزين العابدين علي بن الحسين وباقر العلم (عليهم الصلات والسلام
اجمعين ) ، وهؤلاء الذوات الطاهرة قد زقوا العلم زقا ، فحركتهم
الرسالية كانت تسير وفق علم وحكمة وتحت عين الله سبحانه ورعايته ، وقد
انجزوا ما يريد الله سبحانه وتعالى على يحب ويريد .
٢-والامام جعفر بن محمد الصادق ع سادس ائمة اهل البيت (ع) الذي استلم
مهام الامامة ومسولياتها الجسام ، كانت حركته الرسالية واسعة تناولات
كافة مهام الامامة
اذ ان الإمامة عندنا تعنى تحقيق المناهج الدينية بما في ذلك منهج
الحكم بالمعنى الواسع للحكومة، وإجراء الحدود وأحكام الله، وتطبيق
العدالة الاجتماعية، وتربية الأفراد في محتواهم الداخلي وفي سلوكهم
الخارجي. وهذه المنزلة أسمى من منزلة النبوة والرسالة ، لذلك طلبها
النبي ابراهيم الخليل من الله له ولذريته فكانت في ذريته محمدا (صلى
عليه وآله)
وآله الطاهرين (صلوات الله وسلامه عليهم اجمعين )
لأن منزلة النبوة والرسالة تقتصر على إبلاغ أوامر الله، والبشارة
والإنذار، أما الإمامة فتشمل مسؤوليات النبوة والرسالة إضافة إلى
" إجراء الأحكام " و " تربية النفوس ظاهريا وباطنيا " (من الواضح أن
كثيرا من الأنبياء كانوا يتمتعون بمنزلة الإمامة).
منزلة الإمامة هي في الحقيقة منزلة تحقيق أهداف الدين والهداية، أي "
الإيصال إلى المطلوب "، وليست هي " إراءة الطريق " فحسب.
ومضافا لما سبق فان الإمامة تتضمن أيضا على " الهداية التكوينية "، أي
النفوذ الروحي للإمام، وتأثيره على القلوب المستعدة للهداية المعنوية
(تأمل بدقة).
٣-الإمام في ذلك يشبه الشمس التي تبعث الحياة في النباتات، فكذلك دور
الامام في بعث الحياة الروحية والمعنوية في الكائنات الحية؟.
يقول سبحانه: (هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى
النور وكان بالمؤمنين رحيما )(١).
ومن هذه الآية نفهم بوضوح أن رحمة الله الخاصة والمعونة الغيبية
للملائكة بامكانها أن تخرج المؤمنين من الظلمات إلى النور.
هذا الموضوع يصدق على الإمام أيضا، فالقوة الروحية للإمام وللأنبياء
الحائزين على منزلة الإمامة وخلفائهم، لها التأثير العميق على تربية
الأفراد المؤهلين، وإخراجهم من ظلمات الجهل والضلالة إلى نور
الهداية.
لأنه يستفاد من آيات متعددة أن مفهوم " الإمامة " ينطوي على مفهوم "
الهداية "، كقوله تعالى: (وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا
وكانوا بآياتنا يوقنون) (٢).
.
٥- وهذا الحقيقة يوضحها بإجمال حديث عميق المعنى روي عن الإمام جعفر
بن محمد الصادق (عليه السلام) يقول:
" إن الله تبارك وتعالى اتخذ إبراهيم عبدا قبل أن يتخذه نبيا، وإن
الله اتخذه نبيا قبل أن يتخذه رسولا، وإن الله اتخذه رسولا قبل أن
يتخذه خليلا، وإن الله اتخذه خليلا قبل أن يجعله إماما، فلما جمع له
الأشياء، قال: إني جاعلك للناس إماما قال: فمن عظمها في عين إبراهيم
قال: ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين قال: لا يكون السفيه إمام
التقي "
٦- ولقد كان الإمام متفوقا في خلقه متفوقا في حسن معاملته للناس،
متفوقا في تصوير المثل الأعلى الأدبي لمن كان يطلب العلم في مجالسه،
أو يذهب مذهبه من أتباعه، أو يعجب به من هو على مذهب غيره من العلماء
والفقهاء، كما كان متفوقا في سعة إدراكه وغوصه على الحقائق العلمية
الفلسفية في عصره، متفوقا في مشاركته الشاملة التامة العميقة في كل
المعارف التي شاعت في عصره الذهبي.
لم يكن الإمام متخصصا في فرع من العلوم، أو ناهجا منهجا فلسفيا خاصا،
راغبا عن غيره أو جاهلا له. فلم يكن التخصص يومذاك من مذاهب كبار
العلماء وجهابذتهم.
العالم في القرون الهجرية الأولى هو معلمة عصره. يجد أتباعه عنده،
الأدب، والعلم بالأخبار، والإحاطة بالسنة النبوية، والاطلاع على
التفسير إلى جانب المعرفة بالمذاهب الفلسفية، والنكت العلمية، وخلاصة
الآراء في الطب، والرياضيات، والفلك، والكيمياء، كما يجدون عنده بصرا
بأسرار النحو والصرف والبيان، ورواية واسعة للغات القبائل العربية
ولهجاتها المختلفة. لقد كان العالم الجهبذ في أواخر العصر الأموي، وفي
القرون الأولى للعصر العباسي، مكتبة متنقلة تنطوي في أحشائها على كنوز
الإنسانية في كل ما ورثته من علوم الأولين، وما اكتسبته بعد ذلك
بتجاربها الخاصة.
وبما أن الإمام الصادق قد كان من ركام هذه المعارف في القمة، بل كان
الآية الأولى على حلول هذا العصر الذي أسمح لنفسي بتسميته، بالعصر
الإنساني، فقد رأيت واجبا علي أن أتحدث عن إنسانيته هذه، التي افتتح
بها العصر الذهبي لإنسانيات إسلامية كثيرة، تزين بها التراث الإسلامي
والعربي من بعده خلال القرون العباسية الأولى.
٧- وهكذا يتبين لنا بعد هذه المقدمات أن
الصدق العلمي
والمنهج العقلي في تمحيص الحقائق هما القاعدتان اللتان انطلق منهما
الإمام لإنشاء مدرسته العلمية، ومجابهة المشكلات التي تعترضه. بالحلول
التي يستوجبها من هاتين القاعدتين.
وبفضل هاتين القاعدتين ننعم نحن اليوم بتراث حضاري، هو من تراث
الإنسانية في مركز الصدارة. ولا يزال تراثنا هذا، قادرا على تزويدنا
بأسس نهضة جديدة، ومعاودة نشاطنا السابق في الاسهام بخدمة قضايا البشر
والتعرف إلى حقائق الطبيعة والإنسان.
أما الفروع العلمية
والفكرية التي شارك فيها الإمام فهي تلك التي عرفها عصره وتميزت بها
حضارة الإسلام في أواخر القرن الأول وأواسط القرن الثاني من الهجرة.
وهي:
الحكمة - علم الكلام - علم الطبيعيات والكيمياء - علم اللغة والنحو
والصرف - علم الحديث - علم الفقه - علم الأصول الخ... من الحقول
العلمية وحل المشكلات والشبهات التي تعرض للامة
عائد الغانمي